Bakenam
08-08-2009, 05:01 PM
الطرق الإحتيالية بالقانون المدني و الجنائي
الباحث القانوني : أحمد علي أحمد الصالح
معهد الدراسات القضائية والقانونية
الدفعه التاسعة
* المقدمة *
أم حسب الذين يعملون السيئات ان يسبقونا ساء ما يحكمون
سورة العنكبوت – آية 4
الإنسان يتطور, فيتغير نمط حياته وتتحور عاداته وتقاليده، والعلم يتطور و تتوسع مجالاته وتتزايد نتائجه, وكذلك الحياة تتطور فيسرها يتغير, وعسرها يتغير خيرها يتغير وشرها يتغير وهي من حكم الله عز وجل الذي يغير ولا يتغير، فنحن في كل مجال نتطور ونتغير ولكن للأسف هذا التطور يقع على كل شيئ في كل ما يفيد الإنسان وكل ما يضره
وهذا الموضوع كبير له تشعبات كثيرة ولا يتسع المقام لذكرها.
وفي بحثنا المتواضع نتطرق إلى الطرق الإحتيالية التي هي أيضا مشمولة بالتطور فأما بالأساليب أو الأفكار والتي تزيدها حيلة ودهاء بحيث تؤدي إلى هدفها المؤثم ولأهمية هذا الموضوع وتواجده في الحياة العملية ما حدا القوانين إلى تنظيم أحكام لهذه الطرق حتى تحد من خطرها على المجتمع وسوف نذكر في هذا البحث فكرة عن هذه الأمور عن الطرق الإحتيالية بشقيها المدني والجنائي
المبحث الأول
الطرق الإحتيالية بالقانون المدني
المطلب الأول
تعريف الطرق الإحتيالية في القانون المدني ((التدليس))
لما كان الأصل في التعامل بين الأفراد هو الثقة وحسن النية ,فإن المشرع قام بوضع قواعد تحمي هذه الصفة في التعامل ،حيث أن المشرع يرى الأمور من منظور عام فلا يستطيع أن يدخل في نفس كل شخص لمعرفة نيته ومدى إمكانية الثقة في التعامل معه وعليه فقد وضع هذه القواعد لتنظم كيفية حماية هذه الصفة، ومن هذه القواعد التدليس وهو المصطلح الذي يشمل معظم الطرق الإحتيالية في القانون المدني في المواد من 151 الى 155.
وهو يقع تحت مظلة عيوب الإرادة في المسؤولية التعاقدية وهناك العديد من التعاريف منها ((استعمال شخص وسائل إحتيالية لإيقاع من يريد التعاقد معه في غلط يدفعه إلى إبرام العقد)) ,
أو ((اتخاذ مسلك تدليسي بقصد تغرير المتعاقد وإيقاعه في غلط بقصد دفعه إلى التعاقد)) , ولو تعددت التعاريف لمعنى التدليس إلا أنها تدور حول فلك الغلط الذي يقع فيه شخص بسبب الطرق الإحتيالية التي تغيير وجه الحقيقة والواقع .
ولو تمعنا قليلاً في كل هذه التعاريف نرى أنه يوجد نشاط من قبل المدلس حتى يوقع ضحيته في الغلط ويجب معها توافر النية للتوصل لهذا الغلط ، وهذا النشاط له درجات فهو يختلف بإختلاف الأساليب , فمنها ما يصل من الجسامة إلى المسؤولية الجزائية مثل أن يتخذ إسما كاذبا أو صفه كاذبة أو إخفاء وخلق مستند غير صحيح أو الإيهام بوجود مشروع غير موجود وغيرها فهذه الأساليب تصل لحد نشوء جريمة النصب المذكورة بالقانون الجنائي فهي تؤدي الى مغالطة الشخص مما يحمله للوقوع في الغلط بسبب إيهامه وتغيير الحقيقة له ، ومن الأساليب أيضا التي لا تصل إلى مصاف الطرق الإحتيالية في جريمة النصب وهي الكذب التدليسي , فالكذب في حد ذاته لا يعد تدليسًا و إلا إذا زاد عن الحد المألوف في التعامل مما يحمل الشخص للتعاقد بسبب هذه المبالغة في الكذب ومثل ذلك أن يقوم البائع بمدح مبيعه و الإدعاء بمواصفات فيه وهي في الحقيقة ليست موجودة به أو نسب تصنيع المبيع إلى مصنع مشهود له بالجودة وهو في الحقيقة قطعة مقلدة فمن هذه الأمور تحمل الشخص إلى التعاقد.
