bassem_1974
04-23-2008, 07:20 PM
شبهات حول القصص القرآني
الأستاذ عبد الرحيم الشريف
دكتوراه في التفسير جامعة دمشق
وصلت إلى الموقع رسالة من أحد الإخوة يطلب فيها الإجابة على بعض الشبهات حول مزاعم أخطاء قصص القرآن الكريم.
ونحن في موقع موسوعة الإعجاز في القرآن والسنة نرحب بأسئلتكم، وندعوكم للمشاركة في منتدى نور الحق للحوار حول ما يثار حول الإسلام العظيم من شبهات.
وهذه الشبهات هي التي أرسلها الأخ الكريم ونقدها.
الشبهة الأولى:
آلهة قوم نوح –عليه السلام- بأسمائها تُعبد عند العرب بعد هلاك قوم نوح كلهم ، فكيف انتقلت هذه الآلهة بأسمائها إلى العرب المتأخرين رغم الانقطاع الكبير بين الأمتين ؟ ، لأن كثيرا من المفسرين قالوا إن عبادة تلك الأصنام انتقلت إلى العرب ، فقوم نوح و كل البشر هلكوا بسبب الطوفان ، و لم يبق منهم إلا أبناء نوح –عليه السلام- المؤمنين ، لقوله تعالى ((و جعلنا ذريته هم الباقين )) ، فكيف انتقلت تلك الآلهة بأسمائها نفسها إلى العرب المتأخرين؟
الجواب:
في البداية ينبغي التنبيه إلى تدليس موقع الإنترنت الذي أثار تلك الشبهة، فقد نقل عن الإمام فخر الدين الرازي قوله: " كيف ينقل نوح أصناماً معه في السفينة بعد أن ظل طيلة ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً حسب رواية القرآن يحاربها؟ وهل يقبل عقل أن يكون نوح سبباً لإضلال قوم وهداية آخرين؟ "
بينما نص عبارته في تفسيره مفاتيح الغيب 9/128: " هذه الأصنام الخمسة كانت أكبر أصنامهم، ثم إنها انتقلت عن قوم نوح إلى العرب، فكان وَدّ لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير؛ ولذلك سمت العرب بعبد ود، وعبد يغوث، هكذا قيل في الكتب. وفيه إشكال؛ لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان، فكيف بقيت تلك الأصنام؟ وكيف انتقلت إلى العرب؟ ولا يمكن أن يقال: إن نوحاً عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها؛ لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها، فكيف يمكن أن يقال إنه وضعها في السفينة سعياً منه في حفظها ؟ ".
وهنا يتبين تدليسهم، فهو لم يقل إن أحداً من المفسرين قال بذلك، بل قال: لا يمكن القول بذلك، وشتان بين الأمرين.
أما جواب الشبهة الجواب: لا يمنع أن الشيطان الذين زين الشرك لأتباعه في زمن نوح عليه السلام، أن يزينه للقبائل العربية. أما بقاء الأصنام فهو غير مستبعد، لأن الطوفان أهلك الكائنات الحية في مكان حدوثه، ولم يهلِك الجمادات.
ونقل القرطبي في تفسيره 18/308 عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن الشياطين أخرجتها لمشركي العرب.
قلت: لا يستبعد أن تكون الشياطين وسوست لهم بأسمائها. أو نقل المؤمنون الناجون من قوم نوح أسماء الأصنام إلى أبنائهم، على أنها معلومات تاريخية ـ كما نعلم نحن بأسماء عشرات الأصنام للعرب وغيرهم ـ، ومنهم انتقلت إلى مَن بعدَهُم.. وهكذا، إلى أن عُبِدت.
الشبهة الثانية:
أهمل القرآن مقوِّمات التاريخ، فلم يحدّد الزمان والمكان، ولم يعيّن الأشخاص.
فليس هناك قصة قرآنية جاءت فيها هذه المقوّمات. فقصة موسى، رغم تكرارها، لم تذكر لنا تفاصيل دقيقة من حياته لا يستغني عنها المؤرخ، مثل ذكر صفة موسى ونسبه ووقت إرساله، والقصد من ذلك، وأين وكيف جعل هارون وزيراً له وسبب ذلك؟ وما كان بينهما وبين القوم من جدلٍ وحوار، وغير ذلك مما لا يمكن الاستغناء عنه، لأن التاريخ لا يكون تاريخاً إلا به.
الجواب:
هذا ليس عيبا في القصص القرآني، بل دليل أكيد على أنها ليست بشرية. فقصص البشر هي التي تعنى بالزمان والمكان وأسماء الأشخاص لمجرد التسلية والمتعة والخيال، بينما القرآن الكريم قصصه جمَعَت بين أنها قصص حق، وأنها تركز على مكامن العبرة والعظة من القصص.
خذ هذه المقارنة مثلاً:
يجد الناظر إلى مختلف قصص الكتاب المقدس عند أهل الكتاب، الكثير من الإطالات التي لا فائدة منها، ومعلومات تاريخية لا قيمة لها، ولا علاقة لها بالوحي الإلهي، بل هي أقرب إلى السرد التاريخي ـ إن لم تكن أساطير ـ من القصص الهداف لكل منصف..
ومن الإطالات بلا داعٍ في كتبهم المقدسة، تلك المعلومات التاريخية التي تبلغ 90% من موضوعات الأسفار المقدسة، وكثير منها معلومات تافهة لا تفيد.. من ذلك ما ورد في سفر صموئيل " فبادرت أبيجال وأخذت مائتي رغيف خبز وزقي خمر، وخمسة خرفان مهيئة، وخمس كيلات من الفريك، ومائتي عنقود من الزبيب، ومائتي قرص من التين، ووضعتها على الحمير " [سفر صموئيل الأول 25/18]، فما الذي أفاد البشرية معرفة ذلك ؟
وسفر الأيام الأول [24 - 27] يعرض لنا قائمة طويلة لوكلاء الملك داود وولاته، فما علاقة ذلك بالوحي؟
وفي سفر الملوك الأول إصحاحان كاملان في وصف الهيكل وطوله وعرضه وسماكته وارتفاعه وعدد نوافذه وأبوابه.. وتفاصيل تزعم التوراة أنها مواصفات يريدها الرب لمسكنه الأبدي (انظر سفر الملوك الأول 6-7).
مع ملاحظة تناقضها مع موضع آخر، حين يقول العهد القديم: " هل يسكن الله حقاً على الأرض، هوذا السماوات وسماء السماوات لا تسعك، فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيت " [سفر الملوك الأول 8/27].
