Endomy0001
04-23-2008, 02:36 AM
بعثت بخبري جاز حد التبكير بأنسه، فحاز قصب السبق في أبناء جنسه، منظره أربى على المسك بنضرته، ومخبره قصر عن شيمك على بسطته، فأقبله بحق المجد عليك، ووسائل الحمد إليك، بهجاً منظره، أرجاً مخبره، إذا دنا الظلام ونام الأنام إلا من استدعى عرفه، واستجدى عرفه.
فجاوبته والجواب بعد صدره: فلما تعاهدت خيريك عهاد شيمك، ودامت عليه ديم كرمك، بكر متنعماً منها متنفساً عنها، ولا ند له إلا الند ولا مسك له إلا المسك، وقد قبضته مشغوفاً به مستلذاً بقربه، متعجباً من حسن اختياره لاستتاره باستهتاره تحت جناح الظلام ليسلم من الجناح والملام. وقد صنعت فيه أبياتاً بديهية متأخرة، فأغض على ما فيها محسناً إلى مهديها. وهي:
نهار خيريك في ليله ... كذلك الليل نهار الأديبْ
ينم فيه وينام الضحى ... تصاوناً عن كل أمر معيبْ
كأنما الليل حبيب له ... فهو إذا حل اكتسى كل طيبْ
كأنما الصبح رقيب له ... فيرعوي عند طلوع الرقيبْ
الند: المثل. والند: الطيب. والمسك: الجلد. قال أبو الوليد أكثر ما وصف من الخيري هذا النمام، وقلما ما وصف الأصفر وأنا ذاكر ما وقع إلي فيه:
الخيري الأصفر
من ذلك قول أبي عمر القسطلي:
أعاره النرجس من لونه ... تفضلاً وازداد من طيبهِ
وناسب النمام لما انتهى ... إلى اسمه الأدنى وتركيبهِ
وما يجري واحداً منهما ... إلا كبا في حين تقريبهِ
وأحسن من هذا قول الفقيه أبي الحسن بن علي وهو:
كأنما الخيري مستهتر ... بالحب قد أنحله العشقُ
صفرته تنطق عن حاله ... ورب حال دونها النطقُ
أعاره المزن رداء الندى ... وصفرة المتشح البرقُ
ما أوجه اللذات محجوبة ... إذا تبدى وجهه الطلقُ
وحين أحضرنا ما في الخيري الأزهر، نبدأ بالنرجس الأصفر.
النرجس الأصفر
قال الوزير أبو مروان عبد الملك بن جهور - رحمه الله - يصفه فأبدع وأعجب وأحسن وأغرب أنشدنيه له حفيده عبد الله، وهو:
واصفر حتى كأن الإلف يهجره ... وطاب حتى كأن المسك ينثرهُ
واخضر أسفله من تحت أصفره ... فراق منظره الباهي ومخبرهُ
يا نرجساً ظل قدامي تنم له ... ريح تذكرني شوقي فأذكرهُ
زمرد مائل من فوقه ذهب ... معين نابه منه ومحجرهُ
هيجت لي شجناً قد كان فارقني ... ذكرتني بالذي ما زلت أؤثرهُ
وكتب الوزير الكاتب أبو مروان بن الجزيري إلى المنصور أبي عامر - رحمهما الله - عن نرجس العامرية في أول يوم من كانون الآخر سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة فأبدع واخترع وهو:
حيتك يا قمر العلا والمجلس ... أزكى تحيتها عيون النرجسِ
زهراً تريك بشكلها وبلونها ... زهر النجوم الجاريات الكنسِ
طلعت مطالعها على مخضرة ... من سوقها كسيت برود السندسِ
فتزينت حسناً أتم تزين ... وتنفست طيباً ألذ تنفسِ
وملكن أفئدة الندامى كلما ... دارت بمجلسهم مدار الأكؤسِ
ملك الهمام العامري محمد ... للمكرمات وللنهى والأنفسِ
لبس الزمان وأهله من عهده ... وفعاله المشكور أكرم ملبسِ
فإذا ذهبت إلى الثناء فقفه من ... بين الأنام على علاه واحبسِ
ولأبي عمر القسطلي فيه قطعة بديعة تضمنت أوصافاً رفيعة، موصولة بمدح المظفر بن أبي عامر وهي:
شكلان من راح وروضة نرجس ... يتنازعان الشبه وسط المجلسِ
متباهيين تلوناً بتلون ... متباريين تنفساً بتنفسِ
فكأنها من حد سيفك تلتظي ... وكأنه من طيب خلقك يكتسي
يا من علا من رتبة في رتبة ... حتى غدا وسط النجوم الخنسِ
وابن الذين هداهم ونهاهم ... أدب الملوك وأسوة للمؤنسي
ومن أنفس ما ملح به في النرجس قطعة للوزير الكاتب أبي الأصبغ بن عبد العزيز وكان يلبس ثوباً رفيع القدر، نرجسي اللون، وهي:
رأيت عباداً له ملبس ... في حشوه الجود معاً والكرمْ
فقلت سبحان العزيز الذي ... أودع ذا الثوب رفيع الهممْ
أروع في سؤدده سابقاً ... أبيض مثل البدر بادي الشممْ
كأنما صفرة أثوابه ... وطيبها نرجسه إذ تشمْ
قد كنت يا نرجس من قبل ذا ... تبخس من حقك ما قد علمْ
فالآن فافخر في جميع الورى ... على النواوير وحاشاك ذمْ
بعز من قد حزت تشريفه ... وفضل من لا فارقته النعمْ
وأنشدني لنفسه الفقيه أبو الحسن بن علي في النرجس الكبير الذي تسميه العامة القادوسي تشبيهاً بالقادوس على لغتهم، وصوابه القدس أبياتاً رقاقاً تضمنت معاني دقاقاً موصوله بمدح الحاجب سراج الدين الثاقب وهي:
في النرجس القدسي النور والقصب ... حسن يفوق به تربيه في النسبِ
له من التبر كأس قاعه لحج ... موسع العلو قد أبداه للعجبِ
مشم طيب إذا استنشيت زهرته ... وظرف أنس إذا ما شئت للنخبِ
ومائل الجيد من سكر النعيم به ... حكى ثنى الثمل المشغوف باللعبِ
كغادة ثوبها من سندس طلعت ... للشرب في كفها كأس من الذهبِ
فكيف يعقل حظ النفس من طرب ... من كان يلحظ هذا الحسن من كثبِ
ثم دخل إلى المدح فقال:
يا حاجباً رقمت في الكتب سيرته ... بالحبر وانتقشت بالتبر في القضبِ
ويا عماداً له يوماً ندى ووغى ... ذا للأيادي وذا للبيض واليلبِ
إن دمت للعجم لم يعجم لها خبر ... وأعرب السعد بالإقبال للعربِ
قوله: حسن يفوق به تربيه يعني النرجس الأصفر المعروف، والنرجس المسمى بالبهار وقوله قاعه لحج اللحج: الضيق، ولم أر لأحد قبله في هذا الصنف من النرجس وصفاً، وهو معدوم عندنا بإشبيلية.. وكان كتب إلي مع هذه القطعة بيتين وهما:
اسأل أبا عامر عنه ابن مسلمة ... تسأل خبيراً بمعنى الظرف والأدبِ
إن صار قوم إلى قصف على مهل ... طواهم بخطا التقريب والخببِ
وقال صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية يصفه في أبيات وهي:
زبرجد فوقه نضار ... مخلص لم تذبه نارُ
كأنما هب من كراه ... وسنان أو شفه انكسارُ
وطاب عند المشم حتى ... للمسك من بينه انتشارُ
قد شارك الدهر فهو ليل ... وافاه من صبحه اصفرارُ
فأول الخلق منه ليل ... ومنتهى خلقه نهارُ
أبدعه في الرياض منش ... له على الخلقة اقتدارُ
شبه خضرة سوقه بسواد الليل، والخضرة والسواد عند العرب بمنزلة. ويقرب من معنى هذا القطعة ما أنشدنيه لنفسه فيه الفقيه أبو الحسن بن علي وهو:
أرى النرجس التبري يعنو له الفكر ... ويقصر عن أوضافه النظم والنثرُ
كأن الدجا قد صاغ خضرة ثوبه ... وألقى عليه حسن صفرته الفجرُ
تخال به في الروض أقيال معشر ... ثيابهم خضر وتيجانهم صفرُ
يحييك بالتأنيس رونق حسنه ... ويلقاك منه قبل رؤيته النشرُ
قال أبو الوليد: ولي قطعة في النرجس موصولة بمدح ذي الوزارتين عباد - وصل الله حرمته وأطال مدته - وهي:
وروض أريض لم يزل يغتذي بما ... يروح عليه من سحاب ويغتدي
بدا النرجس المصفر فيه مباهياً ... بلون كلون المستهام المسهدِ
ترى كل نور منه فوق قضيبه ... كلمة تبر فوق جيد زبرجدِ
إذا ما سرى منه نسيم لواله ... سرى عنه جلباب الجوى المتوقدِ
حكى منظراً نصراً وخبراً خلائق الن ... نجيب أبي عمرو سليل محمدِ
فداه عداه كم له من فضيلة ... وفضل ندى يغني به كل مجتدِ
قال أبو الوليد: هذا ما جمعته في النرجس، ويجب أن نبدأ بذكر الورد، ونورد ما وقع إلينا فيه من تمثيل حسن وتشبيه.
الورد
لم يوجب تأخير أمره، ولا ولد إرجاء ذكره تأخر منزله، ولا انحطاط رتبته، وإنما بنينا أن نقدم من تقدم به زمانه، ونبدأ بمن بكر به أوانه، وقد مضت مشاهير الأنوار المبكرة التي كثر القول فيها، وتردد الوصف لها.
فمن المستندر في الورد قول الحاجب أبي الحسن جعفر بن عثمان المصحفي وقد أهدى إليه الوزير زياد بن أفلح ورداً سيق إليه من ريه في شهر كانون الآخر وهو - أعني قول المصحفي - :
لعمرك ما في فطرة الروض قدرة ... تحيل بها مجرى الزمان عن الحدِّ
ولكنما أخلاقك الغر نبهت ... بربعك في كانون نائمة الوردِ
كأنك قد أمطرتها ديمة المجد ... وأجريت في أغصانها كرم العهد
فلما وصل هذا النظم المستملح إلى زياد بن أفلح بعث إليه بوردة كان احتبسها لنفسه فكتب إليه ثانية بيتين وهما:
فاجأني كانون بالورد ... فزادني وجداً إلى وجدِ
ورد العلا أهدى لنا وردة ... يا حبذا الورد من الوردِ
ومن السري السني قول الوزير الكاتب أبي مروان الجزيري رحمه الله:
أهدى إليك تحية من عنده ... زمن الربيع الطلق باكر وردهِ
يحكي الحبيب سرى لوعد محبه ... في طيب نفحته وحمرة خدهِ
وكتب أيضاً أبو مروان إلى الوزير أبي مروان عبد الملك بن شهيد في أخريات أيام الورد بأبيات أنيقة الصفات وهي:
قل للوزير الذي جلت فضائله ... فسر لنا شرح معنى سال سائلهُ
وأي وصليه موجوداً ومفتقداً ... أولى وأجدر أن ترعى وسائلهُ
وقد أتاك لتوديع على عجل ... خضراً مقانعه حمراً غلائلهُ
فامنحه منك قبولاً واقض نهمته ... من الوداع فقد شدت رواحلهُ
لا زلت دهرك محبواً زيارته ... إذا انقضى عامه وافاك قابلهُ
وبلغني أن الوزير ابن شهيد جاوبه بأبيات لم تقع إلى ولا وردت علي. وأنشدني الوزير أبو عامر بن مسلمة للوزير أبيه - رحمه الله عليه - أبياتاً مطبوعة كتب بها إلى الوزير عيسى بن سعيد يستدعيه إلى الفصد، تضمنت وصفاً حسناً للورد وهي:
ما يطيب التفجير دون صديق ... ممحص مخلص شقيق شفيقِ
وقد اخترته نهاراً بهياً ... كمحياك مستنير الشروقِ
عندنا الورد قد تألف من لو ... نين لون المها ولون العقيقِ
كخدود تبرقعت بحياء ... فوق ديباجها الأنيق الدقيقِ
فتفضل وخف نحو صديق ... أنت في نفسه أجل صديقِ
ونزل أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي على بني أرقم بوداي آش فقدم إليه فيما أكرم به طبق ورد، وكان في فصل الشتاء فاستغربه، ثم أخذ منه وردة واحدة وقال بديهية:
يا خدود الحور في إخجالها ... قد علتها حمرة مكتسبهْ
اغتربنا أنت من بجانة ... وأنا مغترب من قرطبهْ
واجتمعنا عند إخوان صفاً ... بالندى أموالهم منتهبهْ
عصبة إن سئلت عن نسبة ... فإلى أرقمها منتسبهْ
إن لثمي لك قدامهم ... ليس فيه فعلة مستغربهْ
لاجتماع في اغتراب بيننا ... قبل المغترب المغتربهْ
ومما يستحسن فيه، وتستملح معانيه، قطعة لأبي عمر أحمد بن دراج القسطلي، موصولة بمدح المظفر بن أبي عامر - رحمه الله - وهي:
ضحك الزمان لنا فهاك وهاته ... أو ما رأيت الورد في شجراته؟ِ
قد جاء بالتأريخ من أغصانه ... وبخجلة المعشوق من وجناتهِ
وكساه مولانا غلائل سيفه ... يوماً يسربله دماء عداتهِ
من بعد ما نفخ الحيا من روحه ... فيه وعرف المسك من نفحاتهِ
إن كان أبدع واصف في وصفه ... فلقد تقاصر عن بديع صفاتهِ
كمديح سيف الدولة الأعلى الذي ... أعيا فأغيا في مدى غاياتهِ
ملك ينم الجود في لحظاته ... واليمن والإيمان في عزماتهِ
وحياته إن كان أبقى حاجة ... لمن ارتجاه غير طول حياتهِ
ولأبي القاسم بن شبراق في وردة لم تفتح وصف حسن مستملح:
خجلت إذ تأملتها العيون ... خجلاً في احمرارها يستبينُ
وردة وردت دموعي شوقاً ... للتي خدها بها مقرونُ
بنت غصن يقر بالكرم الده ... ر لها في رياضها والغصونُ
واستسرت عن العيون حياء ... وعرا عرفها الذكي سكونُ
سترت وجهها ببرقعها واس ... تقبلنا من الفتون فنونُ
كالفتاة الحيية انتقبت كي ... لا يرى وجهها الجميل المصونُ
وكتب الوزير أبو عامر بن مسلمة إلى ذي الوزارتين أبي عمرو عباد - أعزه الله وأحسن ذكراه - في زمن الورد يصفه فأحسن الوصف وأبدع التشبيه أنشدنيه وهو:
عباد يا خير الورى ... ومن به تزهى المدحْ
يا قمر الأرض ومن ... علا سماء ورجحْ
أما ترى الورد وقد ... رنا بطرف ولمحْ
كأنه دم جرى ... على طلى بيض وضحْ
أو خد غض عضه ... لحظ محب فانجرحْ
كأنما نسيمه ... عن خلق منك نفحْ
وبعث الفقيه أبو الحسن بن علي بورد مبكر في سباط إلى ذي الوزارتين القاضي - أعزه الله وأذل عداه - وكتب معه:
ليهنك يا واحد المكرمات ... وأهدى الملوك لقصد الصراطِ
جني من الورد قد حثه ... إليك تودده في سباطِ
وما ذاك أيام إقباله ... ولا وقت تنضيده في البساطِ
أصاب بإسراعه فاحبه ... وغفراً لسائره فهو خاطِ
وقال أيضاً الفقيه أبو الحسن يصفه في قطعة رائقة متضمنة لصفات فائقة موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي - أيد الله يده وحصد من حسده - :