وهذه الأساليب تختلف عن الترويج والدعاية المشروعة قانونا فالأخيرة تبين مواصفات المنتج وتبرزها أما المغالاة في المدح بطريقه تزيد عن الحد المألوف في التعامل فهذا ما يعد تدليسًا وذلك للأسباب المذكورة سابقا.
أيضا يعد من التدليس الكتمان وعدم الإفصاح في وضع يجب فيه التوضيح والبيان فهذه الصورة تعد نشاطًا سلبيًا يحول دون إظهار الحقيقة ويعتبر إخلالاً بواجب المصارحة وحسن النية التي يفرضها القانون في التعامل , فالصدق وحسن التعامل احد مقومات الصفة العامة في إبرام العقود ويظهر هذا النوع في العديد من أشكال التعاقد مثل عقود الشركات و التشارك و كذلك عقود الوكالات ويبرز في عقود التأمين حيث انه يجب على المؤمن له الإفصاح عن أي مرض أو عاهة مصاب بها و إلا كان العقد مهددًا بالإبطال.
ولو أن كل ما سبق يعد تدليسًا تضلل فيه الحقيقة و يشوهها ويغير من الواقع , إلا أنه يجب أن يقترن بالنية أو القصد لحمل الشخص المدلس عليه إلى التعاقد وهو يمثل الجزء المعنوي من هذه العملية أي أن المدلس الذي قام بهذه الأعمال الإحتيالية , و لم يكن له هذه النية مثل أن يقوم شخص بالمزاح مع صديق له أو أنه قام بهذه الأعمال دون أن يعلم فلا يكون هناك تدليس وذلك لانتفاء النية في هذه الأعمال , وأما إذا توافرت فإننا نكون هنا أمام التدليس الذي يعد عيب من عيوب الإرادة في التعاقد ويكون لمن دُلس عليه إبطال العقد وذلك لما شاب إرادته في التعاقد.
المطلب الثاني
شروط التدليـــــس
ذكرنا سابقا أنه يجب توافر الشق المادي والمعنوي لمن قام بالتدليس حتى تكون الأفعال التي ارتكبها تدليسًا, ولكن حتى لو قامت و اعتبرت هذه الأفعال تدليسًا فلا يجوز للشخص المُدلس عليه أن يطلب إبطال العقد إلا إذا توافرت شروط وهي ما سوف نذكره الآن فلو أنه لم تتوافر هذه الشروط فلا يستطيع المُدلس عليه أن يتمسك بالتدليس وهناك من قال أنهما شرطان وهناك من قال ثلاثة شروط ، وسوف نذكر الثلاثة شروط وهي أن يستخدم أحد الطرفين وسائل إحتيالية والشرط الثاني هو من شأن هذه الطرق الإحتيالية أن توقع المتعاقد الآخر في غلط أي أن هذه الأعمال هي السبب في إيقاع الغلط لدى المتعاقد الآخر والشرط الثالث هو أن يكون التدليس صادرًا أو مرتبطًا بأحد الأطراف المتعاقدة أو متصلا به و هنا نكون أمام التدليس الذي يمكن التمسك به لإبطال العقد لمن دُلس عليه وسوف نشرح كل شرط على حدة ليتم توضيح المعنى منه .
الشرط الأول : استخدام احد الطرفين وسائل احتيالية
وقد سبق بيان ما معناه وهو إظهار سلوك خارجي أو إتخاذ أعمال مادية تمثل الوسائل الإحتيالية , وهي تعد الشق المادي من التدليس بالنسبة للمدلس , ويجب أن تكون هذه الوسائل أعمالا ظاهرة حتى تصل إلى الطرف الأخر مثل انتحال صفة كاذبة أو وهمية أو اصطناع شهادات و مستندات مزورة بكاملها أو بجزء منها، وكذلك الكذب الذي يتعدى الحد المألوف في التعامل مثل قيام التاجر بالمغالاة بوصف بضاعته والادعاء بوجود مواصفات ليست بها أصلاً فقط لإيهام الناس ودفعهم لشراء البضاعة، وكذلك السكوت والكتمان أيضًا يعد أحد الوسائل الإحتيالية وذلك في موطن يجب فيه الإفصاح والبيان لما له من إخلال لمبدأ الثقة و واجب الصدق والصراحة.