وفي أخبار الأيام الأول [من الإصحاح الأول إلى التاسع] ست عشرة صفحة كلها أنساب لآدم وأحفاده وإبراهيم وذريته.
ثم قائمة أخرى [في سفر عزرا 2/1-67] بأسماء العائدين من بابل حسب عائلاتهم، وأعداد كل عائلة إضافة لأعداد حميرهم وجمالهم.. الخ
كما ثمة قوائم أخرى بأعداد الجيوش والبوابين من كل سبط، وعدد كل جيش.. الخ (انظر الأيام 23/1 - 27/34).
وفي سفر الخروج يأمر موسى بصناعة التابوت بمواصفات دقيقة تستمر تسع صفحات، فهل وحي ينزل بذلك كله وغيره مما يطول المقام بتتبعه.
بينما التفاصيل الدقيقة في القصص القرآني جاءت لخدمة غرض العبرة من القصة الكريمة، كقوله تعالى ممتناً على الفتية المؤمنين أهل الكهف: " وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ.. " [الكهف: 18] جاعلاً تقليبهم أهم في القصة من أسمائهم، بل أهم من عددهم.. وذلك لبيان مزيد عناية الله جل جلاله بعباده المؤمنين، الذين اعتزلوا باطل مجتمعهم، ففضلوا تراب أرض الكهف، على فراش البيت الوثير.. فكان تقليبهم ـ حتى لا تتقرح جنوبهم ـ منسوباً إلى الله جل جلاله، وعبَّر عنه بنون العَظَمَة " نُقَلِّبُهُمْ " تشريفاً لهم، وهل هنالك عناية وتكريم أكثر من ذلك ؟
إن التفاصيل المملة في القصص دليل بشرية مصدره، فالكتاب الإلهي (المقدس) أعلى وأجل من الغرق في تفاصيل لا تهم سائر الناس.
والأسوأ من الخوض في تفاصيل القصص التي بلا فائدة منها: إقحام قصص في الكتاب الديني عند الحديث في تفاصيل حياة شخصية لا علاقة لها بالمؤمنين من بعد. حيث يجد الناظر إليه عشرات المواضع التي تشهد باستخدام الكتاب المقدس في حمل رسائل شخصية لا علاقة للوحي بها، ومن ذلك: " يسلم عليك أولاد أختك ". [يوحنا 2/ 13]. ويرسل يوحنا المزيد من السلامات لأحبابه " غايس الحبيب الذي أحبه بالحق. أيها الحبيب في كل شيء أروم أن تكون ناجحاً وصحيحاً... سلام لك، يسلم عليك الأحباء، سلم على الأحباء بأسمائهم " [يوحنا 3/ 1-14].
وفي رسائل بولس مثل ذلك، ومنه: " تسلم عليكم كنائس آسيا، يسلم عليكم.. أكيلا وبريسكلا.. يسلم عليكم الإخوة أجمعون، سلموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة ". [كورنثوس الأولى16/19 – 20].
ويواصل بولس تسجيل رغباته الشخصية وأخبار أصدقائه في كورنثوس، فيقول: " الرداء الذي تركته في تراوس عند كابرس أحضِرهُ متى جئت، والكتب أيضاً لاسيما الرقوق.. سلم على ريسكا وأكيلا وبيت أنيسيفورس، أراستس بقي في كورنثوس، وأما ترو فيمس فتركته في ميليتس مريضاً. بادر أن تجيء قبل الشتاء.." [تيموثاوس الثانية 4/13 – 21].
الفرق في تفاصيل القصص دليل بشريتها، فكيف يكون الدليل الذي عليهم دليلاً لهم، والدليل على ربانية مصدر القرآن الكريم دليلاً علينا ؟!
تتميز القصة القرآنية بحسن اختيار الأحداث، بذكر ما يناسب من أحداثها لمناسبة سياق الآيات الكريمة السابقة واللاحق لتلك القصة، وبالالتزام بعرض الوجه الأحسن من القصة، والإعراض عما لا خير فيه، مما لا يفيد العلم به تطبيقاً وموعظة.. ولهذا كان اقتصار القصص القرآني على ثمار القصة اليانعة، دون ذكر الغث من تفاصيلها؛ ولذلك فقصص القرآنية: أحسن القصص.
وهذه ميزة للقرآن الكريم بخلاف المعهود المعدود في الكتب المقدسة لليهود والنصارى، حيث تعرض القصة كاملة بخيرها وشرها. ولقد حوت قصص أهل الكتاب نتيجة لذلك على كثير من الجوانب الضارة في التعليم والتربية.
وكل قصة من قصص القرآن الكريم تجد التوجيه التربوي فيها واضح، ويستطيع أي متدبر لها تحديد غرض أو أغراض كثيرة، من حيث التكليف للدعوة والتعليم والتربية..
والتعميم في زعم عدم اكتمال مجريات السرد التاريخي لجميع القصص القرآني تعميم مغلوط، فالمتدبر للقصص القرآني يلاحظ تغاير أسلوب القصص، فمرة تعرض القصة من أولها، ومرة من وسطها، ومرة من آخرها. وتارة تعرض كاملة، وتارة يكتفي ببعض حلقاتها، وتارة تتوسط بين هذا وذاك.. حسبما تكمن العبرة في هذا الجزء أو ذاك على النحو التالي:
1. نجد قصصاً تعرض منذ الحلقة الأولى: حلقة ميلاد بطلها، لأن في مولده عظة بارزة، وذلك مثل:
أ) قصة سيدنا آدم عليه السلام بدأت منذ خلقه، وفيها مظهر لقدرة الله جل جلاله، وكمال علمه، ونعمته على آدم وبنيه. وفي حادثة إبليس معه ما فيها من أغراض دينية.
ب) ومثلها قصة مولد سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، وهو يعرض بتفصيل كامل، ذلك أن مولده هو الآية الكبرى في حياته؛ وحول هذا المولد قام الجدل كله؛ وعنه تفرعت كل قضايا النصرانية قبل الإسلام وبعده.
ج) وقبلها قصة مولد سيدنا موسى عليه السلام؛ لأن لمولده في عهد اضطهاد بني اسرائيل، وتذبيح الذكور من أطفالهم، ونجاته هو من ذلك مع وجوده بين آل فرعون أنفسهم.. قيمة خاصة في بيان رعاية الله له، وإعداده إعداداً خاصّاً للمهمة التي سينهض بها. ثم تذكر من حياته حلقاتها ذات المغزى.
د) وإسماعيل وإسحاق ـ عليهما السلام ـ عرض القرآن الكريم قصة مولدهما؛ لأن في هذا المولد عبرة.
