maghfera
04-14-2009, 01:30 PM
فصل فيما يذكر من صفاته عليه السلام في الكتب المأثورة عن الأنبياء الأقدمين
قد أسلفنا طرفاً صالحاً من ذلك في البشارات قبل مولده، ونحن نذكر هنا غرراً من ذلك.
فقد روى البخاريّ والبيهقيّ واللفظ له من حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في التَّوراة ؟
فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التَّوراة ببعض صفته في الفرقان: يا أيها النَّبيّ إنَّا أرسلناك شاهداً، ومبشراً، ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتك المتوكل ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخَّاب بالأسواق، ولا يدفع السَّيئة بالسَّيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأفتح به أعينا عمياً، وآذاناً صمَّاً، وقلوباً غُلفاً.
قال عطاء بن يسار: ثمَّ لقيت كعباً الحبر فسألته فما اختلف في حرف، إلا أنَّ كعباً قال: أعيناً عموياً، وآذاناً صمومي، وقلوباً غلوفاً.
ورواه البخاريّ أيضاً عن عبد الله غير منسوب، قيل: هو ابن رجاء، وقيل: عبد الله بن صالح، وهو الأرجح، عن عبد العزيز ابن أبي سلمة الماجشون، عن هلال بن علي به.
قال البخاريّ: وقال سعيد عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام: كذا علَّقه البخاريّ.
وقد روى البيهقيّ من طريق يعقوب بن سفيان: حدَّثنا أبو صالح - هو عبد الله بن صالح كاتب اللَّيث - حدَّثني خالد بن يزيد عن سعيد ابن أبي هلال، عن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن ابن سلام أنه كان يقول: إنَّا لنجد صفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّا أرسلناك شاهداً ومبشراً) (http://**********:openquran%2832,45,45%29)) أنت عبدي ورسولي، سمَّيته المتوكل ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسَّيئة مثلها، ولكن يعفو ويغفر ويتجاوز، وليس أقبضه حتى يُقيم الملة العوجاء، بأن تشهد ((أن لا إله إلا الله)) يفتح به أعيناً عُمياً، وآذاناً صمَّاً، وقلوباً غُلفاً. (ج/ص:6/69)
قال عطاء بن يسار: وأخبرني اللَّيثي أنَّه سمع كعب الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلام.
وقد روي عن عبد الله بن سلام من وجه آخر: فقال التّرمذيّ: حدَّثنا زيد بن أخرم الطَّائيّ البصريّ، ثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة، حدَّثني أبو مودود المدنيّ، ثنا عثمان الضحاك عن محمد بن يوسف، عن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال: مكتوب في التَّوراة: محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه.
فقال أبو مودود: قد بقي في البيت موضع قبر.
ثم قال التّرمذيّ: هذا حديث حسن، هكذا قال الضحاك، والمعروف الضحاك بن عثمان المدنيّ، وهكذا حكى شيخنا الحافظ المزيّ في كتابه (الأطراف)، عن ابن عساكر أنه قال مثل قول التّرمذيّ ثم قال: وهو شيخ آخر أقدم من الضحاك بن عثمان، ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه فيمن اسمه عثمان، فقد روى هذا عن عبد الله بن سلام - وهو من أئمة أهل الكتاب ممن آمن -، وعبد الله بن عمرو بن العاص وقد كان له اطلاع على ذلك من جهة زاملتين كان أصابهما يوم اليرموك، فكان يحدِّث منهما عن أهل الكتاب وعن كعب الأحبار، وكان بصيراً بأقوال المتقدمين على ما فيها من خلط وغلط وتحريف وتبديل، فكان يقولها بما فيها من غير نقد.
وربما أحسن بعض السَّلف بها الظَّن فنقلها عنه مسلمة، وفي ذلك من المخالفة لبعض ما بأيدينا من الحق جملة كثيرة، لكن لا يتفطن لها كثير من النَّاس.
ثم ليعلم أن كثيراً من السَّلف يطلقون التَّوراة على كتب أهل الكتاب المتلوة عندهم، أو أعم من ذلك، كما أن لفظ القرآن يطلق على كتابنا خصوصاً ويراد به غيره، كما في الصَّحيح خفف على داود القرآن فكان يأمر بداوبه فتسرح فيقرأ القرآن مقدار ما يفرغ، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقال البيهقيّ عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدَّثني محمد بن ثابت بن شرحبيل عن أم الدَّرداء قالت: قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في التَّوراة ؟
قال: نجده محمد رسول الله اسمه المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا سخَّاب بالأسواق، وأعطي المفاتيح ليبصِّر الله به أعيناً عُمياً، ويسمع به آذاناً وُقراً، ويقيم به ألسناً مِعوجة، حتى تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه.
وبه عن يونس بن بكير، عن يونس ابن عمرو، عن العيزار بن حريث، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مكتوب في الإنجيل: لا فظٍّ، ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسَّيئة مثلها بل يعفو ويصفح. (ج/ص:6/70)
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا قيس البجليّ، حدَّثنا سلام بن مسكين عن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم: ((جد في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع، يا ابن الطَّاهر البتول، إني خلقتك من غير فحل، وجعلتك آية للعالمين، فإياي فاعبد، وعليَّ فتوكَّل، فبين لأهل سوران أني أنا الحق القائم الذي لا أزول، صدِّقوا بالنَّبيّ العربي، صاحب الجمل والمدرعة، والعمامة، والنعلين، والهراوة، الجعد الرأس، الصَّلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدّين، الكثّ اللِّحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، ريحه المسك ينفخ منه، كأن عنقه إبريق فضة، وكأن الذَّهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب، ليس على صدره ولا بطنه شعر غيره، شثن الكفين والقدم، إذا جاء مع الناس غمرهم، وإذا مشى كأنما ينقلع من الصَّخر، وينحدر في صبب، ذو النسل القليل.