الشرط الثاني : ان تكون هذه الطرق الاحتيالية سبب في ايقاع المتعاقد الاخر في الغلط الذي دفع الى التعاقد
أي أن تكون الطرق الإحتيالية هي السبب أو الدافع للإيقاع في غلط يدفعه إلى التعاقد ولولا هذه الطرق لما تم التعاقد وقد يقع الغلط في أشخاص العقد , مثل أن يكون رسامًا أو خطاطًا أو يكون الغلط بالقيمة مثل الأشياء النادرة أو الثمينة من التحف والآثار والأحجار الكريمة وغيرها مما يمكن أن يقوم الغلط في السبب أو الباعث , مثل أن يعتقد أنه حصل على شيئ بسبب الهبة ولن يتضح انه بيع وعليه يجب أن يدفع الثمن ، ففي الطرق الإحتيالية يوهم الشخص فيقع بالغلط الذي يدفعه للتعاقد وقد ينصب التدليس على العقد ككل أو على جزء منه ، وهنا حدث خلاف فقهي حيث يرى بعض الشراح أن هذا التدليس وقع على شيئ أساسي في العقد فإنه يجوز التمسك بالإبطال أما إذا كان قد وقع على شيئ ثانوي في العقد فلا يجوز إبطاله إنما يطلب التعويض عن الضرر ، وهناك من يرى انه يجوز التمسك بالإبطال دام التدليس كان له دور في التعاقد .
ونحن في رأينا المتواضع نؤيد الرأي الثاني ولكن مع الاختلاف في السبب وذلك أن مبدأ الشرف في التعامل و حسن النية والثقة يتوجب عنصر الصدق والمصارحة في العقد ولا يجوز تجزئة العقد على اعتبار إلزاميته لدى الطرفين.
والمعيار المتخذ هنا في هذا الشرط هو معيار الشخص العادي أي ليس بذلك الحذر الحريص على أمواله وليس بذلك الجاهل أو غير المتعلم , إنما الشخص العادي الذي يتصرف بوسطية وقد استقر القضاء على اعتبار الأمر من مسائل الواقع التي تختلف من واقعة لأخرى وتختلف من شخص لأخر و تركت لتقدير القاضي و لا يخضع لرقابة محكمة التمييز .
الشرط الثالث : أن يكون التدليس صادرًا من أحد طرفي التعاقد ويكون عالمًا به
أي أن يكون التدليس متصلأً بأحد المتعاقدين , فلو أن توافر استخدام الطرق الإحتيالية في التدليس وكان القصد منها إيقاع المتعاقد الآخر بالغلط لدفعه إلى التعاقد فان التدليس يجب ان يصدر من احد المتعاقدين أو أن يكون مرتبطًا به وليس الارتباط هنا أن يكون هذا الغير قد فعل الطرق الإحتيالية لمصلحة احد المتعاقدين فقط إنما يجب أن يصل العلم بذلك أي أن يقترن العلم مع الارتباط وقد ذكرت المادة 153 مدني من هم الغير((يلزم لإبطال العقد على أساس التدليس أن تكون الحيل قد صدرت من المتعاقد الآخر أو نائبه أو من احد أتباعه أو من وسطه في إبرام العقد أو ممن يبرم العقد لمصلحته)) فالارتباط هنا ليس بمعنى القرابة إنما صلتها بإبرام العقد أو مدى تأثير هذا الارتباط بالعقد مع علم المتعاقد الآخر بهذا التأثير, و قد ذكرت المادة عدة صفات مثل النائب أو التابع أو الوسيط وغيرها وبهذه الصفات قام المشرع بتغطية أي صفة ممكنة أن تؤثر على صحة إبرام العقد , وهذا النص من المادة رعى الإعتبارات العملية حيث انه لو صدر التدليس من أحد المتعاقدين لا نكون أمام مشكلة في توجيه التدليس لأن من أخطأ يتحمل خطأه ولكن لو لم يكن هذا النص موجودًا لكُنا رأينا في التعاقد حقلاً خصبًا للتدليس حيث أن المتعاقد المدلس يرفع عنه الحرج من ذلك التدليس لأنه صدر من الغير وهنالك الكثير من التعاقدات بل يمكن أن يكون أغلبها تتم عبر النائب أو التابع أو الوسيط أو أي شخص مرتبط بأحد المتعاقدين.