هـ) وكذلك يذكر مولد يحيى لزكريا ـ عليهما السلام ـ بعد أن وهن منه العظم واشتعل الرأس شيباً.
2. ونجد قصصاً أخرى تعرض من حلقة متأخرة نسبيّاً: كقصة سيدنا يوسف عليه السلام تبدأ قصته صبيّاً، فمن هذه الحلقة يرى الرؤيا التي تُسيّر حياته كلها، وتؤثر في مستقبله جميعاً، إذ يرى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين؛ فيدرك أبوه مغزاها ويقربه إليه، فيغار إخوته منه.. ثم تسير القصة في طريقها المرسوم بعد هذه الرؤيا.
3. ثم نجد قصصاً لا تعرض إلا في حلقة متأخرة جداً:
فنوح وهود وصالح ولوط وشعيب ـ عليهم السلام ـ وكثيرون غيرهم، لا تعرض قصصهم إلا عند بيان الرسالة، وهي الحلقة الوحيدة التي تعرض من حياتهم، لأنها أهم حلقة منها، والعبرة كامنة فيها.
تلك شهادة من مثيري الشبهة بأن القصص القرآني يختلف عن قصص جميع المخلوقين من الأدباء والبلغاء ورواة الأساطير، وهي شهادة للقرآن الكريم ليست عليه.
القصص القرآني أجلّ وأسمى من أن يكون هدفه السرد التاريخي للمتعة والتسلية وإضاعة الوقت.. فتلك غاية الروايات، وكتب الحكايات.
بل إن الناقد المنصف يجد أن أي نص من نصوص آيات قصص القرآن الكريم، له علاقة وطيدة بالغاية ـ أو الغايات ـ الروحية والتربوية والخلقية لتلك القصة.
كما أن عرض القرآن الكريم لقصص السابقين يتميز بأسلوب فريد بديع معجز، لا تستطيع فطرة أي إنسان إنكاره، ومن الظلم نقد بشر ـ أي بشر ـ لكلام الله جل جلاله، مستخدماً ما يزعم أنها معايير نقدية للقصص ـ متجددة، ناقصة، متغيرة، لا يمكن الاتفاق عليها بين كل النقاد ـ وضعها مخلوقون مجبولون على النقص والخطأ والهوى.
الشبهة الثالثة:
إسناده بعض الأحداث لأناسٍ في موطن، ثم إسناده نفس الأحداث لغيرهم من الأشخاص في موطن آخر. ومن ذلك قوله: قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحرٌ عليم قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (الأعراف 7:109).
ولكنه يقول على لسان فرعون نفسه في نفس الموقف: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ
هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (الشعراء 26: 34).
كذلك نجد في قصة إبراهيم أن البشرى بالغلام كانت لامرأته: "وَلَقَدْ جَاءَتْ
رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ … وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ" (هود 11: 69).
بينما نجد أن البشرى لإبراهيم نفسه "وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ" (الحِجْر 15: 51-53).
"هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ … فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ" (الذاريات
51: 24-28).
الجواب:
- فرعون أم ملئه ؟
لا يوجد ما يمنع أن يقول كل منهم ذلك، بل في تكرار قول الملأ الحرفي لما قال فرعون دليل طاعتهم الشديدة له، حتى بألفاظه حرفياً. وهذا أبلغ في بيان عِظَم إيمان سحرة فرعون ـ رضي الله عنهم ـ، فمَن كان في مجتمعٍ يتصف بالولاء المطلق لفرعون، ما الذي دفعه إلى الإيمان بالله جل جلاله، والاستشهاد في سبيله بلا نفع دنيوي ؟
وفيه تبكيت للملأ بكونهم مجرد أبواق، مقلدين إمعات يكررون كلام فرعون بلا فكر وروية..
وإشارة إلى صعوبة مهمة سيدنا موسى عليه السلام وحاجته إلى وجود سيدنا هارون عليه السلام وزيراً مسانداً له في دعوته لفرعون وملئه.
- البشرى لإبراهيم أم لزوجته؟
اختلف التعبير باختلاف المقام، وهذا طبيعي غير مستغرَب.. بل المستغرَب التكرار الحرفي.
من الطبيعي أن يجلس الضيوف مع سيدنا إبراهيم عليه السلام في البداية دون وجود زوجه. ولهذا فزوجه لم تحضر البشارة الأولى، فلما حضرت عندما أدخلت الطعام بشروها.
أي أن سيدنا إبراهيم عليه السلام سمع البشارة مرتين، مرة لوحده ومرة مع زوجه. أما زوجه فسمعتها مرة واحدة.
كأن يأتيك ضيف ويبشرك.. ثم يدخل أخوك ويبشره أمامك.
الشبهة الرابعة:
إنطاقه الشخص الواحد في الموقف الواحد بعبارات مختلفة حين يكرر القصة، ومن ذلك
تصويره لموقف الله من موسى حين رؤيته النار، فقد نودي مرة بقوله: "فَلَمَّا
جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا" (النمل 27: 8) ونودي مرة أخرى بقوله: "فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِيِء الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقَعْةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (القصص 28: 30).
وفي سورة طه: "فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً" (طه 20: 11، 12).
الجواب:
قال ذلك كله، وأخذ من الحوار ما يناسب سياق السورة، وهذا لا يعد تناقضاً، بل قمة البلاغة.
والترتيب كما يلي:
لما وصل سيدنا موسى عليه السلام إلى ما ظن أنه مصدر النار، " نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ " [النمل: 8] عندها تعجَّب وبحث عن مصدر الصوت: فـ " نُودِيَ مِن شَاطِئِ الوَادِ الأيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ". [القصص: 30] وزيادة لتثبيته وتأكيد أن ما سمعه حق لا أوهام، كُرِّر النداء مرة أخرى.. فنودي مرة ثالثة: " إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي " [طه: 13].
تكرار النداء إطناب مطلوب لتأكيد صحته، وإبعاداً لأي هاجس نفسي يشكك في مصدره، واسترعاءً لانتباهه فيكون في أقصى حالات الخشوع؛ لأهمية ما سيؤمَر به. فتكرر النداء تهيئة له ـ بنقله من جو (الخوف على أهله) إلى جو (سماع الوصايا الإلهية المباركة ووعيها) ـ وإزالةً للوحشة عنه، وزيادة في الأنس.
والإطناب في الكلام محمود في ذلك الموقف، وهو مطلوب بلاغةً؛ لإزالة الوَحشة. فسيدنا موسى عليه السلام سار مسافة في الليل، وترك أهله لوحدهم، ولم يعهد مثل ذاك الموقف عند الطور.. لأجل كل ذلك، الإكثار من الكلام المؤنِس مطلوب.