للورد فضل السبق عند المفخر ... بالمنظر السامي وطيب المخبرِ
ورق من الياقوت نظم فوقه ... شذر من الذهب السبيك الأصفرِ
ونسيم فوح ليس يبلغ طيبه ... عبق العبير ولا دخان العنبرِ
نقص الزمان ضنانة من عمره ... وكذا النفيس القدر غير معمرِ
والنور غير الورد ليس لشخصه ... دون السباطة ذابلاً من مقصرِ
والورد يرفع غضه ويبيسه ... رفع الأكف طروف مسك أذفرِ
عمت منافعه كما عم الورى ... جود ابن عباد فريد الأعصرِ
وله أيضاً فيه بيتان استوليا على غاية الإحسان وهما:
نظر إلى الروض غير متئد ... تبصر جمالاً يصوغه الدهرُ
كأنما الورد فيه أطباق يا ... قوت عليها مغالق صفرُ
ولصاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية فيه قطعة سرية موصولة بمدح ذي الوزارتين أبي أيوب بن عباد أبقاه الله وأسبغ عليه نعماه وهي:
نور الربا خول والورد سلطان ... بذا قضى قبل آذار ونيسانُ
سر طوته فصول العام حاسدة ... لفضله إذ له السلطان والشانُ
حتى إذا ما الربيع الطلق نم به ... بدا وقد ضاق عن مثواه كتمانُ
معالجاً فتح أوراق تطبقه ... كما يعالج فتح العين وسنانُ
حتى تفتح من أكمام بردته ... كما تفتح بعد النوم أجفانُ
أما النسيم فطيب لا أكيفه ... واللون حسناً به الألوان تزدانُ
فما سوى الورد في النوار من ملك ... ولا كمثل أبي أيوب سلطانُ
ملك يريك اهتزاز الروض يتبعه ... حلم رسا منه فوق الأرض ثهلانُ
وللوزير الكاتب أبي حفص بن برد فيه أبيات بديعة ورفيعة التشبيه وهي:
هذا الربيع وكنت ترقبه ... فانظر بعيشك كيف تصحبهُ
قد نشرت حلل النبات به ... فبدا مفضضه ومذهبهُ
والورد قد سمت الغصون به ... تجلوه والأبصار تخطبهُ
والشمس قد ضرب الضحاء بها ... في صبغه فذكاء تلهبهُ
فكأن من يهواه مخجله ... وكأن رياه مطيبهُ
وكتب أبو جعفر بن الأبار إلى الوزير أبي عامر بن مسلمة في زمن الربيع يصف الورد ويحضه على إيثار الأنس، وجلاء صدأ النفس، فأحسن إحساناً يقرب على متأمليه، ويبعد على متناوليه، ووصف الورد بعد صدر متقدم من الشعر:
الورد ورد للعيون من الظما ... فاذكر أذمته الوكيدة واحفظِ
في لبسة التقوى يروقك منظراً ... فامنحه بالإنصاف طرفك والحظِ
وإذا الهجوع نأى فخير منوم ... وإذا السرور دنا فأحسن موقظِ
يا ممطري بفعاله ومقاله ... ومحافظي بوداده لا محفظي
افطن إذا أبدى الزمان تبالهاً ... وإذا تواهن جفنه فاستيقظِ
وبكل صرف فاستقد من صرفه ... وافظظ برقتها عليه وأغلظِ
فالهم يفرق من لآليء فرقها ... والحزن يطفأ عن سناها الملتظي
صفراء صفر الكأس من جثمانها ... تتخطف الأبصار مهما يلحظِ
لا زلت تسلم يا بن مسلمة الرضا ... معطي الأمان من الخطوب البهظِ
قوله: في لبسة التقوى يعني الحياء، ومن قول الله تعالى: " وريشاً ولباس التقوى " ، قيل: الحياء. وقوله: محافظي. هو من الحفظ والمراعاة. ومحفظي: من الإحفاظ وهو الإغضاب. وقوله: فالهم يفرق: يرتاع، ويفزع. والفرق لغة في المفرق من الرأس. وقوله: صفر الكأس من جثمانها: الصفر: الخيالة، والجثمان: الجسم، وفيه لغتان جثمان وجسمان. فجاوبه الوزير أبو عامر بن مسلمة بأبيات بديعة الصفات بزيعة الكلمات وهي:
يا واحد الأدباء غير مدافع ... ومن اغتدى في الفهم ناراً تلتظي
وافاني الشعر البديع نظامه ... فأزاح عني كل أمر محفظِ
فخراً لورد الروض إذ حاز المدى ... ببدائع من ذهنك المتيقظِ
الورد عندي في الخدود نفاسة ... ورياسة مهما يقس أو يلحظِ
هو آخر وله التقدم أولاً ... كم آخر قد حاز مفخر من حظي
وقد اعتمدت على الذي حبرته ... في نظمك الزاري بلفظ اللفظِ
وفضضتها صفراء يعشي ضوؤها ... حدق العيون الرانيات اللحظِ
قال أبو الوليد: وأهدى إلي صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية ثلاث وردات ليلة المهرجان، وكتب إلي معها أبياتاً أنيقة المعنى دقيقة المغزى وهي:
بعثت بأغرب الأشياء طراً ... وأعجبها لمختبر ومخبرْ
بورد ناعم غض نضير ... يروقك ناسماً طوراً ومبصرْ
أتى في المهرجان فكان فوق ال ... بكير غرابة وهو المؤخرْ
وإغراب المؤخر عن أوان ... يجيء به كإغراب المبكرْ
ولما أن غشيت الروض منه ... بروض فيك من مدحي منورْ
وقلت له: استمع لحلى كريم الس ... سجايا منتقى من سر حميرْ
تفتح من كمائمه وأبدى ... من النفحات ما قد كان أضمرْ
فماء ثناؤك العالي سقاه ... ومن أخلاقك العليا تفطرْ
فأوسعه القبول ودم عزيزاً ... مكيناً ما جرى نجم وغورْ
فلما وردت الورد الثلاث علي، ووصلت إلي، بعثت إلى أبي - وقاه الله بي - وكتبت إليه معها أربعة أبيات بديهية وي:
يا من تأزر بالمكارم وارتدى ... بالمجد والفضل الرفيع الفائقِ
انظر إلى خد الربيع مركباً ... في وجه هذا المهرجان الرائقِ
ورد تقدم إذ تأخر واغتدى ... في الحسن والإحسان أول سابقِ
وافاك مشتملاً بثوب حيائه ... خجلاً لأن حياك آخر لاحقِ
ولي أيضاً فيه قطعة موصولة بمدح أبي - أبقى الله علي ظله وقدمني إلى المنون قبله - وهي:
إنما الورد في ذرى شجراته ... كأجل الملوك في هيئاتهْ
راشق منظراً وخبراً وفذ ... في حلاه التي حلت وصفاتهْ
نفحة المسك من شذا نفحاته ... خجل الخد من سنا خجلاتهْ
مزجت حمرة اليواقيت بالدر ... ر فجاءت به على حسب ذاتهْ
مثلما جاء من سماح وبأس ... خلق الحميري سم عداتهْ
إن يعد فالوفاء حتم عليه ... فرضه في صلاته كصلاتهْ
ولي قطعة نثر كتبت بها إلى صاحب الشرطة أبي الوليد بن العثمان وبعثت معها ورداً مبكراً: بعثت بخدود المعشوقين قد أدمتها ألحاظ العاشقين، وأدمنت عليها ناظرة فتساقطت هكذا ناضرة فاحكم على العيون للخدود على ألا تعود إلى الصدود والسلام.
قال أبو الوليد: وحين استوفيت ما حصل عندي من الوصف للورد أبدأ بذكر ما عثرت عليه من المستحسن في وصف السوسن فهو صاحب الورد في زمانه، ومشاركه في أوانه.
السوسن
قال أبو الوليد: يقال: سوسن وسوسان بالألف ودونها، وقد تكررت في الشعر اللغتان، وترددت التسميتان. فمن مليح ما جاء فيه، وشبه به، قول أبي عمر أحمد بن فرج الجياني وهو:
بعثت بسوسن نضر ... ينم كجونة العطرِ
كأكؤس فضة فيها ... نفايا شهلة الخمرِ
أو الوجنتان منك دنت ... إلى وجناتي الصفرِ
وللوزير الكاتب أبي مروان بن الجزيري فيه وصف مفضل له، مستحسن منه وهو:
وملسن الطاقات أبيض ناصع ... يزهى بأصفر من جناه فاقعِ
أعداد زهرته إذا حصلتها ... ست سوى عدد الرقيب السابعِ
سكنت قرارة حجره كلفاً به ... كالأم تكلف بالصغير الراضع
صافي الأديم إذا تخلق صدره ... بخلوق أرؤسها الذكي المائع
أهدى الصبابة والهوى بنسيمه ... وبديع منظره الأنيق الرائع
سموه بالسوسان ظلماً واسمه ... في ما خلا ساسان غير مدافع
لما استذاع بفارس كلفت به ... أملاكه فدعته باسم شائع
الرقيب: هو القائم في وسط السوسنة وساسان: اسم ملك فارسي. أراد بهذا التمليح التنويه به، والترفيع من قدره. ومن المستندر المستحسن في وصف السوسن، قول أبي عمر الرمادي وهو:
سوسن كالسوالف البيض لاحت ... لمحب متيم من حبيبِ
قد أعارت عيوننا كل حسن ... وأعارت أنوفنا كل طيبِ
بعضها عاشق لبعض فبعض ... لمحب والبعض للمحبوبِ
فالحبيب المبيض منها إذا اصفر ... ر سواه اصفرار صب كئيبِ
لهما ثالث أناف كواش ... قام يحكي هواهما كالخطيبِ
فهما وهو في جميع المعاني ... كحبيب وعاشق ورقيبِ
ولأبي بكر يحيى بن هذيل فيه تشبيه أنيق، وتمثيل دقيق وهو:
ورب سوسنة قبلتها كلفاً ... ومالها غير نشر المسك منشوقِ
مصفرة الوسط مبيض جوانبها ... كأنها عاشق في حجر معشوقِ
ولأبي بكر هذا فيه قبل أن يتفتح وصف استحسن واستملح وهو:
فأول ما يبدو فخلق سبيكة ... مخلصة بيضاء أتقنها السبكُ
بنت نفسها فوق الزمرد واقفاً ... فلاحت كمثل الدر ضمنه السلكُ
جنى سوسن لولا سنا بشراته ... لما زين الأفواه ثغر ولا ضحكُ
ولبعض شعراء الأندلس وقد دخل على المنصور بن أبي عامر - رحمه الله - وبين يديه ثلاث سوسنات إحداها لن تفتح، فسأله وصفها فقال بعد أبيات لم أحتج إلى ذكرها:
تبدو ثلاث من السوسان قائمة ... وما تشكى من الإعياء والكسلِ
فبعض نواره بالحسن منفتح ... والبعض منغلق عنهن في شغلِ
كأنها راحة ضمت أناملها ... ممدودة ملئت من جودك الخضلِ
وأختها بسطت منها أناملها ... ترجو نداك كما عودتها فصلِ
قال أبو عمر أحمد بن دراج القسطلي يصفه فأحسن وأبدع، وأغرب واخترع:
إن كان وجه الربي مبتسماً ... فالسوسن المجتلى ثناياهُ
يا حسنه سن ضاحك عبق ... بطيب ريا الحبيب رياهُ
خاف عليه الحسود عاشقه ... فاشتق من ضده فسماهُ
وهو إذا مغرم تنسمه ... خلى على الأنف منه سيماهُ
كما يخلي الحبيب غالية ... في عارضي إلفه لذكراه
قوله: خاف عليه الحسود. البيت، يعني أنه سماه سوءاً وهو حسن خوف العين والحسد، وهو تمليح مستحسن.
ولأبي عمر أيضاً فيه وصف ثان معدوم المثال موسوم بالجمال صح عندي أن عبادة بن ماء السماء كان يقول: لم يخترع بالأندلس في معنى من المعاني كاختراع القسطلي في السوسان وهو في قطعة مطولة كتب بها إلى المظفر ابن أبي عامر أنا ذاكر منها ما تشبث بذكر السوسان من المستحسن وهو:
جهز لنا في الروض غزوة محتسب ... واندب إليها من يساعد وانتدبْ
واهزز رماحاً من تباشير المنى ... واسلل سيوفاً من معتقة العنبْ
وانصب مجانيقاً من النيم التي ... أحجارهن من الرواطم والنخبْ
لمعاقل من سوسن قد شيدت ... أيدي الربيع بناءها فوق القضبْ
شرفاتها من فضة وحماتها ... حول الأمير لهم سيوف من ذهبْ
مترقبين لأمره وقد ارتقى ... خلل البناء ومد صفحة مرتقبْ
كأمير لونة قد تطلع إذ دنا ... عبد المليك إليه في جيش لجبْ
فلئن غنمت هناك أمثال الدمى ... فهنا بيوت المسك فاغنم وانتهبْ
تحفاً لشعبان جلا لك وجهه ... عوضاً من الورد الذي أهدى رجبْ
واستوف بهجتها وطيب نسيمها ... فإذا دنا رمضان فاسجد واقتربْ
الشرفات: أوراق السوسن، والسيوف: النواوير المصفرة في أسفلها. والأمير القائم وسط السوسنة هو من الاختراعات الشريفة، والابتداعات البديعة.
ولأبي بكر عبادة بن ماء السماء إلى صديق له يستهديه سوسناً أبيات وصفه فيها وصفاً مستحسناً:
دمت بإنعام وإحسان ... إن أنت أنعمت بسوسانِ
لو كان نفساً حيوانية ... ما كان إلا نفس إنسانِ
كأنه أنمل حسناء لم ... تخضب يديها خوف غيرانِ
وأنشدني لنفسه فيه الوزير أبو عامر بن مسلمة أبياتاً مطبوعة محكمة وهي:
وسوسن راق مرآه ومخبره ... وجل في أعين النظار منظرهُ
كأنه أكؤس البلور قد صنعت ... مسدسات تعالى الله مظهرهُ
وبينها ألسن قد طرفت ذهباً ... من بينها قائم بالملك تؤثرهُ
كأنه خلق ميم في تعقفه ... مداده ذوب عقيان يصفرهُ
قال صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية يصفه بأوصاف سرية وهي:
أما ترى الروض حسا ... بياً نحا إقليدسه
فصور السوسن من ... دائرة مسدسه
مدهنة من فضة ... بتبرها ملبسه
واضحة فاضحة ... صاحبها مدلسه
إن رام كتم لثمها ... وشمها انظر معطسه
تجد بقايا طيبه ... بأنفه محتبسه
وفوقها رقيبة ... منها لها محترسه
نابلة رامحة ... سائفة مترسه
كان اسمها نسوس لا ... كن قرئت منكسه
قوله: فوقها رقيبة يعني القائمة وسط السوسنة. نابلة: ذات نبل، جعل التي تحدق بالرقيبة في أسفلها نبلاً وجعل أيضاً منها رماحاً في قوله: رامحة وسائفة: يحتمل أن يجعل الوشائع الصفر التي حول الرقيبة سيوفاً ويحتمل أن تكون السيوف الأوراق البيض. ومترسة: ذات ترس. ولا شك أنه من الأوراق البيض. وقوله: نسوس أراد مستقبل فعل الساسة، وهو مليح فيه معنى التنويه به. وللفقيه أبي الحسن بن علي فيه أوصاف حسنة وتشبيهات جيدة فمنها قوله:
أرى صفرة السوسان فوق بياضه ... كصفو مدام في إناء مفضضِ
بدا مثل حق العاج في فرع غصنه ... بأكرم ملبوس وأجمل معرضِ
ولما دنا وقت النثار تشققت ... نواويره عن حلي حسن له نضي
كذاك حقاق الحلي صون لما حوت ... كفات له من خاتل متعرضِ
قوله: نضي بمعنى: جرد. كفات له: أي ستر. قال الله عز وجل: " ألم نجعل الأرض كفاتاً " أي ستراً. وخاتل: بمعنى خادع.