ويوجد استثناء على هذا الشرط وهو في عقود التبرعات حيث ان هذا الشرط يقع في عقود المعاوضات وعليه يجب إثبات أن التدليس مرتبط بأحد المتعاقدين حتى يتم التمسك بالإبطال على أساس التدليس , أما عقود التبرعات فيجوز إبطال التعاقد حتى لو لم يثبت أن التدليس مرتبط بأحد المتعاقدين على اعتبار أنها تعد من العقود الضارة ضررًا محضًا فالمتعاقد يتحمل التزام دون أن يتخذ أي حق له في التعاقد ونص على هذا الاستثناء في المادة 154مدني((استثناء مما تقضي به المادة السابقة يجوز في العقود التبرع طلب إبطال العقد إذا جاء الرضا نتيجة التدليس دون اعتبار لمن صدرت الحيل منه)).
هناك حالة وهي أن يصدر من الطرفين أي أن نكون أمام تدليس متبادل من احد أطراف العقد على الآخر ويكون الرضا بذلك مشوباً من جميع الأطراف فإذا تمسك أحد الأطراف بالتدليس حتى يبطل العقد فان المشرع منعه من ذلك في نص المادة 155((اذا لجأ كلٍ من المتعاقدين إلى التدليس على الآخر وجره بذلك إلى التعاقد إمتنع على أي منهما التمسك بإبطال العقد)) وذلك لإستقرارالتعاملات ، وفي رأيي أن هذا المنع هو عقوبة على المتعاقدين لقيامهم بهذه الأفعال المشينة وابتعدوا عن الأساس في التعامل وهو الثقة وحسن النية وحسناً فعل المشرع بذلك .
وبذلك نرى أن الطرق الإحتيالية في القانون المدني قد وضع لها العديد من القواعد لمكافحتها وحمايه التعاملات منها وتوسع القانون في تفسيرها وهي لا تقتصر على التدليس فقط ولكن التدليس هو أشمل قواعد نظمت ماهية الطرق الإحتيالية وذلك بعد شرح مبسط عنها و سنرى كم هي الطرق الإحتيالية في القانون المدني لها معنى كبير وواسع وذلك بعد شرح الطرق الإحتيالية في القانون الجنائي.
الباحث القانوني : أحمد علي أحمد الصالح
معهد الدراسات القضائية والقانونية
الدفعه التاسعة
* المقدمة *
أم حسب الذين يعملون السيئات ان يسبقونا ساء ما يحكمون
سورة العنكبوت – آية 4
الإنسان يتطور, فيتغير نمط حياته وتتحور عاداته وتقاليده، والعلم يتطور و تتوسع مجالاته وتتزايد نتائجه, وكذلك الحياة تتطور فيسرها يتغير, وعسرها يتغير خيرها يتغير وشرها يتغير وهي من حكم الله عز وجل الذي يغير ولا يتغير، فنحن في كل مجال نتطور ونتغير ولكن للأسف هذا التطور يقع على كل شيئ في كل ما يفيد الإنسان وكل ما يضره
وهذا الموضوع كبير له تشعبات كثيرة ولا يتسع المقام لذكرها.
وفي بحثنا المتواضع نتطرق إلى الطرق الإحتيالية التي هي أيضا مشمولة بالتطور فأما بالأساليب أو الأفكار والتي تزيدها حيلة ودهاء بحيث تؤدي إلى هدفها المؤثم ولأهمية هذا الموضوع وتواجده في الحياة العملية ما حدا القوانين إلى تنظيم أحكام لهذه الطرق حتى تحد من خطرها على المجتمع وسوف نذكر في هذا البحث فكرة عن هذه الأمور عن الطرق الإحتيالية بشقيها المدني والجنائي
المبحث الأول
الطرق الإحتيالية بالقانون المدني
المطلب الأول
تعريف الطرق الإحتيالية في القانون المدني ((التدليس))
لما كان الأصل في التعامل بين الأفراد هو الثقة وحسن النية ,فإن المشرع قام بوضع قواعد تحمي هذه الصفة في التعامل ،حيث أن المشرع يرى الأمور من منظور عام فلا يستطيع أن يدخل في نفس كل شخص لمعرفة نيته ومدى إمكانية الثقة في التعامل معه وعليه فقد وضع هذه القواعد لتنظم كيفية حماية هذه الصفة، ومن هذه القواعد التدليس وهو المصطلح الذي يشمل معظم الطرق الإحتيالية في القانون المدني في المواد من 151 الى 155.