كقوله تعالى في سورة طه: " وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17)قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى(18) ". " يعني: أي شيء الذي بيدك ؟ أو ما الذي بيدك ؟ وكان عالماً بما في يده، ولكن الحكمة في سؤاله؛ لإزالة الوحشة عن موسى، لأن موسى كان خائفاً مستوحشاً. كرجل دخل على ملك وهو خائف فسأله عن شيء، فتزول بعض الوحشة عنه بذلك، ويستأنس بسؤاله ". انظر: بحر العلوم، السمرقندي 2/392.
الشبهة الخامسة:
وجود مواقف جديدة لم تحدث أصلاً في سياق القصة مثل قوله عن اليهود:
"وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ" (النساء 4: 157). فمن المعروف عقلاً ومنطقاً أن اليهود لم يقولوا إن المسيح رسول الله، لأنهم لو اعتقدوا بذلك لما قتلوه ولما صلبوه!
الجواب:
جملة: " رَسُولَ اللَّهِ " جملة معترضة، ليست على لسان اليهود. ولهذا جاءت على النصب، على تقدير: أعني رسولَ الله. والحكمة منها أمران: الأول: تأكيد عدم ألوهيته، والثاني: التنبيه إلى أنهم قتلوا شبيه عيسى عليه السلام. أي هم قتلوا شبيه عيسى عليه السلام، ولكنهم في الحقيقة لم يقتلوا عيسى رسولَ الله.
الشبهة السادسة:
جاءت المادة التاريخية في القرآن لتكون في خدمة الدعوة الإسلامية، فلم تخضع
لمناهج البحث العلمية، إنما كانت مادة موجَّهة تسيطر عليها الأغراض الدينية،
فأصبحت مُجَسِّدةً لحياة محمد وأتباعه وقومه، لا لأحداث التاريخ الحقيقية. فسِيَر
الأنبياء المذكورين في القرآن ليست حتماً هي أحداث حياتهم بقدر ما هي أحداث
الدعوة المحمدية!
الجواب:
أكثر قصص الأنبياء والدعاة في القرآن الكريم، تحوي مشاهد تتشابه مع قصص باقي الأنبياء والدعاة، والقصة القرآنية تنتقي المشاهد الملائمة لسياق الآيات الكريمة وشخصية السورة الكريمة المذكورة فيها، دليلاً عملياً صادقاً ومثالاً حياً على صحة ما فيها من تشريعات وأخلاق وسنن كونية وأساليب ناجحة في الخطاب الدعوي.
فتتحقق إحدى الأغراض الرئيسة للقصص القرآني وهي: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والدعاة المضطهدين من الطغاة، فهل يطلب مثيرو الشبهات أن يذكر الله جل جلاله قصص صبر أولي العزم من الرسل بعد الهجرة إلى المدينة، حيث المسلمين آمنين مطمئنين، فتحت لهم الدنيا ؟!
كل ذلك من محاسن القصص القرآني وصدقها، وحسن انتقاء ما يوافق من أحداثها لما يهم المسلم في كل عصر ومصر. ومن هنا نجد القرآن الكريم يقدم من خلال قصصه الحق، طرق معالجة مجرَّبة للواقعَ الذي كان يعيشه المسلمون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكر ما يتطابق من الأحداث مع هذا الواقع من ناحية، كما يعالج الواقع الذي تعيشه الأجيال والعصور الإنسانية المستقبلية من ناحية أُخرى.
فإنّ انطباق هذا الكلام على القصص والأحداث ذات العلاقة بالأنبياء وأقوامهم، أو بالتاريخ الماضي إنّما هو بملاحظة هذا البعد وتلك الصفة في القصة القرآنية، وما أجَلَّها من حكمة ! وفي قوله تعالى: " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " [يوسف:111]. إشارة إلى هذه المزية من مزايا القصص القرآني.
فمَن يستفيد مِن تجارب غيره، يضيف أعماراً إلى عمره !
كما أنها تبين عدداً من السنن الإلهية الثابتة الخاصة بالأمم والجماعات والأفراد، يتخذ منها العقلاء مرآة ينظرون منها إلى أنفسهم وحياتهم وأحوال مجتمعاتهم.
إنّ القصص التاريخية عندما تكون شتاتاً من الأحداث المتفرقة التي تتجمع وتتفرق بصورة اعتباطية، ومن دون بيان عبرة مستقاة من قانون وسنة مذكورة فيها.. تفقد الشفافية التي تمكن الإنسان أن ينظر منها إلى نفسه وعصره وأمته. ولكن عندما يكون التاريخ مجموعة من السنن والقوانين الثابتة، فإن بإمكان الإنسان أن ينظر من خلال مرآة التاريخ إلى نفسه وعصره، ويقوِّم من خلال هذه المرآة نفسه ومجتمعه.
هذا ما نص عليه القرآن الكريم:
- " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " [الأعراف: 96].
- " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ " [الأنعام: 123].
- " وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ " [يونس: 13].
- " وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ". [الرعد: 6].
- وفي سورة الإسراء: " وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16)وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(17) ".
- " فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " [النمل: 52].
- " فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ". [فصلت: 13].
- " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ". [محمد: 10].
الآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة، وكلّها تنطق بهذا الفهم العلمي الدقيق للتاريخ: فيها عبرة وسنن وقوانين وأصول ثابتة للتاريخ والحياة، فلا هزيمة ولا انتكاسة، ولا ازدهار ونمو ونضج، إلاّ بموجب قوانين وسنن إلهية ثابتة.
وهذه السنن كلها لله تعالى أوجدها بمشيئته وحكمته، وهدى إليها عباده.. وما القصص القرآني إلا نماذج تنادي بالإنسان: " التمس العبرة مني، فالعاقل من اتعظ بنفسه. ودونه من يجعل نفسه عِظةً للآخرين ".
بهذا المنطق خاطب سيدنا هود عليه السلام عاداً: " أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ". [الأعراف: 69].
ثم صالحٌ ثموداً: " وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ". [الأعراف: 74].
تلك كانت أبرز سمات القصص القرآني التي يتبين للناظر المنصف إليها، أنها مزية للقصص القرآني، ليس كمثلها قصص في الدنيا.. ومع ذلك تستمر الشبهات حول القصص القرآني تحاول النيل من صدقها وواقعيتها، وتطعن في تكرار بعضها، وتزعم أنها متناقضة ـ ولكن هيهات ـ..