وأنشدني أيضاً لنفسه أحسن تشبيه موصولاً بمدح ذي الوزارتين أبي عمرو عباد - حرس الله نفسه، كما قدس غرسه - وهو:
كأنما السوسن الدري ألسنة ... تمجد الله مجري التبر في غربه
أندى النواوير إن قبلت صفحته ... حباك من طيبه حظاً ومن ذهبه
وما أرى غير عباد له شبهاً ... في الحسن والفوح والمأثور من أدبه
ومن المستندر المختار أبيات كبت بها أبو جعفر بن الأبار وهي:
أنعم فقد حسن الزمان وأحسنا ... وتبالهت عنك الخطوب لتفطنا
أو ما ترى برد الربيع مفوفاً ... يصبي العيون بمجتلى وبمجتنى
والسوسن العبق الجيوب تخاله ... من ناصع الكافور صور ألسنا
حفت قراضات النضار مجرداً ... منه أقلتها قصيرات القنا
فكأنما أوراقه وكأنه ... بيض سللن لقتل جان قد جنى
المجرد: هو القائم وسط السوسنة. والقراضات: هي النواوير الصفر في أسفلها وكأنه في آخر بيت كناية راجعة إلى المجرد، وهو تشبيه قوي وتمثيل سري.
ولأبي جعفر بن الأبار أيضاً أبدع تشبيه وهو:
كأنما السوسن الغض ... ض منظراً حين يلحظ
فهر بهاؤون در ... مشطب قد تعظعظ
الفهر: القائم وسط السوسنة، والهاؤون: سائرها وتعظعظ: مال وعدل. ولأبي علي إدريس بن اليمان فيه أوصاف مستطرفة، وتشبيهات مستظرفة منها قوله:
ممهى الحسن مشقوق الجيوب ... له وجه البريء من الذنوبِ
تفرج عن مناكبه قميص ... تفرج لوعة الدنف الكئيبِ
وقد علت عمامته بورس ... فقام بلا خطاب كالخطيبِ
على أنبوب كافور يراع ... تضمن بطنه ينبوع طيبِ
الممهى: المرقق: يقال: أمهيت السيف أمهيه: إذا أرهفته وجلوته. وبنى القطعة كلها على وصف القائم وسط السوسنة.
ولأبي علي إدريس بن اليمان أيضاً قطعة بديعة التشبيه موافقة الوصف لكل ما فيه وهي:
وضاحك كالفلق ... عن فلج في روقِ
على جفاني مرود ... مذهب مندلقِ
كمنتج من غرق ... وخارج من نفقِ
بين اصفرار فاقع ... على ابيضاض يققِ
كأنما كلاهما ... في راحة أو طبقِ
برادة من ذهب ... في ورق من ورقِ
الفلج: الفرجة بين الأسنان، والروق: طولها. والحفافان: الجانبان وعنى بالمرود القائم وسط السوسنة. والمندلق: الناتيء المندفع.
قال أبو الوليد: ولي فيه قطعة فيها اختراع تشبيه وصلتها بمدح الحاجب - حجبه الله بي عن النوائب - وهي:
وسوسن يتهادى ... للأنس بالراحتين
نعم المواصل لو لم ... يعد بنأي وبين
كأنما خلقه الفذ ... ذ خسة من لجين
أو أنمل بضة ما ... تركبت في يدين
وبينها حارس لا ... ينام طرفة عين
علا وأشرف منها ... على جمال وزين
كما علا الحاجب المن ... تقى على الشعريين
ملك به حال دهري ... بين الخطوب وبيني
قال أبو الوليد: ووقعت إلي في السوسن الأزرق وهو الخرم صفات محكمة وتشبيهات متقدمة.
الخرم
فمن بديعها ورفيعها قول الوزير أبي عامر بن مسلمة وهو:
ألا حبذا السوسن الأزرق ... ويا حبذا حسنه المونقُ
حكى لونه لون فيروزج ... جرى وسطه ذهب مشرقُ
وللفقيه أبي الحسن بن علي فيه أبدع اختراع وأغرب تشبيه وهو:
لاح لي خرم الصحارى فراق ال ... عين تدبيجه العجيب وورده
جاء كالزائر الموافي لوعد ... بعد أن طال بالأحبة عهده
أطلعت حلتاه وشياً وتبراً ... زان ذا رقمه وذا لازورده
أي نصل يفري الحوادث لو دا ... م لجانيه ماؤه وفرنده
وله أيضاً فيه قطعة موصوة بمدح أبي - وقاه الله بي - وهي:
بز ثوب البهاء واللألاء ... زهر الروض خرم الصحراءِ
عاف ثوب البياض لون أخيه ... وتردى بحلة زرقاءِ
لتراه العيون في حلة يح ... كي سنا نورها أديم السماءِ
لو حواها الطاووس أصبح لا شك ... ك مهناً بملك طير الهواءِ
عزة في طباعه وعلو ... قد أناف به على العلياءِ
كحبيب بن عامر فهو فذ ... في اقتناء العلا وكسب الثناءِ
ومن التشبيه السني فيه والوصف السري له قول صاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية وهو:
ومغرب اللون في مسلاخ طاووس ... فيروزجي بصنع الله مغروسِ
كأنما اختلست قطعاً غلائله ... من الغمائم أو فضل الحناديسِ
شخت المآزر لاذي الظهائر قد ... أتاك يرفل في ثوب له سوسي
كأنه كسف أفق ماله حبك ... أو لازورد أو أذناب الطواويسِ
كأن رشح سقيط الظل أوسطه ... نضح يمد على آثار تدنيسِ
لا زال في مجلسي آنا بهيئته ... ولا توخى اسمه شملي ولا كيسي
إنما عمى في البيت الآخر الخرم اسمه، دعا ألا يتوخى الخرم شمله ولا كيسه.
قال أبو الوليد: ولي فيه تشبيه طابقه وهو:
وخرم حلو الحلى ... يبدو لعيني من لمح
تلوناً ومنظراً ... كأنه قوس قزح
قال أبو الوليد: لم يقع إلي في السوسنين غير ما أوردته. ومن النواوير المشاهير التي كثر القول فيها والوصف لها نور النيلوفر، وأنا مودع بابه ما حصل عندي فيه من المستندر.
النيلوفر
من السابق في ميدان التفضيل الفائق عند أهل التحصيل قول ذي الوزارتين القاضي الجليل أمله علي وهو:
يا حسن بهجة ذا النيلوفر الأرج ... وطيب مخبره في الفوح والأرجِ
كأنه جام در في تألفه ... قد أحكموا وسطه فصاً من السبجِ
وله - أعزه الله وأذل عداه - يصفه بوصفين غريبين، ويشبهه بتشبيهين، عجيبين في قطعة واحدة وهي:
كأنما النيلوفر ال ... مستحسن الغض البهج
مقلة خود ملئت ... سحراً وغنجاً ودعج
أو خاتم من فضة ... وفصه من السبج
شبه في البيت الثاني بالعين السواد الذي بين بياضه وهو أولى بهذا التشبيه، وأحق أن يصاغ فيه من كل ما شبه بالعين من البهار وغيره الذي لا سواد فيه يؤيد حقيقة تشبيهه وينصر صحة تمثيله. ومثل هذا التشبيه المعدوم التشبيه، والتمثيل المنقطع المثيل لو وقع لمشتغل بصناعة الشعر، عاكف على صناعة النظم مجهد نفسه فيها معان لمعانيها لاستغرب غاية الاستغراب، واستعجب نهاية الاستعجاب. فكيف ترى فضله وتعاين نبله. وهو لا يعاني هذا ولا يتفرغ له، وإنما هو عفو سجيته وفي بديهته - صان الله لنا حذقه كما أوجب علينا حقه - .
وقال أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي يصفه فأبدع بدعاً في قطعة جمعت الجزالة الرقة معاً وهي:
إذا سقى الله روضة مطراً ... فخص بالسقي كل نيلوفرْ
تستر أوراقه زمرده ... ليلاً وعند النهار لا تسترْ
خافت عليه اللصوص فاشتملت ... عليه ليلاً من خوف أن يظهرْ
إذا الزنابير من مغالقه ... لم تتحفظ فبينها تقبرْ
كأن أجفانه جفون الذي ... أهواه لا تستطيع أن تسهرْ
كأنها كؤوس فضة فرشت ... قيعانها بالزمرد الأخضرْ
تنعم في حسنه ونكهته ... فأنت في منظر وفي مخبرْ
الزنابير: جمع زنبور، وهي النحل، وإنما عنى بالبيت انغلاق أوراقه ليلاً، وقصد النحل دون غيرها لأن النيلوفر يسمى قاتل النحل لطلبها أبداً أكل ما داخل أوراقه فربما فعلت ذلك وقت انغلاقه فامتنعت من الخروج.
ولم أر لكل من صنع فيه، وعني بوصفه ذكر أمر الزنابير إلا للفقيه أبي الحسن ابن علي في قطعة عجيبة أنشدنيها وهي:
ما لنيلوفر الحدائق يقظا ... ن مع النور هاجعاً في ظلامهْ
أشبه الإنس في تصرف حالي ... ه ووقتي سهاده ومنامهْ
وتوقيه في الدياجي بإغلا ... ق نواويره وضم كمامهْ
لقبوه بقاتل النحل لما ... أبصروا النحل مقصداً لسهامهْ
لم يجر في القصاص إذ ذلك لص ... سارق بالنهار شهد ختامهْ
وللوزير الكاتب أبي الأصبغ بن عبد العزيز في انغلاقه تشبيه دقيق، وتمثيل أنيق وهو:
ونيلوفر فاق في فضله ... صنوف النواوير من شكلهِ
وفاتهم بالذي حازه ... كما قصر الكل عن نيلهِ
يبيح نهاراً لزواره ... محياً يرغب في وصلهِ
ويمنع بالليل من وجهه ... ليأخذ بالحزم في فعلهِ
كبائع عطر بحانوته ... ضياء النهار إلى ليلهِ
فإن جاءه الليل أفضى به ... إلى سده وإلى قفلهِ
وأنشدني لنفسه فيه الوزير أبو عامر بن مسلمة أبياتاً رائقة تضمنت أوصافاً رائعة موصولة بمدح الحاجب - لا أعد منا الله جاهه كما أعدمنا أشباهه - :
يا حبذا النيلوفر الطالع ... ومجتلاه الناضر الناصعُ
كأنه مخزنة من مهاً ... في وسطها زمرد ساطعُ
وحوله ألسنة ستة ... من فضة أتقنها صانعُ
كل لسان أبيض ناصع ... والطرف منه أصفر فاقعُ
قام على خضراء من سوقه ... فكل إبريق له راكعُ
ركوع أملاك الورى للذي ... نداه دان والحيا شاسعُ
ذاك ابن عباد سليل العلا ... الحاجب المرتفع الرافعُ
دام دوام الدهر في عزة ... تبقى ويبقى الحاسد الخاضعُ
وللفقيه أبي الحسن بن علي تشبيه لونيه وصف متناه ليس له مواز ولا مضاه وهو:
كأنما زهرة النيلوفر اختلست ... قطعاً من الليل قد حف الصباح بهِ
فالنور منقطع عن جزم عنصره ... والليل ممتنع من حكم غيهبهِ
فعل أشتهما من أصل طبعهما ... ماذا تألف من شمل الجمال بهِ
ولصاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية في جميع أحواله وصف أغرب عن كماله وهو:
وذات جسم كاللجين المنسبك
مبيضة الأثواب من نسج البرك
خضر سراويلاتها حصر التكك
كأنما العنبر فيها قد فرك
والمسك في قيعاها قد امتسك
ناسكة نهارها مع النسك
حتى إذا الليل تدانى واشترك
وآن أن يأتي المحب المنتهك
غلقت الباب وقالت: هيت لك
ومن السحر المنتحل، والكلام المنتخل في حالاته كلها، وصفاته بأسرها، ما أنشدنيه لنفسه أبو جعفر بن الأبار موصولاً بمدح ذي الوزارتين القاضي - أدام الله أيامه وأسبغ علينا إنعامه - وهو:
وناصع اللون أسود الحدقه ... جفونه بالعشاء منطبقهْ
كذي دلال لم يستطع أرقاً ... فنام والنور واصل أرقهْ
هام به الليل والنهار معاً ... فصد عن ذا وخص ذامقهْ
لا تمتروا في الذي تضمنه ... تلك سويداء قلب من علقهْ
نيلوفر أحكمت بدائعه ... لا يحتوي خلقه ولا خلقهْ
طاهر ثوب كأن خالقه ... من عرض قاضي القضاة قد خلقهْ
سليل عباد الذي حشمت ... منه وجوه السحائب الغدقهْ
المجد أفق غدا له قمراً ... والحق حق حوى به طبقهْ
ومما يشاكل هذا براعة، ويشبهه بزاعة قوله: أيضاً فيه موصولاً بمدح ذي الوزارتين أبي عمرو عباد - أعز الله وأحسن ذكراه - وهو:
إذا النور خص بمدح فما ... لنيلوفر الروض لا يعبدُ
وأوراقه كعبة من لجين ... توسطها الحجر الأسودُ
توسط عباد المرتجى ... لظى الضرب والحرب إذ توقدُ
همام إذا هم أضحت له ... متون الظبى والقنا ترعدُ
إذا شئت وجدان أفضاله ... وجدت وشرواه لا يوجدُ
قوله: شرواه الشروى: المثل. وأنشدني أيضاً لنفسه في تشبيه خَلقه وخُلقه بيتين سريين وهما:
كأن نيلوفر الرياض إذا ... ما الليل أدجى أوهم أن يدجي
رومية بضة منعمة ... تضم طفلاً لها من الزنج
ومما يشبه أيضاً فيه أسوده بالزنجي قول أبي القاسم البلمي وهو تشبيه مفضل له، مستحسن منه، وهو:
ونيلوفر غدا يخجل الرا ... ني إليه نفاسة وغرابه
كمليك الأحبوش في قبة بي ... ضاء يرنو الدجا فيغلق بابه
جنح ليل لما تجسم شخصاً ... قد من صفحة الضحى جلبابه
الأحبوش: لغة في الحبش. وقال أبو الوليد: ولي في لونه وصف ربما طابق، وتمثيل عساه وافق، وهو:
وروضة رضيت عن ... صوب الحيا المستمرِّ
فأظهرت نور نيلو ... فر منير أغرِّ
كمحبر من لجين ... فيه بقية حبرِ
قال أبو الوليد: قد أكملت من النواوير ما وقع إلي فيه الوصف الكثير، وبقيت نواوير وقعت إلي فيها أوصاف يسيره وقطع قليلة، ولكني أذكرها على علاتها، وأورد منها ما حسنت تشبيهاتها، وجادت صفاتها، فمنها نور اللوز.
نور اللوز
كاد أن يكون أبكر النواوير، وأول الأزاهير، ولم أعامله بالتأخير إلا لقلة الوصف له والقول، وذلك كل ما يأتي مما يبكر، وإنما له التأخير من أجل قلة القول فيه، والتشبيه له. فمن المستحسن في نور اللوز قطعة فائقة الوصف، رائقة الرصف أنشدنيها لنفسه صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية موصولة بمدح ذي الوزارتين أبي عمرو عباد أعزه الله:
وأبيض اللون ذفلي غلائله ... عليه من نسج كانونين أبرادُ
يقول مبصره: سبحان فاطره ... كيف استقلت بهذا الحسن أفرادُ
يزور والنور لم تفتح كمائمه ... ولا تقدمه للزور ميعادُ
كأنه رائد أو طالع نجداً ... أو قائد وصنوف النور أجنادُ
تشبه الخوخ في حسن النوار به ... يا قوم حتى من الأشجار حسادُ
نور حوى قصب المضمار منفرداً ... كما حوى قضبات السبق عبادُ
الطاعن الخيل قدماً والقنا قصد ... والسيف منقصف والرمح منآدً
والموقد النار جوداً للضيوف وقد ... جف المزاد وخف الرحل والزادُ
وللوزير أبي عامر بن مسلمة فيه أبيات حسنة السبك جيدة الحبك وهي:
يا زهر اللوز لقد فقت في ال ... إحسان والحسن فأنت البديعْ
قد حزت حسنين وحازت نوا ... وير الربا حسناً فأنت الرفيعْ
تعلو بهار الروض حسناً فقد ... أصبحت مخصوصاً بحب الربيعْ
قد أمك الوصاف إذ شبهوا ... غيرك بالخد وجار الجميعْ
فلونك المشرب في حمرة ... من يره أصبح لا يستطيعْ
دفعاً لما قلت إذا عاينوا ... جمالك النورين عند الطلوعْ
فقت النواوير اعتلاء فما ... في زهرها غير سميع مطيعْ
قال أبو الوليد: ووقع إلي في نور الأقحوان قطع تستولي على ميدان الإحسان أنا ذاكر جملتها ومورد جميعها.