وهو يقع تحت مظلة عيوب الإرادة في المسؤولية التعاقدية وهناك العديد من التعاريف منها ((استعمال شخص وسائل إحتيالية لإيقاع من يريد التعاقد معه في غلط يدفعه إلى إبرام العقد)) ,
أو ((اتخاذ مسلك تدليسي بقصد تغرير المتعاقد وإيقاعه في غلط بقصد دفعه إلى التعاقد)) , ولو تعددت التعاريف لمعنى التدليس إلا أنها تدور حول فلك الغلط الذي يقع فيه شخص بسبب الطرق الإحتيالية التي تغيير وجه الحقيقة والواقع .
ولو تمعنا قليلاً في كل هذه التعاريف نرى أنه يوجد نشاط من قبل المدلس حتى يوقع ضحيته في الغلط ويجب معها توافر النية للتوصل لهذا الغلط ، وهذا النشاط له درجات فهو يختلف بإختلاف الأساليب , فمنها ما يصل من الجسامة إلى المسؤولية الجزائية مثل أن يتخذ إسما كاذبا أو صفه كاذبة أو إخفاء وخلق مستند غير صحيح أو الإيهام بوجود مشروع غير موجود وغيرها فهذه الأساليب تصل لحد نشوء جريمة النصب المذكورة بالقانون الجنائي فهي تؤدي الى مغالطة الشخص مما يحمله للوقوع في الغلط بسبب إيهامه وتغيير الحقيقة له ، ومن الأساليب أيضا التي لا تصل إلى مصاف الطرق الإحتيالية في جريمة النصب وهي الكذب التدليسي , فالكذب في حد ذاته لا يعد تدليسًا و إلا إذا زاد عن الحد المألوف في التعامل مما يحمل الشخص للتعاقد بسبب هذه المبالغة في الكذب ومثل ذلك أن يقوم البائع بمدح مبيعه و الإدعاء بمواصفات فيه وهي في الحقيقة ليست موجودة به أو نسب تصنيع المبيع إلى مصنع مشهود له بالجودة وهو في الحقيقة قطعة مقلدة فمن هذه الأمور تحمل الشخص إلى التعاقد.
وهذه الأساليب تختلف عن الترويج والدعاية المشروعة قانونا فالأخيرة تبين مواصفات المنتج وتبرزها أما المغالاة في المدح بطريقه تزيد عن الحد المألوف في التعامل فهذا ما يعد تدليسًا وذلك للأسباب المذكورة سابقا.
أيضا يعد من التدليس الكتمان وعدم الإفصاح في وضع يجب فيه التوضيح والبيان فهذه الصورة تعد نشاطًا سلبيًا يحول دون إظهار الحقيقة ويعتبر إخلالاً بواجب المصارحة وحسن النية التي يفرضها القانون في التعامل , فالصدق وحسن التعامل احد مقومات الصفة العامة في إبرام العقود ويظهر هذا النوع في العديد من أشكال التعاقد مثل عقود الشركات و التشارك و كذلك عقود الوكالات ويبرز في عقود التأمين حيث انه يجب على المؤمن له الإفصاح عن أي مرض أو عاهة مصاب بها و إلا كان العقد مهددًا بالإبطال.
ولو أن كل ما سبق يعد تدليسًا تضلل فيه الحقيقة و يشوهها ويغير من الواقع , إلا أنه يجب أن يقترن بالنية أو القصد لحمل الشخص المدلس عليه إلى التعاقد وهو يمثل الجزء المعنوي من هذه العملية أي أن المدلس الذي قام بهذه الأعمال الإحتيالية , و لم يكن له هذه النية مثل أن يقوم شخص بالمزاح مع صديق له أو أنه قام بهذه الأعمال دون أن يعلم فلا يكون هناك تدليس وذلك لانتفاء النية في هذه الأعمال , وأما إذا توافرت فإننا نكون هنا أمام التدليس الذي يعد عيب من عيوب الإرادة في التعاقد ويكون لمن دُلس عليه إبطال العقد وذلك لما شاب إرادته في التعاقد.