للتواصل مع المؤلف:
rhim75@hotmail.com
الأستاذ عبد الرحيم الشريف
دكتوراه في التفسير جامعة دمشق
وصلت إلى الموقع رسالة من أحد الإخوة يطلب فيها الإجابة على بعض الشبهات حول مزاعم أخطاء قصص القرآن الكريم.
ونحن في موقع موسوعة الإعجاز في القرآن والسنة نرحب بأسئلتكم، وندعوكم للمشاركة في منتدى نور الحق للحوار حول ما يثار حول الإسلام العظيم من شبهات.
وهذه الشبهات هي التي أرسلها الأخ الكريم ونقدها.
الشبهة الأولى:
آلهة قوم نوح –عليه السلام- بأسمائها تُعبد عند العرب بعد هلاك قوم نوح كلهم ، فكيف انتقلت هذه الآلهة بأسمائها إلى العرب المتأخرين رغم الانقطاع الكبير بين الأمتين ؟ ، لأن كثيرا من المفسرين قالوا إن عبادة تلك الأصنام انتقلت إلى العرب ، فقوم نوح و كل البشر هلكوا بسبب الطوفان ، و لم يبق منهم إلا أبناء نوح –عليه السلام- المؤمنين ، لقوله تعالى ((و جعلنا ذريته هم الباقين )) ، فكيف انتقلت تلك الآلهة بأسمائها نفسها إلى العرب المتأخرين؟
الجواب:
في البداية ينبغي التنبيه إلى تدليس موقع الإنترنت الذي أثار تلك الشبهة، فقد نقل عن الإمام فخر الدين الرازي قوله: " كيف ينقل نوح أصناماً معه في السفينة بعد أن ظل طيلة ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً حسب رواية القرآن يحاربها؟ وهل يقبل عقل أن يكون نوح سبباً لإضلال قوم وهداية آخرين؟ "
بينما نص عبارته في تفسيره مفاتيح الغيب 9/128: " هذه الأصنام الخمسة كانت أكبر أصنامهم، ثم إنها انتقلت عن قوم نوح إلى العرب، فكان وَدّ لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير؛ ولذلك سمت العرب بعبد ود، وعبد يغوث، هكذا قيل في الكتب. وفيه إشكال؛ لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان، فكيف بقيت تلك الأصنام؟ وكيف انتقلت إلى العرب؟ ولا يمكن أن يقال: إن نوحاً عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها؛ لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها، فكيف يمكن أن يقال إنه وضعها في السفينة سعياً منه في حفظها ؟ ".
وهنا يتبين تدليسهم، فهو لم يقل إن أحداً من المفسرين قال بذلك، بل قال: لا يمكن القول بذلك، وشتان بين الأمرين.
أما جواب الشبهة الجواب: لا يمنع أن الشيطان الذين زين الشرك لأتباعه في زمن نوح عليه السلام، أن يزينه للقبائل العربية. أما بقاء الأصنام فهو غير مستبعد، لأن الطوفان أهلك الكائنات الحية في مكان حدوثه، ولم يهلِك الجمادات.
ونقل القرطبي في تفسيره 18/308 عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن الشياطين أخرجتها لمشركي العرب.
قلت: لا يستبعد أن تكون الشياطين وسوست لهم بأسمائها. أو نقل المؤمنون الناجون من قوم نوح أسماء الأصنام إلى أبنائهم، على أنها معلومات تاريخية ـ كما نعلم نحن بأسماء عشرات الأصنام للعرب وغيرهم ـ، ومنهم انتقلت إلى مَن بعدَهُم.. وهكذا، إلى أن عُبِدت.
الشبهة الثانية:
أهمل القرآن مقوِّمات التاريخ، فلم يحدّد الزمان والمكان، ولم يعيّن الأشخاص.
فليس هناك قصة قرآنية جاءت فيها هذه المقوّمات. فقصة موسى، رغم تكرارها، لم تذكر لنا تفاصيل دقيقة من حياته لا يستغني عنها المؤرخ، مثل ذكر صفة موسى ونسبه ووقت إرساله، والقصد من ذلك، وأين وكيف جعل هارون وزيراً له وسبب ذلك؟ وما كان بينهما وبين القوم من جدلٍ وحوار، وغير ذلك مما لا يمكن الاستغناء عنه، لأن التاريخ لا يكون تاريخاً إلا به.
الجواب:
هذا ليس عيبا في القصص القرآني، بل دليل أكيد على أنها ليست بشرية. فقصص البشر هي التي تعنى بالزمان والمكان وأسماء الأشخاص لمجرد التسلية والمتعة والخيال، بينما القرآن الكريم قصصه جمَعَت بين أنها قصص حق، وأنها تركز على مكامن العبرة والعظة من القصص.
خذ هذه المقارنة مثلاً:
يجد الناظر إلى مختلف قصص الكتاب المقدس عند أهل الكتاب، الكثير من الإطالات التي لا فائدة منها، ومعلومات تاريخية لا قيمة لها، ولا علاقة لها بالوحي الإلهي، بل هي أقرب إلى السرد التاريخي ـ إن لم تكن أساطير ـ من القصص الهداف لكل منصف..
ومن الإطالات بلا داعٍ في كتبهم المقدسة، تلك المعلومات التاريخية التي تبلغ 90% من موضوعات الأسفار المقدسة، وكثير منها معلومات تافهة لا تفيد.. من ذلك ما ورد في سفر صموئيل " فبادرت أبيجال وأخذت مائتي رغيف خبز وزقي خمر، وخمسة خرفان مهيئة، وخمس كيلات من الفريك، ومائتي عنقود من الزبيب، ومائتي قرص من التين، ووضعتها على الحمير " [سفر صموئيل الأول 25/18]، فما الذي أفاد البشرية معرفة ذلك ؟
وسفر الأيام الأول [24 - 27] يعرض لنا قائمة طويلة لوكلاء الملك داود وولاته، فما علاقة ذلك بالوحي؟
وفي سفر الملوك الأول إصحاحان كاملان في وصف الهيكل وطوله وعرضه وسماكته وارتفاعه وعدد نوافذه وأبوابه.. وتفاصيل تزعم التوراة أنها مواصفات يريدها الرب لمسكنه الأبدي (انظر سفر الملوك الأول 6-7).
مع ملاحظة تناقضها مع موضع آخر، حين يقول العهد القديم: " هل يسكن الله حقاً على الأرض، هوذا السماوات وسماء السماوات لا تسعك، فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيت " [سفر الملوك الأول 8/27].