الأقحوان
قال أبو الوليد: أنشدني لنفسه فيه الوزير أبو عامر بن مسلمة بيتين بديعين في التمثيل رفيعين في التشبيه وهما:
وأقحوان راقني نوره ... إذ ظل يرنو بعيون حسانْ
كأنه مدهنة من مهاً ... محكمة في وسطها زعفرانْ
وللفقيه أبي الحسن بن علي فيه قطعة معجبة تضمنت أوصافاً مغربة موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي - أطال الله بقاءه وأدام في درج العز ارتقاءه - وهي:
إذا ميزت أنوار كل خميلة ... فنور الأقاح الغض منها ثغورها
تألفن دراً فوق أغصان سندس ... ونكهة طيب بالصبا تستثيرها
شكت قضفاً بين النواوير فاتقت ... وجاءت إلى غدرانها تستجيرها
بنور ابن عباد أضاءت وأشرقت ... ومن وجهه السامي تألف نورها
ولو أملته واستجارت بقربه ... لذل مناويها وعز نصيرها
قوله: شكت قضفاً القضف: الرقة، وهو تمليح مليح في صحبتها الغدر، وربما كانت في غيرها. ومن المستطرف المستظرف قوله:
كأن نور الأقاحي ... در تضمن عسجدْ
أو لؤلؤ حول صفر ... من اليواقيت نضدْ
وقد بدا في غصون ... مخضرة كالزبرجدْ
تهدي لك المسك فوحاً ... مع الأصائل والندْ
يزيده اللحظ حسناً ... والعين نوراً مجددْ
ومن السابغ برد كماله، السائغ ورد جماله، قول أبي جعفر بن الأبار في بركة على جوانبها أقحوان وهو:
وبركة بالأقاح محدقة ... تخال ريح الصبا بها صبهْ
يحل فيها الحباب حبوته ... إذا جرت للصبا بها هبهْ
كأنها راحة بها غصن ... حفت من الدر حولها لبهْ
شبه تكسر الماء براحة: وهي الكف فيها غضن، والغضن: التشنج والتكسر وشبه ابيضاض الأقحوان واتصاله وإحداقه بالبركة بلبة در. واللبة: العقد العالي، سمي بموضعه من الصدر.
ولأبي القاسم البلمي فيه تشبيه حسن أنشدنيه وهو:
راق عيني منظر الأقحوان ... بنفيس اللجين والعقيانِ
كفه بالحبيب سوك فاه ... بعد عود الأراك بالزعفرانِ
قال أبو الوليد: ولي في بركة عليها أقحوان تشبيه تضمنه بيتان وهما:
كأن الثرى صيرفي له ... نطوع من اللازورد البديع
يقلب فيه من الأقحوا ... ن درهم من ضرب كف الربيع
هذا ما عثرت عليه وانتهيت باجتهادي إليه في نور الأقحوان من التشبيهات الحسان وحين أكملته أورد ما وقع إلي من المستندر في الشقر.
الشقر
ويسمى شقائق النعمان، وسأذكر ما رأيت من التشبيه في هذا الباب إن شاء الله. فمن جيد التشبيه فيه وحسن التمثيل له قول الفقيه أبي الحسن بن علي موصولاً بمدح ذي الوزارتين القاضي - كبت الله أعدءه وأدام عليهم إعداءه - وهو:
إن الشقائق من حمر الخدود قد اش ... تقت ومسودها من حالك اللممِ
كأنها في المروج الخضر أبنية ... حمر قد اصطلمحت من قانيء الأدمِ
يا بن الذي قد حماها في منابتها ... فلم تزل في حمى منه وفي حرمِ
معروفة باسمه في كل مطلع ... محفوظة المنتهى مرعية الذممِ
جدد لها من وكيد العهد حرمتها ... وصل لها محدث الإكرام بالقدمِ
قوله: يا بن الذي قد حماها يخاطب ذا الوزارتين القاضي - أعزه الله - لأنه ابن النعمان الملك الذي نسبت إليه الشقائق وجاء في الخبر قال: خرج النعمان يوماً فمشى حتى انتهى إلى الظهر وقد اعتم بنبته من أحمر وأصفر وإذا فيه من هذه الشقائق شيء لم ير مثله، فقال: احموها. فحموها. فسميت شقائق النعمان بذلك حكى هذا أبو حنيفة ورفعه إلى أعشى بكر وذكر أنه كان حاضر النعمان يومئذ. وله أيضاً فيه أبيات عجيبة ضمنها هذا المعنى وهي:
أصبحت طلع الشقائق نهباً ... لجناة الورى بكل طريقِ
لو أعيد النعمان حياً لراعى ... غير وان لها مضاع الحقوقِ
وكأن السواد فيها غوال ... بسطت في مداهن من عقيقِ
أو نثير من طيب المسك محض ... صب بالعمد في كؤوس الرحيقِ
ومن الصفات المستحسنة قول الوزير أبي عامر بن مسلمة وهو:
يا نديمي قم اصطبح ... وعلى العود فاقترحْ
إنما العيش بالسما ... ع وبالناي والقدحْ
وتأمل حسن الشق ... ئق تنشط إلى المدحْ
مثل كأس العقيق في ... قاعه المسك يلتمحْ
ومن الصفات السنية المحكمة فيه قول صاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية وهي:
وحالك اللون كلون المسكِ
كأنما أحداقه من سكِّ
مدرع ثوباً دقيق السلكِ
كأنما صباغه باللكِّ
أزرى بلون الورد لوما يحكي
نسيمه كان بغير شكِّ
ما بين أنوار الربا كالملكِ
قال أبو الوليد: ولي فيه بيتان ربما أنفرد بتشبيهه وهما:
رياض يحييها الحيا بانسكابه ... فتسفر للنظار عن منظر نضرِ
إذا ما بدت فيها الشقائق خلتها ... شعور العذارى لحن في الخمر الحمرِ
لم أعثر في الشقائق على غير ما أوردت، ولا وجدت في وصفها سوى ما ذكرت. ووقعت إلي في نور الباقلاء صفات جيدة وتشبيهات حسنة أذكرها بأسرها وأورد جميعها.
نور الباقلاء
فمن بديع ما قيل فيه، ورفيع ما شبه به قول صاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية وهو:
وبنات للباقلاء تبدت ... كعيون تفتحت من رقادِ
فبياض منها مكان بياض ... وسواد منها مكان سوادِ
وقال أبو جعفر بن الأبار يصفه في قطعة موصولة بمدح أبي - أطال الله لي عمره، ورزقني بره - فاستكمل الصفات بأبدع تشبيهات وأرفع تمثيلات والقطعة:
وباقلاء باقل ... يعجب حسناً من رمق
كأنما نوراه ... إذ راق خلقاً وخلق
أذقان بيض غلفت ... لمبصر ومنتشق
أو أعين حور جرت ... إلى مآقيها الحدق
وهدبها مستبطن ... في ورق من الورق
أو جنح ليل بقيت ... منه بقايا في فلق
أو سبج في درر ... أو ثنن بها بلق
كأن للمسك بها ... مشقاً بنيات طرق
وعرفه معرف ... بأنه فيه فتق
كأن نجل عامر ... من خلقه طيباً خلق
ملك إذا صال عفا ... حلماً وإن سيل اندفق
إن بخل الغيث سخا ... أو عنف الدهر رفق
قوله: جرت إلى مآقيها الحدق بديع غريب لأن السواد الذي جعله حدقة العين هو في ناحية من النور، وليس متوسطاً له، فكأن الحدقة قد جرت إلى المأق وهو طرف العين مما يلي الأنف. وهدبها مستبطن.. البيت وهو مما أكمل به الوصف وتمم التشبيه، لأن في الورقة التي ظاهرها الصفة المتقدمة خطوطاً سوداً جعلها هدباً لتلك العيون وهي التي عنى بقوله:
كأن للمسك بها ... مشقاً بنيات طرق
وقوله: أو ثنن بها بلق جمع ثنة وهي الشعر الذي يكون على مؤخر الرسغ. قال أبو الوليد: ولي فيه تشبيه ربما يوافق وتمثيل كأنه يطابق وهو:
أرى الباقلاء الباقل اللون لابساً ... برود سماء من سحائبها غذي
ترى نوره يلتاح في ورقاته ... كبلق جياد في جلال زمرذِ
ودخلت بستاناً لي مع الفقيه أبي الحسن بن علي وكان به باقلاء قد نور، فأخذ من نوره وصنع مصراعاً وسألني إجازته، ففعلت وزدت بيتاً آخر ومصراعه:
سبج في كأس در ... ............
وزيادتي:......... ... أو كسوف وسط بدرِ
أو غوال في لآل ... أو غشاء بين فجرِ
ووقعت إلي أيضاً في الباقلاء بعينه قطع مستطرفة وأوصاف مستظرفة تشبهت بالنور فرأيت ذكرها فمنها وصف الوزير أبي عامر بن شهيد - رحمه الله - في قطعة بديعة بزيعة مطبوعة مصنوعة وهي:
إن لآليك أحدثت صلفا ... فاتخذت من زمرد صدفا
تسكن ضراتها البحور وذي ... تسكن للحسن روضة أنفا
هامت بلحف الجنان فاتخذت ... من سندس في جنانها لحفا
تثقبها بالثغور من لطف ... حسبك منا ببر من لطفا
أكل ظريف وطعم ذي أدب ... والفول يهواه كل من ظرفا
وقال لي الفقيه أبو الحسن بن علي: رأيت في يد صديق حبة باقلاء شديدة سواد القشر وكلفني وصفها فقلت بديهة:
فص من العاج حقه سبج ... ممتزج بالجمال مزدوجُ
فيه سواد يزين غرته ... كأنه مقلة بها دعجُ
يؤثر رطباً ويابساً أبداً ... ويستبي النفس فوحة الأرجُ
وأخبرني أيضاً قال: طالعت بستاناً لي بغربي قرطبة، وكان فيه باقلاء فجعل بعض الغلمان ينقي منه ويناولني فقلت:
ريم سبى مقلتي تورده ... يسل سيف الهوى ويغمدهُ
جار على جرجر فخربه ... وظل من قشره يجردهُ
وكلما ابتز ثوب واحدة ... منها حبتني بحبها يدهُ
فقلت مستطرفاً لفعلته ... وزاد في نبله تعمدهُ
كلاكما لا عدمت حسنكما ... ينشق عن لؤلؤ زبرجدهُ
فارتاب بي وانثنى على خجل ... وحبه ساقط يبددهُ
قوله: جار على جرجر الجرجر لغة في الباقلاء وقوله: ينشق عن لؤلؤ زبرجده فاللؤلؤان من هذا وهذا الحب والثغر. والزبرجدان منهما: القشر والشارب الأخضران. وفي القطعة من جيد الصناعة وحسن الصياغة ما يعجب الناظر ويعجز الخاطر.
قال أبو الوليد: وفي بزر الكتان أوصاف موسومة بالإحسان أنا أذكرها إن شاء الله تعالى.
نور الكتان
قال أبو جعفر بن الأبار يصفه بوصف نادر مختار وهو:
وبزر كتان أوفى ... بكل وهد ونجدِ
كأنه حين يبدو ... مداهن اللازوردِ
إذا السماء رأته ... تقول: ذا من فرندي
قال أبو الوليد: ولي فيه قطعة أخرى.
كأن نور الكتان حين بدا ... وقد جلا حسنه صدا الأنفسْ
أكف فيروزج معاصمها ... قد سترتهن خضرة الملبسْ
أو لا فزرق الياقوت قد وضعت ... على بساط يروق من سندسْ
ووقع إلي في نور الغالبة وصف حسن الذكر أذكره لئلا أدع مستحسناً أجده.
نور الغالبة
قال الوزير الكاتب أبو القاسم بن الخراز يصفه فأحسن وأغرب وأبدع وأعجب وهو:
ورختجي سحابي قوائمه ... خضر حكى ياسميناً في تفتحهِ
تميس قضبانه والريح تعطفها ... مشي النزيف تهادى في ترنحهِ
كأن أوراقه في حسن خضرتها ... من الزمرد أسناه وأملحهُ
تخير الشط في الأنهار منبته ... ففار بالعرف في معنى تبطحهِ
وغالب النور حتى قيل غالبة ... فحسبه غالباً كافي مرشحهِ
قال أبو الوليد: ووقع إلي في نور الرمان قطعتان حسنتان ولم يتأخر عن غيره إلا بتأخر وقته وإبطائه عن أوان نظرائه.
نور الرمان
فمن التشبيهات العقم فيه قول أبي القاسم بن هانئ الأندلسي في كمامة نوارة سقطت منه وهو:
وبنت أيك كالشباب النضرِ
كأنها بين الغصون الخضرِ
جنان باز أو جنان صقرِ
قد خلفته لقوة بوكرِ
كأنما مجت دماً من نحرِ
أو سقيت بجدول من خمرِ
أو نبتت في تربة من جمرِ
لو كف عنها الدهر صرف الدهرِ
جاءت بمثل النهد فوق الصدرِ
تفتر عن مثل اللثات الحمرِ
في مثل طعم الوصل بعد الهجرِ
ومن التشبيهات الأنيقة، والتمثيلات الدقيقة قول أبي جعفر بن الأبار في كمائم هذا النوار وهو:
أعجب بأيك الرمان حين بدا ... نواره المحتوي مدى السبقِ
مثل أكف الدمى محنأة ... أو كبنان الحمائم الورقِ
أو كحقاق تفتحت فبدت ... غلائل وسطها من البرقِ
الجلنار
وللوزير أبي عامر بن مسلمة في وصف الجلنار أبيات بديعة رفيعة المقدار وهي:
وجلنار بنوره يزهر ... أوراقه فتنة لمن أبصرْ
قد شبه الورد في تضاعفه ... وقارب اللون حلة العصفرِ
مثل ثمار الرمان زاهرة ... لكنه منظر بلا مخبرِ
قال أبو الوليد: ولي فيه قطعة ربما وافقت صفته وطابقت هيئته وهي:
وجلنار تبدى ... يختال في جل نارِ
أحلى حلى من جميع ال ... أنوار والأزهارِ
حكى خدود العذارى ... قد شربت باحمرارِ
وخمشت بأكف ال ... ألحاظ والأبصارِ
جل نار في القافية مفصول، وإنما هو جل من نار واتفق فيه تشبيه وتجنيس.
الخاتمة
قال أبو الوليد: إسماعيل بن عامر: هذا ما عثرت عليه، وانتهيت بكثرة البحث إليه، وإن وقع إلي بعد وصف رائق أو معنى فائق ألحقته في هذا الكتاب ووضعته في موضعه من كل باب، والبشر غير معصوم، ومن بذل جهد نفسه فليس بمذموم. وحسبي أني قد جمعت من غرائب الأندلسيين ونوادرهم، وأوردت من فضائلهم ومآثرهم ما يمكن أن يتغمد به، ويصفح من أجله عما عرض من زلل، أو وقع من خطل، فربما أدخلت لأهل عصري ما يقرب من البديع، ولا يبعد عن الربيع، فمن نقد ذلك فليعلم أني لم أجهله، وإنما تحفظت من ناظميه، وأغضيت لهم على ما فيه، وليس ذلك إلا في أبيات يسيرة، وصفات غير كثيرة، والله المستعان على التوفيق والهادي إلى سواء الطريق.