المطلب الثاني
شروط التدليـــــس
ذكرنا سابقا أنه يجب توافر الشق المادي والمعنوي لمن قام بالتدليس حتى تكون الأفعال التي ارتكبها تدليسًا, ولكن حتى لو قامت و اعتبرت هذه الأفعال تدليسًا فلا يجوز للشخص المُدلس عليه أن يطلب إبطال العقد إلا إذا توافرت شروط وهي ما سوف نذكره الآن فلو أنه لم تتوافر هذه الشروط فلا يستطيع المُدلس عليه أن يتمسك بالتدليس وهناك من قال أنهما شرطان وهناك من قال ثلاثة شروط ، وسوف نذكر الثلاثة شروط وهي أن يستخدم أحد الطرفين وسائل إحتيالية والشرط الثاني هو من شأن هذه الطرق الإحتيالية أن توقع المتعاقد الآخر في غلط أي أن هذه الأعمال هي السبب في إيقاع الغلط لدى المتعاقد الآخر والشرط الثالث هو أن يكون التدليس صادرًا أو مرتبطًا بأحد الأطراف المتعاقدة أو متصلا به و هنا نكون أمام التدليس الذي يمكن التمسك به لإبطال العقد لمن دُلس عليه وسوف نشرح كل شرط على حدة ليتم توضيح المعنى منه .
الشرط الأول : استخدام احد الطرفين وسائل احتيالية
وقد سبق بيان ما معناه وهو إظهار سلوك خارجي أو إتخاذ أعمال مادية تمثل الوسائل الإحتيالية , وهي تعد الشق المادي من التدليس بالنسبة للمدلس , ويجب أن تكون هذه الوسائل أعمالا ظاهرة حتى تصل إلى الطرف الأخر مثل انتحال صفة كاذبة أو وهمية أو اصطناع شهادات و مستندات مزورة بكاملها أو بجزء منها، وكذلك الكذب الذي يتعدى الحد المألوف في التعامل مثل قيام التاجر بالمغالاة بوصف بضاعته والادعاء بوجود مواصفات ليست بها أصلاً فقط لإيهام الناس ودفعهم لشراء البضاعة، وكذلك السكوت والكتمان أيضًا يعد أحد الوسائل الإحتيالية وذلك في موطن يجب فيه الإفصاح والبيان لما له من إخلال لمبدأ الثقة و واجب الصدق والصراحة.
الشرط الثاني : ان تكون هذه الطرق الاحتيالية سبب في ايقاع المتعاقد الاخر في الغلط الذي دفع الى التعاقد
أي أن تكون الطرق الإحتيالية هي السبب أو الدافع للإيقاع في غلط يدفعه إلى التعاقد ولولا هذه الطرق لما تم التعاقد وقد يقع الغلط في أشخاص العقد , مثل أن يكون رسامًا أو خطاطًا أو يكون الغلط بالقيمة مثل الأشياء النادرة أو الثمينة من التحف والآثار والأحجار الكريمة وغيرها مما يمكن أن يقوم الغلط في السبب أو الباعث , مثل أن يعتقد أنه حصل على شيئ بسبب الهبة ولن يتضح انه بيع وعليه يجب أن يدفع الثمن ، ففي الطرق الإحتيالية يوهم الشخص فيقع بالغلط الذي يدفعه للتعاقد وقد ينصب التدليس على العقد ككل أو على جزء منه ، وهنا حدث خلاف فقهي حيث يرى بعض الشراح أن هذا التدليس وقع على شيئ أساسي في العقد فإنه يجوز التمسك بالإبطال أما إذا كان قد وقع على شيئ ثانوي في العقد فلا يجوز إبطاله إنما يطلب التعويض عن الضرر ، وهناك من يرى انه يجوز التمسك بالإبطال دام التدليس كان له دور في التعاقد .
ونحن في رأينا المتواضع نؤيد الرأي الثاني ولكن مع الاختلاف في السبب وذلك أن مبدأ الشرف في التعامل و حسن النية والثقة يتوجب عنصر الصدق والمصارحة في العقد ولا يجوز تجزئة العقد على اعتبار إلزاميته لدى الطرفين.
والمعيار المتخذ هنا في هذا الشرط هو معيار الشخص العادي أي ليس بذلك الحذر الحريص على أمواله وليس بذلك الجاهل أو غير المتعلم , إنما الشخص العادي الذي يتصرف بوسطية وقد استقر القضاء على اعتبار الأمر من مسائل الواقع التي تختلف من واقعة لأخرى وتختلف من شخص لأخر و تركت لتقدير القاضي و لا يخضع لرقابة محكمة التمييز .