وفي أخبار الأيام الأول [من الإصحاح الأول إلى التاسع] ست عشرة صفحة كلها أنساب لآدم وأحفاده وإبراهيم وذريته.
ثم قائمة أخرى [في سفر عزرا 2/1-67] بأسماء العائدين من بابل حسب عائلاتهم، وأعداد كل عائلة إضافة لأعداد حميرهم وجمالهم.. الخ
كما ثمة قوائم أخرى بأعداد الجيوش والبوابين من كل سبط، وعدد كل جيش.. الخ (انظر الأيام 23/1 - 27/34).
وفي سفر الخروج يأمر موسى بصناعة التابوت بمواصفات دقيقة تستمر تسع صفحات، فهل وحي ينزل بذلك كله وغيره مما يطول المقام بتتبعه.
بينما التفاصيل الدقيقة في القصص القرآني جاءت لخدمة غرض العبرة من القصة الكريمة، كقوله تعالى ممتناً على الفتية المؤمنين أهل الكهف: " وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ.. " [الكهف: 18] جاعلاً تقليبهم أهم في القصة من أسمائهم، بل أهم من عددهم.. وذلك لبيان مزيد عناية الله جل جلاله بعباده المؤمنين، الذين اعتزلوا باطل مجتمعهم، ففضلوا تراب أرض الكهف، على فراش البيت الوثير.. فكان تقليبهم ـ حتى لا تتقرح جنوبهم ـ منسوباً إلى الله جل جلاله، وعبَّر عنه بنون العَظَمَة " نُقَلِّبُهُمْ " تشريفاً لهم، وهل هنالك عناية وتكريم أكثر من ذلك ؟
إن التفاصيل المملة في القصص دليل بشرية مصدره، فالكتاب الإلهي (المقدس) أعلى وأجل من الغرق في تفاصيل لا تهم سائر الناس.
والأسوأ من الخوض في تفاصيل القصص التي بلا فائدة منها: إقحام قصص في الكتاب الديني عند الحديث في تفاصيل حياة شخصية لا علاقة لها بالمؤمنين من بعد. حيث يجد الناظر إليه عشرات المواضع التي تشهد باستخدام الكتاب المقدس في حمل رسائل شخصية لا علاقة للوحي بها، ومن ذلك: " يسلم عليك أولاد أختك ". [يوحنا 2/ 13]. ويرسل يوحنا المزيد من السلامات لأحبابه " غايس الحبيب الذي أحبه بالحق. أيها الحبيب في كل شيء أروم أن تكون ناجحاً وصحيحاً... سلام لك، يسلم عليك الأحباء، سلم على الأحباء بأسمائهم " [يوحنا 3/ 1-14].
وفي رسائل بولس مثل ذلك، ومنه: " تسلم عليكم كنائس آسيا، يسلم عليكم.. أكيلا وبريسكلا.. يسلم عليكم الإخوة أجمعون، سلموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة ". [كورنثوس الأولى16/19 – 20].
ويواصل بولس تسجيل رغباته الشخصية وأخبار أصدقائه في كورنثوس، فيقول: " الرداء الذي تركته في تراوس عند كابرس أحضِرهُ متى جئت، والكتب أيضاً لاسيما الرقوق.. سلم على ريسكا وأكيلا وبيت أنيسيفورس، أراستس بقي في كورنثوس، وأما ترو فيمس فتركته في ميليتس مريضاً. بادر أن تجيء قبل الشتاء.." [تيموثاوس الثانية 4/13 – 21].
الفرق في تفاصيل القصص دليل بشريتها، فكيف يكون الدليل الذي عليهم دليلاً لهم، والدليل على ربانية مصدر القرآن الكريم دليلاً علينا ؟!
تتميز القصة القرآنية بحسن اختيار الأحداث، بذكر ما يناسب من أحداثها لمناسبة سياق الآيات الكريمة السابقة واللاحق لتلك القصة، وبالالتزام بعرض الوجه الأحسن من القصة، والإعراض عما لا خير فيه، مما لا يفيد العلم به تطبيقاً وموعظة.. ولهذا كان اقتصار القصص القرآني على ثمار القصة اليانعة، دون ذكر الغث من تفاصيلها؛ ولذلك فقصص القرآنية: أحسن القصص.
وهذه ميزة للقرآن الكريم بخلاف المعهود المعدود في الكتب المقدسة لليهود والنصارى، حيث تعرض القصة كاملة بخيرها وشرها. ولقد حوت قصص أهل الكتاب نتيجة لذلك على كثير من الجوانب الضارة في التعليم والتربية.
وكل قصة من قصص القرآن الكريم تجد التوجيه التربوي فيها واضح، ويستطيع أي متدبر لها تحديد غرض أو أغراض كثيرة، من حيث التكليف للدعوة والتعليم والتربية..
والتعميم في زعم عدم اكتمال مجريات السرد التاريخي لجميع القصص القرآني تعميم مغلوط، فالمتدبر للقصص القرآني يلاحظ تغاير أسلوب القصص، فمرة تعرض القصة من أولها، ومرة من وسطها، ومرة من آخرها. وتارة تعرض كاملة، وتارة يكتفي ببعض حلقاتها، وتارة تتوسط بين هذا وذاك.. حسبما تكمن العبرة في هذا الجزء أو ذاك على النحو التالي:
1. نجد قصصاً تعرض منذ الحلقة الأولى: حلقة ميلاد بطلها، لأن في مولده عظة بارزة، وذلك مثل:
أ) قصة سيدنا آدم عليه السلام بدأت منذ خلقه، وفيها مظهر لقدرة الله جل جلاله، وكمال علمه، ونعمته على آدم وبنيه. وفي حادثة إبليس معه ما فيها من أغراض دينية.
ب) ومثلها قصة مولد سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، وهو يعرض بتفصيل كامل، ذلك أن مولده هو الآية الكبرى في حياته؛ وحول هذا المولد قام الجدل كله؛ وعنه تفرعت كل قضايا النصرانية قبل الإسلام وبعده.
ج) وقبلها قصة مولد سيدنا موسى عليه السلام؛ لأن لمولده في عهد اضطهاد بني اسرائيل، وتذبيح الذكور من أطفالهم، ونجاته هو من ذلك مع وجوده بين آل فرعون أنفسهم.. قيمة خاصة في بيان رعاية الله له، وإعداده إعداداً خاصّاً للمهمة التي سينهض بها. ثم تذكر من حياته حلقاتها ذات المغزى.
د) وإسماعيل وإسحاق ـ عليهما السلام ـ عرض القرآن الكريم قصة مولدهما؛ لأن في هذا المولد عبرة.