تم كتاب البديع في وصف الربيع بحمد الله وعونه، وصلى الله على محمد خيرته من خلقه وعلى أهله وسلم تسليماً.
فجاوبته والجواب بعد صدره: فلما تعاهدت خيريك عهاد شيمك، ودامت عليه ديم كرمك، بكر متنعماً منها متنفساً عنها، ولا ند له إلا الند ولا مسك له إلا المسك، وقد قبضته مشغوفاً به مستلذاً بقربه، متعجباً من حسن اختياره لاستتاره باستهتاره تحت جناح الظلام ليسلم من الجناح والملام. وقد صنعت فيه أبياتاً بديهية متأخرة، فأغض على ما فيها محسناً إلى مهديها. وهي:
نهار خيريك في ليله ... كذلك الليل نهار الأديبْ
ينم فيه وينام الضحى ... تصاوناً عن كل أمر معيبْ
كأنما الليل حبيب له ... فهو إذا حل اكتسى كل طيبْ
كأنما الصبح رقيب له ... فيرعوي عند طلوع الرقيبْ
الند: المثل. والند: الطيب. والمسك: الجلد. قال أبو الوليد أكثر ما وصف من الخيري هذا النمام، وقلما ما وصف الأصفر وأنا ذاكر ما وقع إلي فيه:
الخيري الأصفر
من ذلك قول أبي عمر القسطلي:
أعاره النرجس من لونه ... تفضلاً وازداد من طيبهِ
وناسب النمام لما انتهى ... إلى اسمه الأدنى وتركيبهِ
وما يجري واحداً منهما ... إلا كبا في حين تقريبهِ
وأحسن من هذا قول الفقيه أبي الحسن بن علي وهو:
كأنما الخيري مستهتر ... بالحب قد أنحله العشقُ
صفرته تنطق عن حاله ... ورب حال دونها النطقُ
أعاره المزن رداء الندى ... وصفرة المتشح البرقُ
ما أوجه اللذات محجوبة ... إذا تبدى وجهه الطلقُ
وحين أحضرنا ما في الخيري الأزهر، نبدأ بالنرجس الأصفر.
النرجس الأصفر
قال الوزير أبو مروان عبد الملك بن جهور - رحمه الله - يصفه فأبدع وأعجب وأحسن وأغرب أنشدنيه له حفيده عبد الله، وهو:
واصفر حتى كأن الإلف يهجره ... وطاب حتى كأن المسك ينثرهُ
واخضر أسفله من تحت أصفره ... فراق منظره الباهي ومخبرهُ
يا نرجساً ظل قدامي تنم له ... ريح تذكرني شوقي فأذكرهُ
زمرد مائل من فوقه ذهب ... معين نابه منه ومحجرهُ
هيجت لي شجناً قد كان فارقني ... ذكرتني بالذي ما زلت أؤثرهُ
وكتب الوزير الكاتب أبو مروان بن الجزيري إلى المنصور أبي عامر - رحمهما الله - عن نرجس العامرية في أول يوم من كانون الآخر سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة فأبدع واخترع وهو:
حيتك يا قمر العلا والمجلس ... أزكى تحيتها عيون النرجسِ
زهراً تريك بشكلها وبلونها ... زهر النجوم الجاريات الكنسِ
طلعت مطالعها على مخضرة ... من سوقها كسيت برود السندسِ
فتزينت حسناً أتم تزين ... وتنفست طيباً ألذ تنفسِ
وملكن أفئدة الندامى كلما ... دارت بمجلسهم مدار الأكؤسِ
ملك الهمام العامري محمد ... للمكرمات وللنهى والأنفسِ
لبس الزمان وأهله من عهده ... وفعاله المشكور أكرم ملبسِ
فإذا ذهبت إلى الثناء فقفه من ... بين الأنام على علاه واحبسِ
ولأبي عمر القسطلي فيه قطعة بديعة تضمنت أوصافاً رفيعة، موصولة بمدح المظفر بن أبي عامر وهي:
شكلان من راح وروضة نرجس ... يتنازعان الشبه وسط المجلسِ
متباهيين تلوناً بتلون ... متباريين تنفساً بتنفسِ
فكأنها من حد سيفك تلتظي ... وكأنه من طيب خلقك يكتسي
يا من علا من رتبة في رتبة ... حتى غدا وسط النجوم الخنسِ
وابن الذين هداهم ونهاهم ... أدب الملوك وأسوة للمؤنسي
ومن أنفس ما ملح به في النرجس قطعة للوزير الكاتب أبي الأصبغ بن عبد العزيز وكان يلبس ثوباً رفيع القدر، نرجسي اللون، وهي:
رأيت عباداً له ملبس ... في حشوه الجود معاً والكرمْ
فقلت سبحان العزيز الذي ... أودع ذا الثوب رفيع الهممْ
أروع في سؤدده سابقاً ... أبيض مثل البدر بادي الشممْ
كأنما صفرة أثوابه ... وطيبها نرجسه إذ تشمْ
قد كنت يا نرجس من قبل ذا ... تبخس من حقك ما قد علمْ
فالآن فافخر في جميع الورى ... على النواوير وحاشاك ذمْ
بعز من قد حزت تشريفه ... وفضل من لا فارقته النعمْ
وأنشدني لنفسه الفقيه أبو الحسن بن علي في النرجس الكبير الذي تسميه العامة القادوسي تشبيهاً بالقادوس على لغتهم، وصوابه القدس أبياتاً رقاقاً تضمنت معاني دقاقاً موصوله بمدح الحاجب سراج الدين الثاقب وهي:
في النرجس القدسي النور والقصب ... حسن يفوق به تربيه في النسبِ
له من التبر كأس قاعه لحج ... موسع العلو قد أبداه للعجبِ
مشم طيب إذا استنشيت زهرته ... وظرف أنس إذا ما شئت للنخبِ
ومائل الجيد من سكر النعيم به ... حكى ثنى الثمل المشغوف باللعبِ
كغادة ثوبها من سندس طلعت ... للشرب في كفها كأس من الذهبِ
فكيف يعقل حظ النفس من طرب ... من كان يلحظ هذا الحسن من كثبِ
ثم دخل إلى المدح فقال:
يا حاجباً رقمت في الكتب سيرته ... بالحبر وانتقشت بالتبر في القضبِ
ويا عماداً له يوماً ندى ووغى ... ذا للأيادي وذا للبيض واليلبِ
إن دمت للعجم لم يعجم لها خبر ... وأعرب السعد بالإقبال للعربِ
قوله: حسن يفوق به تربيه يعني النرجس الأصفر المعروف، والنرجس المسمى بالبهار وقوله قاعه لحج اللحج: الضيق، ولم أر لأحد قبله في هذا الصنف من النرجس وصفاً، وهو معدوم عندنا بإشبيلية.. وكان كتب إلي مع هذه القطعة بيتين وهما:
اسأل أبا عامر عنه ابن مسلمة ... تسأل خبيراً بمعنى الظرف والأدبِ
إن صار قوم إلى قصف على مهل ... طواهم بخطا التقريب والخببِ
وقال صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية يصفه في أبيات وهي:
زبرجد فوقه نضار ... مخلص لم تذبه نارُ
كأنما هب من كراه ... وسنان أو شفه انكسارُ
وطاب عند المشم حتى ... للمسك من بينه انتشارُ
قد شارك الدهر فهو ليل ... وافاه من صبحه اصفرارُ
فأول الخلق منه ليل ... ومنتهى خلقه نهارُ
أبدعه في الرياض منش ... له على الخلقة اقتدارُ
شبه خضرة سوقه بسواد الليل، والخضرة والسواد عند العرب بمنزلة. ويقرب من معنى هذا القطعة ما أنشدنيه لنفسه فيه الفقيه أبو الحسن بن علي وهو:
أرى النرجس التبري يعنو له الفكر ... ويقصر عن أوضافه النظم والنثرُ
كأن الدجا قد صاغ خضرة ثوبه ... وألقى عليه حسن صفرته الفجرُ
تخال به في الروض أقيال معشر ... ثيابهم خضر وتيجانهم صفرُ
يحييك بالتأنيس رونق حسنه ... ويلقاك منه قبل رؤيته النشرُ
قال أبو الوليد: ولي قطعة في النرجس موصولة بمدح ذي الوزارتين عباد - وصل الله حرمته وأطال مدته - وهي:
وروض أريض لم يزل يغتذي بما ... يروح عليه من سحاب ويغتدي
بدا النرجس المصفر فيه مباهياً ... بلون كلون المستهام المسهدِ
ترى كل نور منه فوق قضيبه ... كلمة تبر فوق جيد زبرجدِ
إذا ما سرى منه نسيم لواله ... سرى عنه جلباب الجوى المتوقدِ
حكى منظراً نصراً وخبراً خلائق الن ... نجيب أبي عمرو سليل محمدِ
فداه عداه كم له من فضيلة ... وفضل ندى يغني به كل مجتدِ
قال أبو الوليد: هذا ما جمعته في النرجس، ويجب أن نبدأ بذكر الورد، ونورد ما وقع إلينا فيه من تمثيل حسن وتشبيه.
الورد
لم يوجب تأخير أمره، ولا ولد إرجاء ذكره تأخر منزله، ولا انحطاط رتبته، وإنما بنينا أن نقدم من تقدم به زمانه، ونبدأ بمن بكر به أوانه، وقد مضت مشاهير الأنوار المبكرة التي كثر القول فيها، وتردد الوصف لها.
فمن المستندر في الورد قول الحاجب أبي الحسن جعفر بن عثمان المصحفي وقد أهدى إليه الوزير زياد بن أفلح ورداً سيق إليه من ريه في شهر كانون الآخر وهو - أعني قول المصحفي - :
لعمرك ما في فطرة الروض قدرة ... تحيل بها مجرى الزمان عن الحدِّ
ولكنما أخلاقك الغر نبهت ... بربعك في كانون نائمة الوردِ
كأنك قد أمطرتها ديمة المجد ... وأجريت في أغصانها كرم العهد
فلما وصل هذا النظم المستملح إلى زياد بن أفلح بعث إليه بوردة كان احتبسها لنفسه فكتب إليه ثانية بيتين وهما:
فاجأني كانون بالورد ... فزادني وجداً إلى وجدِ
ورد العلا أهدى لنا وردة ... يا حبذا الورد من الوردِ
ومن السري السني قول الوزير الكاتب أبي مروان الجزيري رحمه الله:
أهدى إليك تحية من عنده ... زمن الربيع الطلق باكر وردهِ
يحكي الحبيب سرى لوعد محبه ... في طيب نفحته وحمرة خدهِ
وكتب أيضاً أبو مروان إلى الوزير أبي مروان عبد الملك بن شهيد في أخريات أيام الورد بأبيات أنيقة الصفات وهي:
قل للوزير الذي جلت فضائله ... فسر لنا شرح معنى سال سائلهُ
وأي وصليه موجوداً ومفتقداً ... أولى وأجدر أن ترعى وسائلهُ
وقد أتاك لتوديع على عجل ... خضراً مقانعه حمراً غلائلهُ
فامنحه منك قبولاً واقض نهمته ... من الوداع فقد شدت رواحلهُ
لا زلت دهرك محبواً زيارته ... إذا انقضى عامه وافاك قابلهُ
وبلغني أن الوزير ابن شهيد جاوبه بأبيات لم تقع إلى ولا وردت علي. وأنشدني الوزير أبو عامر بن مسلمة للوزير أبيه - رحمه الله عليه - أبياتاً مطبوعة كتب بها إلى الوزير عيسى بن سعيد يستدعيه إلى الفصد، تضمنت وصفاً حسناً للورد وهي:
ما يطيب التفجير دون صديق ... ممحص مخلص شقيق شفيقِ
وقد اخترته نهاراً بهياً ... كمحياك مستنير الشروقِ
عندنا الورد قد تألف من لو ... نين لون المها ولون العقيقِ
كخدود تبرقعت بحياء ... فوق ديباجها الأنيق الدقيقِ
فتفضل وخف نحو صديق ... أنت في نفسه أجل صديقِ
ونزل أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي على بني أرقم بوداي آش فقدم إليه فيما أكرم به طبق ورد، وكان في فصل الشتاء فاستغربه، ثم أخذ منه وردة واحدة وقال بديهية:
يا خدود الحور في إخجالها ... قد علتها حمرة مكتسبهْ
اغتربنا أنت من بجانة ... وأنا مغترب من قرطبهْ
واجتمعنا عند إخوان صفاً ... بالندى أموالهم منتهبهْ
عصبة إن سئلت عن نسبة ... فإلى أرقمها منتسبهْ
إن لثمي لك قدامهم ... ليس فيه فعلة مستغربهْ
لاجتماع في اغتراب بيننا ... قبل المغترب المغتربهْ
ومما يستحسن فيه، وتستملح معانيه، قطعة لأبي عمر أحمد بن دراج القسطلي، موصولة بمدح المظفر بن أبي عامر - رحمه الله - وهي:
ضحك الزمان لنا فهاك وهاته ... أو ما رأيت الورد في شجراته؟ِ
قد جاء بالتأريخ من أغصانه ... وبخجلة المعشوق من وجناتهِ
وكساه مولانا غلائل سيفه ... يوماً يسربله دماء عداتهِ
من بعد ما نفخ الحيا من روحه ... فيه وعرف المسك من نفحاتهِ
إن كان أبدع واصف في وصفه ... فلقد تقاصر عن بديع صفاتهِ
كمديح سيف الدولة الأعلى الذي ... أعيا فأغيا في مدى غاياتهِ
ملك ينم الجود في لحظاته ... واليمن والإيمان في عزماتهِ
وحياته إن كان أبقى حاجة ... لمن ارتجاه غير طول حياتهِ
ولأبي القاسم بن شبراق في وردة لم تفتح وصف حسن مستملح:
خجلت إذ تأملتها العيون ... خجلاً في احمرارها يستبينُ
وردة وردت دموعي شوقاً ... للتي خدها بها مقرونُ
بنت غصن يقر بالكرم الده ... ر لها في رياضها والغصونُ
واستسرت عن العيون حياء ... وعرا عرفها الذكي سكونُ
سترت وجهها ببرقعها واس ... تقبلنا من الفتون فنونُ
كالفتاة الحيية انتقبت كي ... لا يرى وجهها الجميل المصونُ
وكتب الوزير أبو عامر بن مسلمة إلى ذي الوزارتين أبي عمرو عباد - أعزه الله وأحسن ذكراه - في زمن الورد يصفه فأحسن الوصف وأبدع التشبيه أنشدنيه وهو:
عباد يا خير الورى ... ومن به تزهى المدحْ
يا قمر الأرض ومن ... علا سماء ورجحْ
أما ترى الورد وقد ... رنا بطرف ولمحْ
كأنه دم جرى ... على طلى بيض وضحْ
أو خد غض عضه ... لحظ محب فانجرحْ
كأنما نسيمه ... عن خلق منك نفحْ
وبعث الفقيه أبو الحسن بن علي بورد مبكر في سباط إلى ذي الوزارتين القاضي - أعزه الله وأذل عداه - وكتب معه:
ليهنك يا واحد المكرمات ... وأهدى الملوك لقصد الصراطِ
جني من الورد قد حثه ... إليك تودده في سباطِ
وما ذاك أيام إقباله ... ولا وقت تنضيده في البساطِ
أصاب بإسراعه فاحبه ... وغفراً لسائره فهو خاطِ
وقال أيضاً الفقيه أبو الحسن يصفه في قطعة رائقة متضمنة لصفات فائقة موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي - أيد الله يده وحصد من حسده - :
للورد فضل السبق عند المفخر ... بالمنظر السامي وطيب المخبرِ
ورق من الياقوت نظم فوقه ... شذر من الذهب السبيك الأصفرِ