الشرط الثالث : أن يكون التدليس صادرًا من أحد طرفي التعاقد ويكون عالمًا به
أي أن يكون التدليس متصلأً بأحد المتعاقدين , فلو أن توافر استخدام الطرق الإحتيالية في التدليس وكان القصد منها إيقاع المتعاقد الآخر بالغلط لدفعه إلى التعاقد فان التدليس يجب ان يصدر من احد المتعاقدين أو أن يكون مرتبطًا به وليس الارتباط هنا أن يكون هذا الغير قد فعل الطرق الإحتيالية لمصلحة احد المتعاقدين فقط إنما يجب أن يصل العلم بذلك أي أن يقترن العلم مع الارتباط وقد ذكرت المادة 153 مدني من هم الغير((يلزم لإبطال العقد على أساس التدليس أن تكون الحيل قد صدرت من المتعاقد الآخر أو نائبه أو من احد أتباعه أو من وسطه في إبرام العقد أو ممن يبرم العقد لمصلحته)) فالارتباط هنا ليس بمعنى القرابة إنما صلتها بإبرام العقد أو مدى تأثير هذا الارتباط بالعقد مع علم المتعاقد الآخر بهذا التأثير, و قد ذكرت المادة عدة صفات مثل النائب أو التابع أو الوسيط وغيرها وبهذه الصفات قام المشرع بتغطية أي صفة ممكنة أن تؤثر على صحة إبرام العقد , وهذا النص من المادة رعى الإعتبارات العملية حيث انه لو صدر التدليس من أحد المتعاقدين لا نكون أمام مشكلة في توجيه التدليس لأن من أخطأ يتحمل خطأه ولكن لو لم يكن هذا النص موجودًا لكُنا رأينا في التعاقد حقلاً خصبًا للتدليس حيث أن المتعاقد المدلس يرفع عنه الحرج من ذلك التدليس لأنه صدر من الغير وهنالك الكثير من التعاقدات بل يمكن أن يكون أغلبها تتم عبر النائب أو التابع أو الوسيط أو أي شخص مرتبط بأحد المتعاقدين.
ويوجد استثناء على هذا الشرط وهو في عقود التبرعات حيث ان هذا الشرط يقع في عقود المعاوضات وعليه يجب إثبات أن التدليس مرتبط بأحد المتعاقدين حتى يتم التمسك بالإبطال على أساس التدليس , أما عقود التبرعات فيجوز إبطال التعاقد حتى لو لم يثبت أن التدليس مرتبط بأحد المتعاقدين على اعتبار أنها تعد من العقود الضارة ضررًا محضًا فالمتعاقد يتحمل التزام دون أن يتخذ أي حق له في التعاقد ونص على هذا الاستثناء في المادة 154مدني((استثناء مما تقضي به المادة السابقة يجوز في العقود التبرع طلب إبطال العقد إذا جاء الرضا نتيجة التدليس دون اعتبار لمن صدرت الحيل منه)).
هناك حالة وهي أن يصدر من الطرفين أي أن نكون أمام تدليس متبادل من احد أطراف العقد على الآخر ويكون الرضا بذلك مشوباً من جميع الأطراف فإذا تمسك أحد الأطراف بالتدليس حتى يبطل العقد فان المشرع منعه من ذلك في نص المادة 155((اذا لجأ كلٍ من المتعاقدين إلى التدليس على الآخر وجره بذلك إلى التعاقد إمتنع على أي منهما التمسك بإبطال العقد)) وذلك لإستقرارالتعاملات ، وفي رأيي أن هذا المنع هو عقوبة على المتعاقدين لقيامهم بهذه الأفعال المشينة وابتعدوا عن الأساس في التعامل وهو الثقة وحسن النية وحسناً فعل المشرع بذلك .
وبذلك نرى أن الطرق الإحتيالية في القانون المدني قد وضع لها العديد من القواعد لمكافحتها وحمايه التعاملات منها وتوسع القانون في تفسيرها وهي لا تقتصر على التدليس فقط ولكن التدليس هو أشمل قواعد نظمت ماهية الطرق الإحتيالية وذلك بعد شرح مبسط عنها و سنرى كم هي الطرق الإحتيالية في القانون المدني لها معنى كبير وواسع وذلك بعد شرح الطرق الإحتيالية في القانون الجنائي.