هـ) وكذلك يذكر مولد يحيى لزكريا ـ عليهما السلام ـ بعد أن وهن منه العظم واشتعل الرأس شيباً.
2. ونجد قصصاً أخرى تعرض من حلقة متأخرة نسبيّاً: كقصة سيدنا يوسف عليه السلام تبدأ قصته صبيّاً، فمن هذه الحلقة يرى الرؤيا التي تُسيّر حياته كلها، وتؤثر في مستقبله جميعاً، إذ يرى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين؛ فيدرك أبوه مغزاها ويقربه إليه، فيغار إخوته منه.. ثم تسير القصة في طريقها المرسوم بعد هذه الرؤيا.
3. ثم نجد قصصاً لا تعرض إلا في حلقة متأخرة جداً:
فنوح وهود وصالح ولوط وشعيب ـ عليهم السلام ـ وكثيرون غيرهم، لا تعرض قصصهم إلا عند بيان الرسالة، وهي الحلقة الوحيدة التي تعرض من حياتهم، لأنها أهم حلقة منها، والعبرة كامنة فيها.
تلك شهادة من مثيري الشبهة بأن القصص القرآني يختلف عن قصص جميع المخلوقين من الأدباء والبلغاء ورواة الأساطير، وهي شهادة للقرآن الكريم ليست عليه.
القصص القرآني أجلّ وأسمى من أن يكون هدفه السرد التاريخي للمتعة والتسلية وإضاعة الوقت.. فتلك غاية الروايات، وكتب الحكايات.
بل إن الناقد المنصف يجد أن أي نص من نصوص آيات قصص القرآن الكريم، له علاقة وطيدة بالغاية ـ أو الغايات ـ الروحية والتربوية والخلقية لتلك القصة.
كما أن عرض القرآن الكريم لقصص السابقين يتميز بأسلوب فريد بديع معجز، لا تستطيع فطرة أي إنسان إنكاره، ومن الظلم نقد بشر ـ أي بشر ـ لكلام الله جل جلاله، مستخدماً ما يزعم أنها معايير نقدية للقصص ـ متجددة، ناقصة، متغيرة، لا يمكن الاتفاق عليها بين كل النقاد ـ وضعها مخلوقون مجبولون على النقص والخطأ والهوى.
الشبهة الثالثة:
إسناده بعض الأحداث لأناسٍ في موطن، ثم إسناده نفس الأحداث لغيرهم من الأشخاص في موطن آخر. ومن ذلك قوله: قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحرٌ عليم قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (الأعراف 7:109).
ولكنه يقول على لسان فرعون نفسه في نفس الموقف: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ
هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (الشعراء 26: 34).
كذلك نجد في قصة إبراهيم أن البشرى بالغلام كانت لامرأته: "وَلَقَدْ جَاءَتْ
رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ … وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ" (هود 11: 69).
بينما نجد أن البشرى لإبراهيم نفسه "وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ" (الحِجْر 15: 51-53).
"هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ … فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ" (الذاريات
51: 24-28).
الجواب:
- فرعون أم ملئه ؟
لا يوجد ما يمنع أن يقول كل منهم ذلك، بل في تكرار قول الملأ الحرفي لما قال فرعون دليل طاعتهم الشديدة له، حتى بألفاظه حرفياً. وهذا أبلغ في بيان عِظَم إيمان سحرة فرعون ـ رضي الله عنهم ـ، فمَن كان في مجتمعٍ يتصف بالولاء المطلق لفرعون، ما الذي دفعه إلى الإيمان بالله جل جلاله، والاستشهاد في سبيله بلا نفع دنيوي ؟
وفيه تبكيت للملأ بكونهم مجرد أبواق، مقلدين إمعات يكررون كلام فرعون بلا فكر وروية..
وإشارة إلى صعوبة مهمة سيدنا موسى عليه السلام وحاجته إلى وجود سيدنا هارون عليه السلام وزيراً مسانداً له في دعوته لفرعون وملئه.
- البشرى لإبراهيم أم لزوجته؟
اختلف التعبير باختلاف المقام، وهذا طبيعي غير مستغرَب.. بل المستغرَب التكرار الحرفي.
من الطبيعي أن يجلس الضيوف مع سيدنا إبراهيم عليه السلام في البداية دون وجود زوجه. ولهذا فزوجه لم تحضر البشارة الأولى، فلما حضرت عندما أدخلت الطعام بشروها.
أي أن سيدنا إبراهيم عليه السلام سمع البشارة مرتين، مرة لوحده ومرة مع زوجه. أما زوجه فسمعتها مرة واحدة.
كأن يأتيك ضيف ويبشرك.. ثم يدخل أخوك ويبشره أمامك.
الشبهة الرابعة:
إنطاقه الشخص الواحد في الموقف الواحد بعبارات مختلفة حين يكرر القصة، ومن ذلك
تصويره لموقف الله من موسى حين رؤيته النار، فقد نودي مرة بقوله: "فَلَمَّا
جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا" (النمل 27: 8) ونودي مرة أخرى بقوله: "فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِيِء الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقَعْةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (القصص 28: 30).
وفي سورة طه: "فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً" (طه 20: 11، 12).
الجواب:
قال ذلك كله، وأخذ من الحوار ما يناسب سياق السورة، وهذا لا يعد تناقضاً، بل قمة البلاغة.
والترتيب كما يلي:
لما وصل سيدنا موسى عليه السلام إلى ما ظن أنه مصدر النار، " نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ " [النمل: 8] عندها تعجَّب وبحث عن مصدر الصوت: فـ " نُودِيَ مِن شَاطِئِ الوَادِ الأيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ". [القصص: 30] وزيادة لتثبيته وتأكيد أن ما سمعه حق لا أوهام، كُرِّر النداء مرة أخرى.. فنودي مرة ثالثة: " إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي " [طه: 13].
تكرار النداء إطناب مطلوب لتأكيد صحته، وإبعاداً لأي هاجس نفسي يشكك في مصدره، واسترعاءً لانتباهه فيكون في أقصى حالات الخشوع؛ لأهمية ما سيؤمَر به. فتكرر النداء تهيئة له ـ بنقله من جو (الخوف على أهله) إلى جو (سماع الوصايا الإلهية المباركة ووعيها) ـ وإزالةً للوحشة عنه، وزيادة في الأنس.
والإطناب في الكلام محمود في ذلك الموقف، وهو مطلوب بلاغةً؛ لإزالة الوَحشة. فسيدنا موسى عليه السلام سار مسافة في الليل، وترك أهله لوحدهم، ولم يعهد مثل ذاك الموقف عند الطور.. لأجل كل ذلك، الإكثار من الكلام المؤنِس مطلوب.