ونسيم فوح ليس يبلغ طيبه ... عبق العبير ولا دخان العنبرِ
نقص الزمان ضنانة من عمره ... وكذا النفيس القدر غير معمرِ
والنور غير الورد ليس لشخصه ... دون السباطة ذابلاً من مقصرِ
والورد يرفع غضه ويبيسه ... رفع الأكف طروف مسك أذفرِ
عمت منافعه كما عم الورى ... جود ابن عباد فريد الأعصرِ
وله أيضاً فيه بيتان استوليا على غاية الإحسان وهما:
نظر إلى الروض غير متئد ... تبصر جمالاً يصوغه الدهرُ
كأنما الورد فيه أطباق يا ... قوت عليها مغالق صفرُ
ولصاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية فيه قطعة سرية موصولة بمدح ذي الوزارتين أبي أيوب بن عباد أبقاه الله وأسبغ عليه نعماه وهي:
نور الربا خول والورد سلطان ... بذا قضى قبل آذار ونيسانُ
سر طوته فصول العام حاسدة ... لفضله إذ له السلطان والشانُ
حتى إذا ما الربيع الطلق نم به ... بدا وقد ضاق عن مثواه كتمانُ
معالجاً فتح أوراق تطبقه ... كما يعالج فتح العين وسنانُ
حتى تفتح من أكمام بردته ... كما تفتح بعد النوم أجفانُ
أما النسيم فطيب لا أكيفه ... واللون حسناً به الألوان تزدانُ
فما سوى الورد في النوار من ملك ... ولا كمثل أبي أيوب سلطانُ
ملك يريك اهتزاز الروض يتبعه ... حلم رسا منه فوق الأرض ثهلانُ
وللوزير الكاتب أبي حفص بن برد فيه أبيات بديعة ورفيعة التشبيه وهي:
هذا الربيع وكنت ترقبه ... فانظر بعيشك كيف تصحبهُ
قد نشرت حلل النبات به ... فبدا مفضضه ومذهبهُ
والورد قد سمت الغصون به ... تجلوه والأبصار تخطبهُ
والشمس قد ضرب الضحاء بها ... في صبغه فذكاء تلهبهُ
فكأن من يهواه مخجله ... وكأن رياه مطيبهُ
وكتب أبو جعفر بن الأبار إلى الوزير أبي عامر بن مسلمة في زمن الربيع يصف الورد ويحضه على إيثار الأنس، وجلاء صدأ النفس، فأحسن إحساناً يقرب على متأمليه، ويبعد على متناوليه، ووصف الورد بعد صدر متقدم من الشعر:
الورد ورد للعيون من الظما ... فاذكر أذمته الوكيدة واحفظِ
في لبسة التقوى يروقك منظراً ... فامنحه بالإنصاف طرفك والحظِ
وإذا الهجوع نأى فخير منوم ... وإذا السرور دنا فأحسن موقظِ
يا ممطري بفعاله ومقاله ... ومحافظي بوداده لا محفظي
افطن إذا أبدى الزمان تبالهاً ... وإذا تواهن جفنه فاستيقظِ
وبكل صرف فاستقد من صرفه ... وافظظ برقتها عليه وأغلظِ
فالهم يفرق من لآليء فرقها ... والحزن يطفأ عن سناها الملتظي
صفراء صفر الكأس من جثمانها ... تتخطف الأبصار مهما يلحظِ
لا زلت تسلم يا بن مسلمة الرضا ... معطي الأمان من الخطوب البهظِ
قوله: في لبسة التقوى يعني الحياء، ومن قول الله تعالى: " وريشاً ولباس التقوى " ، قيل: الحياء. وقوله: محافظي. هو من الحفظ والمراعاة. ومحفظي: من الإحفاظ وهو الإغضاب. وقوله: فالهم يفرق: يرتاع، ويفزع. والفرق لغة في المفرق من الرأس. وقوله: صفر الكأس من جثمانها: الصفر: الخيالة، والجثمان: الجسم، وفيه لغتان جثمان وجسمان. فجاوبه الوزير أبو عامر بن مسلمة بأبيات بديعة الصفات بزيعة الكلمات وهي:
يا واحد الأدباء غير مدافع ... ومن اغتدى في الفهم ناراً تلتظي
وافاني الشعر البديع نظامه ... فأزاح عني كل أمر محفظِ
فخراً لورد الروض إذ حاز المدى ... ببدائع من ذهنك المتيقظِ
الورد عندي في الخدود نفاسة ... ورياسة مهما يقس أو يلحظِ
هو آخر وله التقدم أولاً ... كم آخر قد حاز مفخر من حظي
وقد اعتمدت على الذي حبرته ... في نظمك الزاري بلفظ اللفظِ
وفضضتها صفراء يعشي ضوؤها ... حدق العيون الرانيات اللحظِ
قال أبو الوليد: وأهدى إلي صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية ثلاث وردات ليلة المهرجان، وكتب إلي معها أبياتاً أنيقة المعنى دقيقة المغزى وهي:
بعثت بأغرب الأشياء طراً ... وأعجبها لمختبر ومخبرْ
بورد ناعم غض نضير ... يروقك ناسماً طوراً ومبصرْ
أتى في المهرجان فكان فوق ال ... بكير غرابة وهو المؤخرْ
وإغراب المؤخر عن أوان ... يجيء به كإغراب المبكرْ
ولما أن غشيت الروض منه ... بروض فيك من مدحي منورْ
وقلت له: استمع لحلى كريم الس ... سجايا منتقى من سر حميرْ
تفتح من كمائمه وأبدى ... من النفحات ما قد كان أضمرْ
فماء ثناؤك العالي سقاه ... ومن أخلاقك العليا تفطرْ
فأوسعه القبول ودم عزيزاً ... مكيناً ما جرى نجم وغورْ
فلما وردت الورد الثلاث علي، ووصلت إلي، بعثت إلى أبي - وقاه الله بي - وكتبت إليه معها أربعة أبيات بديهية وي:
يا من تأزر بالمكارم وارتدى ... بالمجد والفضل الرفيع الفائقِ
انظر إلى خد الربيع مركباً ... في وجه هذا المهرجان الرائقِ
ورد تقدم إذ تأخر واغتدى ... في الحسن والإحسان أول سابقِ
وافاك مشتملاً بثوب حيائه ... خجلاً لأن حياك آخر لاحقِ
ولي أيضاً فيه قطعة موصولة بمدح أبي - أبقى الله علي ظله وقدمني إلى المنون قبله - وهي:
إنما الورد في ذرى شجراته ... كأجل الملوك في هيئاتهْ
راشق منظراً وخبراً وفذ ... في حلاه التي حلت وصفاتهْ
نفحة المسك من شذا نفحاته ... خجل الخد من سنا خجلاتهْ
مزجت حمرة اليواقيت بالدر ... ر فجاءت به على حسب ذاتهْ
مثلما جاء من سماح وبأس ... خلق الحميري سم عداتهْ
إن يعد فالوفاء حتم عليه ... فرضه في صلاته كصلاتهْ
ولي قطعة نثر كتبت بها إلى صاحب الشرطة أبي الوليد بن العثمان وبعثت معها ورداً مبكراً: بعثت بخدود المعشوقين قد أدمتها ألحاظ العاشقين، وأدمنت عليها ناظرة فتساقطت هكذا ناضرة فاحكم على العيون للخدود على ألا تعود إلى الصدود والسلام.
قال أبو الوليد: وحين استوفيت ما حصل عندي من الوصف للورد أبدأ بذكر ما عثرت عليه من المستحسن في وصف السوسن فهو صاحب الورد في زمانه، ومشاركه في أوانه.
السوسن
قال أبو الوليد: يقال: سوسن وسوسان بالألف ودونها، وقد تكررت في الشعر اللغتان، وترددت التسميتان. فمن مليح ما جاء فيه، وشبه به، قول أبي عمر أحمد بن فرج الجياني وهو:
بعثت بسوسن نضر ... ينم كجونة العطرِ
كأكؤس فضة فيها ... نفايا شهلة الخمرِ
أو الوجنتان منك دنت ... إلى وجناتي الصفرِ
وللوزير الكاتب أبي مروان بن الجزيري فيه وصف مفضل له، مستحسن منه وهو:
وملسن الطاقات أبيض ناصع ... يزهى بأصفر من جناه فاقعِ
أعداد زهرته إذا حصلتها ... ست سوى عدد الرقيب السابعِ
سكنت قرارة حجره كلفاً به ... كالأم تكلف بالصغير الراضع
صافي الأديم إذا تخلق صدره ... بخلوق أرؤسها الذكي المائع
أهدى الصبابة والهوى بنسيمه ... وبديع منظره الأنيق الرائع
سموه بالسوسان ظلماً واسمه ... في ما خلا ساسان غير مدافع
لما استذاع بفارس كلفت به ... أملاكه فدعته باسم شائع
الرقيب: هو القائم في وسط السوسنة وساسان: اسم ملك فارسي. أراد بهذا التمليح التنويه به، والترفيع من قدره. ومن المستندر المستحسن في وصف السوسن، قول أبي عمر الرمادي وهو:
سوسن كالسوالف البيض لاحت ... لمحب متيم من حبيبِ
قد أعارت عيوننا كل حسن ... وأعارت أنوفنا كل طيبِ
بعضها عاشق لبعض فبعض ... لمحب والبعض للمحبوبِ
فالحبيب المبيض منها إذا اصفر ... ر سواه اصفرار صب كئيبِ
لهما ثالث أناف كواش ... قام يحكي هواهما كالخطيبِ
فهما وهو في جميع المعاني ... كحبيب وعاشق ورقيبِ
ولأبي بكر يحيى بن هذيل فيه تشبيه أنيق، وتمثيل دقيق وهو:
ورب سوسنة قبلتها كلفاً ... ومالها غير نشر المسك منشوقِ
مصفرة الوسط مبيض جوانبها ... كأنها عاشق في حجر معشوقِ
ولأبي بكر هذا فيه قبل أن يتفتح وصف استحسن واستملح وهو:
فأول ما يبدو فخلق سبيكة ... مخلصة بيضاء أتقنها السبكُ
بنت نفسها فوق الزمرد واقفاً ... فلاحت كمثل الدر ضمنه السلكُ
جنى سوسن لولا سنا بشراته ... لما زين الأفواه ثغر ولا ضحكُ
ولبعض شعراء الأندلس وقد دخل على المنصور بن أبي عامر - رحمه الله - وبين يديه ثلاث سوسنات إحداها لن تفتح، فسأله وصفها فقال بعد أبيات لم أحتج إلى ذكرها:
تبدو ثلاث من السوسان قائمة ... وما تشكى من الإعياء والكسلِ
فبعض نواره بالحسن منفتح ... والبعض منغلق عنهن في شغلِ
كأنها راحة ضمت أناملها ... ممدودة ملئت من جودك الخضلِ
وأختها بسطت منها أناملها ... ترجو نداك كما عودتها فصلِ
قال أبو عمر أحمد بن دراج القسطلي يصفه فأحسن وأبدع، وأغرب واخترع:
إن كان وجه الربي مبتسماً ... فالسوسن المجتلى ثناياهُ
يا حسنه سن ضاحك عبق ... بطيب ريا الحبيب رياهُ
خاف عليه الحسود عاشقه ... فاشتق من ضده فسماهُ
وهو إذا مغرم تنسمه ... خلى على الأنف منه سيماهُ
كما يخلي الحبيب غالية ... في عارضي إلفه لذكراه
قوله: خاف عليه الحسود. البيت، يعني أنه سماه سوءاً وهو حسن خوف العين والحسد، وهو تمليح مستحسن.
ولأبي عمر أيضاً فيه وصف ثان معدوم المثال موسوم بالجمال صح عندي أن عبادة بن ماء السماء كان يقول: لم يخترع بالأندلس في معنى من المعاني كاختراع القسطلي في السوسان وهو في قطعة مطولة كتب بها إلى المظفر ابن أبي عامر أنا ذاكر منها ما تشبث بذكر السوسان من المستحسن وهو:
جهز لنا في الروض غزوة محتسب ... واندب إليها من يساعد وانتدبْ
واهزز رماحاً من تباشير المنى ... واسلل سيوفاً من معتقة العنبْ
وانصب مجانيقاً من النيم التي ... أحجارهن من الرواطم والنخبْ
لمعاقل من سوسن قد شيدت ... أيدي الربيع بناءها فوق القضبْ
شرفاتها من فضة وحماتها ... حول الأمير لهم سيوف من ذهبْ
مترقبين لأمره وقد ارتقى ... خلل البناء ومد صفحة مرتقبْ
كأمير لونة قد تطلع إذ دنا ... عبد المليك إليه في جيش لجبْ
فلئن غنمت هناك أمثال الدمى ... فهنا بيوت المسك فاغنم وانتهبْ
تحفاً لشعبان جلا لك وجهه ... عوضاً من الورد الذي أهدى رجبْ
واستوف بهجتها وطيب نسيمها ... فإذا دنا رمضان فاسجد واقتربْ
الشرفات: أوراق السوسن، والسيوف: النواوير المصفرة في أسفلها. والأمير القائم وسط السوسنة هو من الاختراعات الشريفة، والابتداعات البديعة.
ولأبي بكر عبادة بن ماء السماء إلى صديق له يستهديه سوسناً أبيات وصفه فيها وصفاً مستحسناً:
دمت بإنعام وإحسان ... إن أنت أنعمت بسوسانِ
لو كان نفساً حيوانية ... ما كان إلا نفس إنسانِ
كأنه أنمل حسناء لم ... تخضب يديها خوف غيرانِ
وأنشدني لنفسه فيه الوزير أبو عامر بن مسلمة أبياتاً مطبوعة محكمة وهي:
وسوسن راق مرآه ومخبره ... وجل في أعين النظار منظرهُ
كأنه أكؤس البلور قد صنعت ... مسدسات تعالى الله مظهرهُ
وبينها ألسن قد طرفت ذهباً ... من بينها قائم بالملك تؤثرهُ
كأنه خلق ميم في تعقفه ... مداده ذوب عقيان يصفرهُ
قال صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية يصفه بأوصاف سرية وهي:
أما ترى الروض حسا ... بياً نحا إقليدسه
فصور السوسن من ... دائرة مسدسه
مدهنة من فضة ... بتبرها ملبسه
واضحة فاضحة ... صاحبها مدلسه
إن رام كتم لثمها ... وشمها انظر معطسه
تجد بقايا طيبه ... بأنفه محتبسه
وفوقها رقيبة ... منها لها محترسه
نابلة رامحة ... سائفة مترسه
كان اسمها نسوس لا ... كن قرئت منكسه
قوله: فوقها رقيبة يعني القائمة وسط السوسنة. نابلة: ذات نبل، جعل التي تحدق بالرقيبة في أسفلها نبلاً وجعل أيضاً منها رماحاً في قوله: رامحة وسائفة: يحتمل أن يجعل الوشائع الصفر التي حول الرقيبة سيوفاً ويحتمل أن تكون السيوف الأوراق البيض. ومترسة: ذات ترس. ولا شك أنه من الأوراق البيض. وقوله: نسوس أراد مستقبل فعل الساسة، وهو مليح فيه معنى التنويه به. وللفقيه أبي الحسن بن علي فيه أوصاف حسنة وتشبيهات جيدة فمنها قوله:
أرى صفرة السوسان فوق بياضه ... كصفو مدام في إناء مفضضِ
بدا مثل حق العاج في فرع غصنه ... بأكرم ملبوس وأجمل معرضِ
ولما دنا وقت النثار تشققت ... نواويره عن حلي حسن له نضي
كذاك حقاق الحلي صون لما حوت ... كفات له من خاتل متعرضِ
قوله: نضي بمعنى: جرد. كفات له: أي ستر. قال الله عز وجل: " ألم نجعل الأرض كفاتاً " أي ستراً. وخاتل: بمعنى خادع.