كقوله تعالى في سورة طه: " وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17)قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى(18) ". " يعني: أي شيء الذي بيدك ؟ أو ما الذي بيدك ؟ وكان عالماً بما في يده، ولكن الحكمة في سؤاله؛ لإزالة الوحشة عن موسى، لأن موسى كان خائفاً مستوحشاً. كرجل دخل على ملك وهو خائف فسأله عن شيء، فتزول بعض الوحشة عنه بذلك، ويستأنس بسؤاله ". انظر: بحر العلوم، السمرقندي 2/392.
الشبهة الخامسة:
وجود مواقف جديدة لم تحدث أصلاً في سياق القصة مثل قوله عن اليهود:
"وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ" (النساء 4: 157). فمن المعروف عقلاً ومنطقاً أن اليهود لم يقولوا إن المسيح رسول الله، لأنهم لو اعتقدوا بذلك لما قتلوه ولما صلبوه!
الجواب:
جملة: " رَسُولَ اللَّهِ " جملة معترضة، ليست على لسان اليهود. ولهذا جاءت على النصب، على تقدير: أعني رسولَ الله. والحكمة منها أمران: الأول: تأكيد عدم ألوهيته، والثاني: التنبيه إلى أنهم قتلوا شبيه عيسى عليه السلام. أي هم قتلوا شبيه عيسى عليه السلام، ولكنهم في الحقيقة لم يقتلوا عيسى رسولَ الله.
الشبهة السادسة:
جاءت المادة التاريخية في القرآن لتكون في خدمة الدعوة الإسلامية، فلم تخضع
لمناهج البحث العلمية، إنما كانت مادة موجَّهة تسيطر عليها الأغراض الدينية،
فأصبحت مُجَسِّدةً لحياة محمد وأتباعه وقومه، لا لأحداث التاريخ الحقيقية. فسِيَر
الأنبياء المذكورين في القرآن ليست حتماً هي أحداث حياتهم بقدر ما هي أحداث
الدعوة المحمدية!
الجواب:
أكثر قصص الأنبياء والدعاة في القرآن الكريم، تحوي مشاهد تتشابه مع قصص باقي الأنبياء والدعاة، والقصة القرآنية تنتقي المشاهد الملائمة لسياق الآيات الكريمة وشخصية السورة الكريمة المذكورة فيها، دليلاً عملياً صادقاً ومثالاً حياً على صحة ما فيها من تشريعات وأخلاق وسنن كونية وأساليب ناجحة في الخطاب الدعوي.
فتتحقق إحدى الأغراض الرئيسة للقصص القرآني وهي: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والدعاة المضطهدين من الطغاة، فهل يطلب مثيرو الشبهات أن يذكر الله جل جلاله قصص صبر أولي العزم من الرسل بعد الهجرة إلى المدينة، حيث المسلمين آمنين مطمئنين، فتحت لهم الدنيا ؟!
كل ذلك من محاسن القصص القرآني وصدقها، وحسن انتقاء ما يوافق من أحداثها لما يهم المسلم في كل عصر ومصر. ومن هنا نجد القرآن الكريم يقدم من خلال قصصه الحق، طرق معالجة مجرَّبة للواقعَ الذي كان يعيشه المسلمون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكر ما يتطابق من الأحداث مع هذا الواقع من ناحية، كما يعالج الواقع الذي تعيشه الأجيال والعصور الإنسانية المستقبلية من ناحية أُخرى.
فإنّ انطباق هذا الكلام على القصص والأحداث ذات العلاقة بالأنبياء وأقوامهم، أو بالتاريخ الماضي إنّما هو بملاحظة هذا البعد وتلك الصفة في القصة القرآنية، وما أجَلَّها من حكمة ! وفي قوله تعالى: " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " [يوسف:111]. إشارة إلى هذه المزية من مزايا القصص القرآني.
فمَن يستفيد مِن تجارب غيره، يضيف أعماراً إلى عمره !
كما أنها تبين عدداً من السنن الإلهية الثابتة الخاصة بالأمم والجماعات والأفراد، يتخذ منها العقلاء مرآة ينظرون منها إلى أنفسهم وحياتهم وأحوال مجتمعاتهم.
إنّ القصص التاريخية عندما تكون شتاتاً من الأحداث المتفرقة التي تتجمع وتتفرق بصورة اعتباطية، ومن دون بيان عبرة مستقاة من قانون وسنة مذكورة فيها.. تفقد الشفافية التي تمكن الإنسان أن ينظر منها إلى نفسه وعصره وأمته. ولكن عندما يكون التاريخ مجموعة من السنن والقوانين الثابتة، فإن بإمكان الإنسان أن ينظر من خلال مرآة التاريخ إلى نفسه وعصره، ويقوِّم من خلال هذه المرآة نفسه ومجتمعه.
هذا ما نص عليه القرآن الكريم:
- " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " [الأعراف: 96].
- " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ " [الأنعام: 123].
- " وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ " [يونس: 13].
- " وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ". [الرعد: 6].
- وفي سورة الإسراء: " وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16)وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(17) ".
- " فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " [النمل: 52].
- " فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ". [فصلت: 13].
- " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ". [محمد: 10].
الآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة، وكلّها تنطق بهذا الفهم العلمي الدقيق للتاريخ: فيها عبرة وسنن وقوانين وأصول ثابتة للتاريخ والحياة، فلا هزيمة ولا انتكاسة، ولا ازدهار ونمو ونضج، إلاّ بموجب قوانين وسنن إلهية ثابتة.
وهذه السنن كلها لله تعالى أوجدها بمشيئته وحكمته، وهدى إليها عباده.. وما القصص القرآني إلا نماذج تنادي بالإنسان: " التمس العبرة مني، فالعاقل من اتعظ بنفسه. ودونه من يجعل نفسه عِظةً للآخرين ".
بهذا المنطق خاطب سيدنا هود عليه السلام عاداً: " أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ". [الأعراف: 69].
ثم صالحٌ ثموداً: " وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ". [الأعراف: 74].
تلك كانت أبرز سمات القصص القرآني التي يتبين للناظر المنصف إليها، أنها مزية للقصص القرآني، ليس كمثلها قصص في الدنيا.. ومع ذلك تستمر الشبهات حول القصص القرآني تحاول النيل من صدقها وواقعيتها، وتطعن في تكرار بعضها، وتزعم أنها متناقضة ـ ولكن هيهات ـ..
للتواصل مع المؤلف:
rhim75@hotmail.com