وأنشدني أيضاً لنفسه أحسن تشبيه موصولاً بمدح ذي الوزارتين أبي عمرو عباد - حرس الله نفسه، كما قدس غرسه - وهو:
كأنما السوسن الدري ألسنة ... تمجد الله مجري التبر في غربه
أندى النواوير إن قبلت صفحته ... حباك من طيبه حظاً ومن ذهبه
وما أرى غير عباد له شبهاً ... في الحسن والفوح والمأثور من أدبه
ومن المستندر المختار أبيات كبت بها أبو جعفر بن الأبار وهي:
أنعم فقد حسن الزمان وأحسنا ... وتبالهت عنك الخطوب لتفطنا
أو ما ترى برد الربيع مفوفاً ... يصبي العيون بمجتلى وبمجتنى
والسوسن العبق الجيوب تخاله ... من ناصع الكافور صور ألسنا
حفت قراضات النضار مجرداً ... منه أقلتها قصيرات القنا
فكأنما أوراقه وكأنه ... بيض سللن لقتل جان قد جنى
المجرد: هو القائم وسط السوسنة. والقراضات: هي النواوير الصفر في أسفلها وكأنه في آخر بيت كناية راجعة إلى المجرد، وهو تشبيه قوي وتمثيل سري.
ولأبي جعفر بن الأبار أيضاً أبدع تشبيه وهو:
كأنما السوسن الغض ... ض منظراً حين يلحظ
فهر بهاؤون در ... مشطب قد تعظعظ
الفهر: القائم وسط السوسنة، والهاؤون: سائرها وتعظعظ: مال وعدل. ولأبي علي إدريس بن اليمان فيه أوصاف مستطرفة، وتشبيهات مستظرفة منها قوله:
ممهى الحسن مشقوق الجيوب ... له وجه البريء من الذنوبِ
تفرج عن مناكبه قميص ... تفرج لوعة الدنف الكئيبِ
وقد علت عمامته بورس ... فقام بلا خطاب كالخطيبِ
على أنبوب كافور يراع ... تضمن بطنه ينبوع طيبِ
الممهى: المرقق: يقال: أمهيت السيف أمهيه: إذا أرهفته وجلوته. وبنى القطعة كلها على وصف القائم وسط السوسنة.
ولأبي علي إدريس بن اليمان أيضاً قطعة بديعة التشبيه موافقة الوصف لكل ما فيه وهي:
وضاحك كالفلق ... عن فلج في روقِ
على جفاني مرود ... مذهب مندلقِ
كمنتج من غرق ... وخارج من نفقِ
بين اصفرار فاقع ... على ابيضاض يققِ
كأنما كلاهما ... في راحة أو طبقِ
برادة من ذهب ... في ورق من ورقِ
الفلج: الفرجة بين الأسنان، والروق: طولها. والحفافان: الجانبان وعنى بالمرود القائم وسط السوسنة. والمندلق: الناتيء المندفع.
قال أبو الوليد: ولي فيه قطعة فيها اختراع تشبيه وصلتها بمدح الحاجب - حجبه الله بي عن النوائب - وهي:
وسوسن يتهادى ... للأنس بالراحتين
نعم المواصل لو لم ... يعد بنأي وبين
كأنما خلقه الفذ ... ذ خسة من لجين
أو أنمل بضة ما ... تركبت في يدين
وبينها حارس لا ... ينام طرفة عين
علا وأشرف منها ... على جمال وزين
كما علا الحاجب المن ... تقى على الشعريين
ملك به حال دهري ... بين الخطوب وبيني
قال أبو الوليد: ووقعت إلي في السوسن الأزرق وهو الخرم صفات محكمة وتشبيهات متقدمة.
الخرم
فمن بديعها ورفيعها قول الوزير أبي عامر بن مسلمة وهو:
ألا حبذا السوسن الأزرق ... ويا حبذا حسنه المونقُ
حكى لونه لون فيروزج ... جرى وسطه ذهب مشرقُ
وللفقيه أبي الحسن بن علي فيه أبدع اختراع وأغرب تشبيه وهو:
لاح لي خرم الصحارى فراق ال ... عين تدبيجه العجيب وورده
جاء كالزائر الموافي لوعد ... بعد أن طال بالأحبة عهده
أطلعت حلتاه وشياً وتبراً ... زان ذا رقمه وذا لازورده
أي نصل يفري الحوادث لو دا ... م لجانيه ماؤه وفرنده
وله أيضاً فيه قطعة موصوة بمدح أبي - وقاه الله بي - وهي:
بز ثوب البهاء واللألاء ... زهر الروض خرم الصحراءِ
عاف ثوب البياض لون أخيه ... وتردى بحلة زرقاءِ
لتراه العيون في حلة يح ... كي سنا نورها أديم السماءِ
لو حواها الطاووس أصبح لا شك ... ك مهناً بملك طير الهواءِ
عزة في طباعه وعلو ... قد أناف به على العلياءِ
كحبيب بن عامر فهو فذ ... في اقتناء العلا وكسب الثناءِ
ومن التشبيه السني فيه والوصف السري له قول صاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية وهو:
ومغرب اللون في مسلاخ طاووس ... فيروزجي بصنع الله مغروسِ
كأنما اختلست قطعاً غلائله ... من الغمائم أو فضل الحناديسِ
شخت المآزر لاذي الظهائر قد ... أتاك يرفل في ثوب له سوسي
كأنه كسف أفق ماله حبك ... أو لازورد أو أذناب الطواويسِ
كأن رشح سقيط الظل أوسطه ... نضح يمد على آثار تدنيسِ
لا زال في مجلسي آنا بهيئته ... ولا توخى اسمه شملي ولا كيسي
إنما عمى في البيت الآخر الخرم اسمه، دعا ألا يتوخى الخرم شمله ولا كيسه.
قال أبو الوليد: ولي فيه تشبيه طابقه وهو:
وخرم حلو الحلى ... يبدو لعيني من لمح
تلوناً ومنظراً ... كأنه قوس قزح
قال أبو الوليد: لم يقع إلي في السوسنين غير ما أوردته. ومن النواوير المشاهير التي كثر القول فيها والوصف لها نور النيلوفر، وأنا مودع بابه ما حصل عندي فيه من المستندر.
النيلوفر
من السابق في ميدان التفضيل الفائق عند أهل التحصيل قول ذي الوزارتين القاضي الجليل أمله علي وهو:
يا حسن بهجة ذا النيلوفر الأرج ... وطيب مخبره في الفوح والأرجِ
كأنه جام در في تألفه ... قد أحكموا وسطه فصاً من السبجِ
وله - أعزه الله وأذل عداه - يصفه بوصفين غريبين، ويشبهه بتشبيهين، عجيبين في قطعة واحدة وهي:
كأنما النيلوفر ال ... مستحسن الغض البهج
مقلة خود ملئت ... سحراً وغنجاً ودعج
أو خاتم من فضة ... وفصه من السبج
شبه في البيت الثاني بالعين السواد الذي بين بياضه وهو أولى بهذا التشبيه، وأحق أن يصاغ فيه من كل ما شبه بالعين من البهار وغيره الذي لا سواد فيه يؤيد حقيقة تشبيهه وينصر صحة تمثيله. ومثل هذا التشبيه المعدوم التشبيه، والتمثيل المنقطع المثيل لو وقع لمشتغل بصناعة الشعر، عاكف على صناعة النظم مجهد نفسه فيها معان لمعانيها لاستغرب غاية الاستغراب، واستعجب نهاية الاستعجاب. فكيف ترى فضله وتعاين نبله. وهو لا يعاني هذا ولا يتفرغ له، وإنما هو عفو سجيته وفي بديهته - صان الله لنا حذقه كما أوجب علينا حقه - .
وقال أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي يصفه فأبدع بدعاً في قطعة جمعت الجزالة الرقة معاً وهي:
إذا سقى الله روضة مطراً ... فخص بالسقي كل نيلوفرْ
تستر أوراقه زمرده ... ليلاً وعند النهار لا تسترْ
خافت عليه اللصوص فاشتملت ... عليه ليلاً من خوف أن يظهرْ
إذا الزنابير من مغالقه ... لم تتحفظ فبينها تقبرْ
كأن أجفانه جفون الذي ... أهواه لا تستطيع أن تسهرْ
كأنها كؤوس فضة فرشت ... قيعانها بالزمرد الأخضرْ
تنعم في حسنه ونكهته ... فأنت في منظر وفي مخبرْ
الزنابير: جمع زنبور، وهي النحل، وإنما عنى بالبيت انغلاق أوراقه ليلاً، وقصد النحل دون غيرها لأن النيلوفر يسمى قاتل النحل لطلبها أبداً أكل ما داخل أوراقه فربما فعلت ذلك وقت انغلاقه فامتنعت من الخروج.
ولم أر لكل من صنع فيه، وعني بوصفه ذكر أمر الزنابير إلا للفقيه أبي الحسن ابن علي في قطعة عجيبة أنشدنيها وهي:
ما لنيلوفر الحدائق يقظا ... ن مع النور هاجعاً في ظلامهْ
أشبه الإنس في تصرف حالي ... ه ووقتي سهاده ومنامهْ
وتوقيه في الدياجي بإغلا ... ق نواويره وضم كمامهْ
لقبوه بقاتل النحل لما ... أبصروا النحل مقصداً لسهامهْ
لم يجر في القصاص إذ ذلك لص ... سارق بالنهار شهد ختامهْ
وللوزير الكاتب أبي الأصبغ بن عبد العزيز في انغلاقه تشبيه دقيق، وتمثيل أنيق وهو:
ونيلوفر فاق في فضله ... صنوف النواوير من شكلهِ
وفاتهم بالذي حازه ... كما قصر الكل عن نيلهِ
يبيح نهاراً لزواره ... محياً يرغب في وصلهِ
ويمنع بالليل من وجهه ... ليأخذ بالحزم في فعلهِ
كبائع عطر بحانوته ... ضياء النهار إلى ليلهِ
فإن جاءه الليل أفضى به ... إلى سده وإلى قفلهِ
وأنشدني لنفسه فيه الوزير أبو عامر بن مسلمة أبياتاً رائقة تضمنت أوصافاً رائعة موصولة بمدح الحاجب - لا أعد منا الله جاهه كما أعدمنا أشباهه - :
يا حبذا النيلوفر الطالع ... ومجتلاه الناضر الناصعُ
كأنه مخزنة من مهاً ... في وسطها زمرد ساطعُ
وحوله ألسنة ستة ... من فضة أتقنها صانعُ
كل لسان أبيض ناصع ... والطرف منه أصفر فاقعُ
قام على خضراء من سوقه ... فكل إبريق له راكعُ
ركوع أملاك الورى للذي ... نداه دان والحيا شاسعُ
ذاك ابن عباد سليل العلا ... الحاجب المرتفع الرافعُ
دام دوام الدهر في عزة ... تبقى ويبقى الحاسد الخاضعُ
وللفقيه أبي الحسن بن علي تشبيه لونيه وصف متناه ليس له مواز ولا مضاه وهو:
كأنما زهرة النيلوفر اختلست ... قطعاً من الليل قد حف الصباح بهِ
فالنور منقطع عن جزم عنصره ... والليل ممتنع من حكم غيهبهِ
فعل أشتهما من أصل طبعهما ... ماذا تألف من شمل الجمال بهِ
ولصاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية في جميع أحواله وصف أغرب عن كماله وهو:
وذات جسم كاللجين المنسبك
مبيضة الأثواب من نسج البرك
خضر سراويلاتها حصر التكك
كأنما العنبر فيها قد فرك
والمسك في قيعاها قد امتسك
ناسكة نهارها مع النسك
حتى إذا الليل تدانى واشترك
وآن أن يأتي المحب المنتهك
غلقت الباب وقالت: هيت لك
ومن السحر المنتحل، والكلام المنتخل في حالاته كلها، وصفاته بأسرها، ما أنشدنيه لنفسه أبو جعفر بن الأبار موصولاً بمدح ذي الوزارتين القاضي - أدام الله أيامه وأسبغ علينا إنعامه - وهو:
وناصع اللون أسود الحدقه ... جفونه بالعشاء منطبقهْ
كذي دلال لم يستطع أرقاً ... فنام والنور واصل أرقهْ
هام به الليل والنهار معاً ... فصد عن ذا وخص ذامقهْ
لا تمتروا في الذي تضمنه ... تلك سويداء قلب من علقهْ
نيلوفر أحكمت بدائعه ... لا يحتوي خلقه ولا خلقهْ
طاهر ثوب كأن خالقه ... من عرض قاضي القضاة قد خلقهْ
سليل عباد الذي حشمت ... منه وجوه السحائب الغدقهْ
المجد أفق غدا له قمراً ... والحق حق حوى به طبقهْ
ومما يشاكل هذا براعة، ويشبهه بزاعة قوله: أيضاً فيه موصولاً بمدح ذي الوزارتين أبي عمرو عباد - أعز الله وأحسن ذكراه - وهو:
إذا النور خص بمدح فما ... لنيلوفر الروض لا يعبدُ
وأوراقه كعبة من لجين ... توسطها الحجر الأسودُ
توسط عباد المرتجى ... لظى الضرب والحرب إذ توقدُ
همام إذا هم أضحت له ... متون الظبى والقنا ترعدُ
إذا شئت وجدان أفضاله ... وجدت وشرواه لا يوجدُ
قوله: شرواه الشروى: المثل. وأنشدني أيضاً لنفسه في تشبيه خَلقه وخُلقه بيتين سريين وهما:
كأن نيلوفر الرياض إذا ... ما الليل أدجى أوهم أن يدجي
رومية بضة منعمة ... تضم طفلاً لها من الزنج
ومما يشبه أيضاً فيه أسوده بالزنجي قول أبي القاسم البلمي وهو تشبيه مفضل له، مستحسن منه، وهو:
ونيلوفر غدا يخجل الرا ... ني إليه نفاسة وغرابه
كمليك الأحبوش في قبة بي ... ضاء يرنو الدجا فيغلق بابه
جنح ليل لما تجسم شخصاً ... قد من صفحة الضحى جلبابه
الأحبوش: لغة في الحبش. وقال أبو الوليد: ولي في لونه وصف ربما طابق، وتمثيل عساه وافق، وهو:
وروضة رضيت عن ... صوب الحيا المستمرِّ
فأظهرت نور نيلو ... فر منير أغرِّ
كمحبر من لجين ... فيه بقية حبرِ
قال أبو الوليد: قد أكملت من النواوير ما وقع إلي فيه الوصف الكثير، وبقيت نواوير وقعت إلي فيها أوصاف يسيره وقطع قليلة، ولكني أذكرها على علاتها، وأورد منها ما حسنت تشبيهاتها، وجادت صفاتها، فمنها نور اللوز.
نور اللوز
كاد أن يكون أبكر النواوير، وأول الأزاهير، ولم أعامله بالتأخير إلا لقلة الوصف له والقول، وذلك كل ما يأتي مما يبكر، وإنما له التأخير من أجل قلة القول فيه، والتشبيه له. فمن المستحسن في نور اللوز قطعة فائقة الوصف، رائقة الرصف أنشدنيها لنفسه صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية موصولة بمدح ذي الوزارتين أبي عمرو عباد أعزه الله:
وأبيض اللون ذفلي غلائله ... عليه من نسج كانونين أبرادُ
يقول مبصره: سبحان فاطره ... كيف استقلت بهذا الحسن أفرادُ
يزور والنور لم تفتح كمائمه ... ولا تقدمه للزور ميعادُ
كأنه رائد أو طالع نجداً ... أو قائد وصنوف النور أجنادُ
تشبه الخوخ في حسن النوار به ... يا قوم حتى من الأشجار حسادُ
نور حوى قصب المضمار منفرداً ... كما حوى قضبات السبق عبادُ
الطاعن الخيل قدماً والقنا قصد ... والسيف منقصف والرمح منآدً
والموقد النار جوداً للضيوف وقد ... جف المزاد وخف الرحل والزادُ
وللوزير أبي عامر بن مسلمة فيه أبيات حسنة السبك جيدة الحبك وهي:
يا زهر اللوز لقد فقت في ال ... إحسان والحسن فأنت البديعْ
قد حزت حسنين وحازت نوا ... وير الربا حسناً فأنت الرفيعْ
تعلو بهار الروض حسناً فقد ... أصبحت مخصوصاً بحب الربيعْ
قد أمك الوصاف إذ شبهوا ... غيرك بالخد وجار الجميعْ
فلونك المشرب في حمرة ... من يره أصبح لا يستطيعْ
دفعاً لما قلت إذا عاينوا ... جمالك النورين عند الطلوعْ
فقت النواوير اعتلاء فما ... في زهرها غير سميع مطيعْ
قال أبو الوليد: ووقع إلي في نور الأقحوان قطع تستولي على ميدان الإحسان أنا ذاكر جملتها ومورد جميعها.
الأقحوان
قال أبو الوليد: أنشدني لنفسه فيه الوزير أبو عامر بن مسلمة بيتين بديعين في التمثيل رفيعين في التشبيه وهما:
وأقحوان راقني نوره ... إذ ظل يرنو بعيون حسانْ
كأنه مدهنة من مهاً ... محكمة في وسطها زعفرانْ
وللفقيه أبي الحسن بن علي فيه قطعة معجبة تضمنت أوصافاً مغربة موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي - أطال الله بقاءه وأدام في درج العز ارتقاءه - وهي:
إذا ميزت أنوار كل خميلة ... فنور الأقاح الغض منها ثغورها
تألفن دراً فوق أغصان سندس ... ونكهة طيب بالصبا تستثيرها
شكت قضفاً بين النواوير فاتقت ... وجاءت إلى غدرانها تستجيرها
بنور ابن عباد أضاءت وأشرقت ... ومن وجهه السامي تألف نورها
ولو أملته واستجارت بقربه ... لذل مناويها وعز نصيرها
قوله: شكت قضفاً القضف: الرقة، وهو تمليح مليح في صحبتها الغدر، وربما كانت في غيرها. ومن المستطرف المستظرف قوله:
كأن نور الأقاحي ... در تضمن عسجدْ
أو لؤلؤ حول صفر ... من اليواقيت نضدْ
وقد بدا في غصون ... مخضرة كالزبرجدْ
تهدي لك المسك فوحاً ... مع الأصائل والندْ
يزيده اللحظ حسناً ... والعين نوراً مجددْ
ومن السابغ برد كماله، السائغ ورد جماله، قول أبي جعفر بن الأبار في بركة على جوانبها أقحوان وهو:
وبركة بالأقاح محدقة ... تخال ريح الصبا بها صبهْ
يحل فيها الحباب حبوته ... إذا جرت للصبا بها هبهْ
كأنها راحة بها غصن ... حفت من الدر حولها لبهْ
شبه تكسر الماء براحة: وهي الكف فيها غضن، والغضن: التشنج والتكسر وشبه ابيضاض الأقحوان واتصاله وإحداقه بالبركة بلبة در. واللبة: العقد العالي، سمي بموضعه من الصدر.
ولأبي القاسم البلمي فيه تشبيه حسن أنشدنيه وهو:
راق عيني منظر الأقحوان ... بنفيس اللجين والعقيانِ
كفه بالحبيب سوك فاه ... بعد عود الأراك بالزعفرانِ
قال أبو الوليد: ولي في بركة عليها أقحوان تشبيه تضمنه بيتان وهما:
كأن الثرى صيرفي له ... نطوع من اللازورد البديع
يقلب فيه من الأقحوا ... ن درهم من ضرب كف الربيع
هذا ما عثرت عليه وانتهيت باجتهادي إليه في نور الأقحوان من التشبيهات الحسان وحين أكملته أورد ما وقع إلي من المستندر في الشقر.
الشقر
ويسمى شقائق النعمان، وسأذكر ما رأيت من التشبيه في هذا الباب إن شاء الله. فمن جيد التشبيه فيه وحسن التمثيل له قول الفقيه أبي الحسن بن علي موصولاً بمدح ذي الوزارتين القاضي - كبت الله أعدءه وأدام عليهم إعداءه - وهو:
إن الشقائق من حمر الخدود قد اش ... تقت ومسودها من حالك اللممِ
كأنها في المروج الخضر أبنية ... حمر قد اصطلمحت من قانيء الأدمِ
يا بن الذي قد حماها في منابتها ... فلم تزل في حمى منه وفي حرمِ
معروفة باسمه في كل مطلع ... محفوظة المنتهى مرعية الذممِ
جدد لها من وكيد العهد حرمتها ... وصل لها محدث الإكرام بالقدمِ
قوله: يا بن الذي قد حماها يخاطب ذا الوزارتين القاضي - أعزه الله - لأنه ابن النعمان الملك الذي نسبت إليه الشقائق وجاء في الخبر قال: خرج النعمان يوماً فمشى حتى انتهى إلى الظهر وقد اعتم بنبته من أحمر وأصفر وإذا فيه من هذه الشقائق شيء لم ير مثله، فقال: احموها. فحموها. فسميت شقائق النعمان بذلك حكى هذا أبو حنيفة ورفعه إلى أعشى بكر وذكر أنه كان حاضر النعمان يومئذ. وله أيضاً فيه أبيات عجيبة ضمنها هذا المعنى وهي:
أصبحت طلع الشقائق نهباً ... لجناة الورى بكل طريقِ
لو أعيد النعمان حياً لراعى ... غير وان لها مضاع الحقوقِ
وكأن السواد فيها غوال ... بسطت في مداهن من عقيقِ
أو نثير من طيب المسك محض ... صب بالعمد في كؤوس الرحيقِ
ومن الصفات المستحسنة قول الوزير أبي عامر بن مسلمة وهو:
يا نديمي قم اصطبح ... وعلى العود فاقترحْ
إنما العيش بالسما ... ع وبالناي والقدحْ
وتأمل حسن الشق ... ئق تنشط إلى المدحْ
مثل كأس العقيق في ... قاعه المسك يلتمحْ
ومن الصفات السنية المحكمة فيه قول صاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية وهي:
وحالك اللون كلون المسكِ
كأنما أحداقه من سكِّ
مدرع ثوباً دقيق السلكِ
كأنما صباغه باللكِّ
أزرى بلون الورد لوما يحكي
نسيمه كان بغير شكِّ
ما بين أنوار الربا كالملكِ
قال أبو الوليد: ولي فيه بيتان ربما أنفرد بتشبيهه وهما:
رياض يحييها الحيا بانسكابه ... فتسفر للنظار عن منظر نضرِ
إذا ما بدت فيها الشقائق خلتها ... شعور العذارى لحن في الخمر الحمرِ
لم أعثر في الشقائق على غير ما أوردت، ولا وجدت في وصفها سوى ما ذكرت. ووقعت إلي في نور الباقلاء صفات جيدة وتشبيهات حسنة أذكرها بأسرها وأورد جميعها.
نور الباقلاء
فمن بديع ما قيل فيه، ورفيع ما شبه به قول صاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية وهو:
وبنات للباقلاء تبدت ... كعيون تفتحت من رقادِ
فبياض منها مكان بياض ... وسواد منها مكان سوادِ
وقال أبو جعفر بن الأبار يصفه في قطعة موصولة بمدح أبي - أطال الله لي عمره، ورزقني بره - فاستكمل الصفات بأبدع تشبيهات وأرفع تمثيلات والقطعة:
وباقلاء باقل ... يعجب حسناً من رمق
كأنما نوراه ... إذ راق خلقاً وخلق
أذقان بيض غلفت ... لمبصر ومنتشق
أو أعين حور جرت ... إلى مآقيها الحدق
وهدبها مستبطن ... في ورق من الورق
أو جنح ليل بقيت ... منه بقايا في فلق
أو سبج في درر ... أو ثنن بها بلق
كأن للمسك بها ... مشقاً بنيات طرق
وعرفه معرف ... بأنه فيه فتق
كأن نجل عامر ... من خلقه طيباً خلق
ملك إذا صال عفا ... حلماً وإن سيل اندفق
إن بخل الغيث سخا ... أو عنف الدهر رفق
قوله: جرت إلى مآقيها الحدق بديع غريب لأن السواد الذي جعله حدقة العين هو في ناحية من النور، وليس متوسطاً له، فكأن الحدقة قد جرت إلى المأق وهو طرف العين مما يلي الأنف. وهدبها مستبطن.. البيت وهو مما أكمل به الوصف وتمم التشبيه، لأن في الورقة التي ظاهرها الصفة المتقدمة خطوطاً سوداً جعلها هدباً لتلك العيون وهي التي عنى بقوله:
كأن للمسك بها ... مشقاً بنيات طرق
وقوله: أو ثنن بها بلق جمع ثنة وهي الشعر الذي يكون على مؤخر الرسغ. قال أبو الوليد: ولي فيه تشبيه ربما يوافق وتمثيل كأنه يطابق وهو:
أرى الباقلاء الباقل اللون لابساً ... برود سماء من سحائبها غذي
ترى نوره يلتاح في ورقاته ... كبلق جياد في جلال زمرذِ
ودخلت بستاناً لي مع الفقيه أبي الحسن بن علي وكان به باقلاء قد نور، فأخذ من نوره وصنع مصراعاً وسألني إجازته، ففعلت وزدت بيتاً آخر ومصراعه:
سبج في كأس در ... ............
وزيادتي:......... ... أو كسوف وسط بدرِ
أو غوال في لآل ... أو غشاء بين فجرِ
ووقعت إلي أيضاً في الباقلاء بعينه قطع مستطرفة وأوصاف مستظرفة تشبهت بالنور فرأيت ذكرها فمنها وصف الوزير أبي عامر بن شهيد - رحمه الله - في قطعة بديعة بزيعة مطبوعة مصنوعة وهي:
إن لآليك أحدثت صلفا ... فاتخذت من زمرد صدفا
تسكن ضراتها البحور وذي ... تسكن للحسن روضة أنفا
هامت بلحف الجنان فاتخذت ... من سندس في جنانها لحفا
تثقبها بالثغور من لطف ... حسبك منا ببر من لطفا
أكل ظريف وطعم ذي أدب ... والفول يهواه كل من ظرفا
وقال لي الفقيه أبو الحسن بن علي: رأيت في يد صديق حبة باقلاء شديدة سواد القشر وكلفني وصفها فقلت بديهة:
فص من العاج حقه سبج ... ممتزج بالجمال مزدوجُ
فيه سواد يزين غرته ... كأنه مقلة بها دعجُ
يؤثر رطباً ويابساً أبداً ... ويستبي النفس فوحة الأرجُ
وأخبرني أيضاً قال: طالعت بستاناً لي بغربي قرطبة، وكان فيه باقلاء فجعل بعض الغلمان ينقي منه ويناولني فقلت:
ريم سبى مقلتي تورده ... يسل سيف الهوى ويغمدهُ
جار على جرجر فخربه ... وظل من قشره يجردهُ
وكلما ابتز ثوب واحدة ... منها حبتني بحبها يدهُ
فقلت مستطرفاً لفعلته ... وزاد في نبله تعمدهُ
كلاكما لا عدمت حسنكما ... ينشق عن لؤلؤ زبرجدهُ
فارتاب بي وانثنى على خجل ... وحبه ساقط يبددهُ
قوله: جار على جرجر الجرجر لغة في الباقلاء وقوله: ينشق عن لؤلؤ زبرجده فاللؤلؤان من هذا وهذا الحب والثغر. والزبرجدان منهما: القشر والشارب الأخضران. وفي القطعة من جيد الصناعة وحسن الصياغة ما يعجب الناظر ويعجز الخاطر.
قال أبو الوليد: وفي بزر الكتان أوصاف موسومة بالإحسان أنا أذكرها إن شاء الله تعالى.
نور الكتان
قال أبو جعفر بن الأبار يصفه بوصف نادر مختار وهو:
وبزر كتان أوفى ... بكل وهد ونجدِ
كأنه حين يبدو ... مداهن اللازوردِ
إذا السماء رأته ... تقول: ذا من فرندي
قال أبو الوليد: ولي فيه قطعة أخرى.
كأن نور الكتان حين بدا ... وقد جلا حسنه صدا الأنفسْ
أكف فيروزج معاصمها ... قد سترتهن خضرة الملبسْ
أو لا فزرق الياقوت قد وضعت ... على بساط يروق من سندسْ
ووقع إلي في نور الغالبة وصف حسن الذكر أذكره لئلا أدع مستحسناً أجده.
نور الغالبة
قال الوزير الكاتب أبو القاسم بن الخراز يصفه فأحسن وأغرب وأبدع وأعجب وهو:
ورختجي سحابي قوائمه ... خضر حكى ياسميناً في تفتحهِ
تميس قضبانه والريح تعطفها ... مشي النزيف تهادى في ترنحهِ
كأن أوراقه في حسن خضرتها ... من الزمرد أسناه وأملحهُ
تخير الشط في الأنهار منبته ... ففار بالعرف في معنى تبطحهِ
وغالب النور حتى قيل غالبة ... فحسبه غالباً كافي مرشحهِ
قال أبو الوليد: ووقع إلي في نور الرمان قطعتان حسنتان ولم يتأخر عن غيره إلا بتأخر وقته وإبطائه عن أوان نظرائه.
نور الرمان
فمن التشبيهات العقم فيه قول أبي القاسم بن هانئ الأندلسي في كمامة نوارة سقطت منه وهو:
وبنت أيك كالشباب النضرِ
كأنها بين الغصون الخضرِ
جنان باز أو جنان صقرِ
قد خلفته لقوة بوكرِ
كأنما مجت دماً من نحرِ
أو سقيت بجدول من خمرِ
أو نبتت في تربة من جمرِ
لو كف عنها الدهر صرف الدهرِ
جاءت بمثل النهد فوق الصدرِ
تفتر عن مثل اللثات الحمرِ
في مثل طعم الوصل بعد الهجرِ
ومن التشبيهات الأنيقة، والتمثيلات الدقيقة قول أبي جعفر بن الأبار في كمائم هذا النوار وهو:
أعجب بأيك الرمان حين بدا ... نواره المحتوي مدى السبقِ
مثل أكف الدمى محنأة ... أو كبنان الحمائم الورقِ
أو كحقاق تفتحت فبدت ... غلائل وسطها من البرقِ
الجلنار
وللوزير أبي عامر بن مسلمة في وصف الجلنار أبيات بديعة رفيعة المقدار وهي:
وجلنار بنوره يزهر ... أوراقه فتنة لمن أبصرْ
قد شبه الورد في تضاعفه ... وقارب اللون حلة العصفرِ
مثل ثمار الرمان زاهرة ... لكنه منظر بلا مخبرِ
قال أبو الوليد: ولي فيه قطعة ربما وافقت صفته وطابقت هيئته وهي:
وجلنار تبدى ... يختال في جل نارِ
أحلى حلى من جميع ال ... أنوار والأزهارِ
حكى خدود العذارى ... قد شربت باحمرارِ
وخمشت بأكف ال ... ألحاظ والأبصارِ
جل نار في القافية مفصول، وإنما هو جل من نار واتفق فيه تشبيه وتجنيس.
الخاتمة
قال أبو الوليد: إسماعيل بن عامر: هذا ما عثرت عليه، وانتهيت بكثرة البحث إليه، وإن وقع إلي بعد وصف رائق أو معنى فائق ألحقته في هذا الكتاب ووضعته في موضعه من كل باب، والبشر غير معصوم، ومن بذل جهد نفسه فليس بمذموم. وحسبي أني قد جمعت من غرائب الأندلسيين ونوادرهم، وأوردت من فضائلهم ومآثرهم ما يمكن أن يتغمد به، ويصفح من أجله عما عرض من زلل، أو وقع من خطل، فربما أدخلت لأهل عصري ما يقرب من البديع، ولا يبعد عن الربيع، فمن نقد ذلك فليعلم أني لم أجهله، وإنما تحفظت من ناظميه، وأغضيت لهم على ما فيه، وليس ذلك إلا في أبيات يسيرة، وصفات غير كثيرة، والله المستعان على التوفيق والهادي إلى سواء الطريق.
تم كتاب البديع في وصف الربيع بحمد الله وعونه، وصلى الله على محمد خيرته من خلقه وعلى أهله وسلم تسليماً.