وروى الحافظ البيهقيّ بسنده عن وهب بن منبه اليمامي قال: إنَّ الله - عز وجل - لما قرَّب موسى نجياً.
قال: ربِّ إني أجد في التوراة أمة خير أمة أخرجت للنَّاس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، فاجعلهم أمتي؟
قال: ((تلك أمة أحمد)).
قال: ربِّ إني أجد في التَّوراة أمة هم خير الأمم الآخرون من الأمم، السَّابقون يوم القيامة فاجعلهم أمتي.
قال: ((تلك أمة أحمد)).
قال: يا رب إني أجد في التَّوراة أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، وكان من قبلهم يقرءون كتبهم نظراً ولا يحفظونها، فاجعلهم أمتي.
قال: ((تلك أمة أحمد)).
قال: ربِّ إني أجد في التَّوراة أمة يؤمنون بالكتاب الأول والآخر، ويقاتلون رؤوس الضَّلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذَّاب، فاجعلهم أمتي.
قال: ((تلك أمة أحمد)).
قال: ربِّ إني أجد في التَّوراة أمة يأكلون صدقاتهم في بطونهم، وكان من قبلهم إذا أخرج صدقته بعث الله عليها ناراً فأكلتها، فإن لم تقبل لا تقربها النَّار، فاجعلهم أمتي.
قال: ((تلك أمة أحمد)).
قال: ربِّ إني أجد في التَّوراة أمة إذا همَّ أحدهم بسيئة لم تُكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، وإذا همَّ أحدهم بحسنة ولم يعملها بها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فاجعلهم أمتي.
قال: ((تلك أمة أحمد)).
قال: ربِّ إني أجد في التَّوراة أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، فاجعلهم أمتي.
قال: ((تلك أمة أحمد)). (ج/ص:6/71)
قال: وذكر وهب بن منبه في قصة داود عليه السلام وما أوحي إليه في الزبور: ((يا داود إنَّه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، صادقاً سيداً، لا أغضب عليه أبداً، ولا يغضبني أبداً، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، أمته مرحومة أعطيهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرُّسل، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرُّسل قبلهم، يا داود إني فضَّلت محمداً وأمته على الأمم كلها، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا آخذهم بالخطأ والنِّسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إن استغفروني منه غفرته لهم، وما قدَّموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم جعلته لهم أضعاف مضاعفة، ولهم في المدَّخر عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، الصَّلاة والرَّحمة والهدى إلى جنات النَّعيم، فإن دعوني استجبت لهم، فإما أن يروه عاجلاً، وإما أن أصرف عنهم سوءاً، وإما أن أدَّخره لهم في الآخرة.
يا داود! من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صادقاً بها فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذَّب محمداً، أو كذَّب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صباً، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره، ثم أُدخله في الدرك الأسفل من النَّار)).
وقال الحافظ البيهقيّ: أخبرنا الشَّريف أبو الفتح العمريّ، ثنا عبد الرَّحمن ابن أبي شريح الهرويّ، ثنا يحيى بن محمد بن صاعد، ثنا عبد الله بن شبيب أبو سعيد الربعي، حدثني محمد بن عمر بن سعيد - يعني: ابن محمد بن جبير بن مطعم - قال: حدثتني أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيها، عن أبيه قال: سمعت أبي جبير ابن مطعم يقول: لما بعث الله نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم وظهر أمره بمكة، خرجت إلى الشَّام فلما كنت ببصرى أتتنى جماعة من النَّصارى فقالوا لي: أمن الحرام أنت ؟
قلت: نعم!
قالوا: فتعرف هذا الذي تنبَّأ فيكم ؟
قلت: نعم.
قال: فأخذوا بيدي فأدخلوني ديراً لهم فيه تماثيل وصور.
فقالوا لي: أنظر هل ترى صورة هذا النَّبيّ الذي بعث فيكم ؟
فنظرت، فلم أر صورته.
قلت: لا أرى صورته، فأدخلوني ديراً أكبر من ذلك الدَّير فإذا فيه تماثيل وصور أكثر مما في ذلك الدَّير.
فقالوا لي: انظر هل ترى صورته.
فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصورته، وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته، وهو آخذ بعقب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
فقالوا لي: هل ترى صفته ؟
قلت: نعم!
قالوا: هو هذا، وأشاروا إلى صفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
قلت: اللهم نعم، أشهد أنه هو.
قالوا: أتعرف هذا الذي آخذ بعقبه ؟
قلت: نعم!
قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده. (ج/ص:6/72)
ورواه البخاري في (التاريخ): عن محمد - غير منسوب -، عن محمد بن عمر هذا، بإسناده فذكره مختصراً، وعنده فقالوا: إنَّه لم يكن نبي إلا بعده نبي، إلا هذا النَّبيّ.
وقد ذكرنا في كتابنا (التفسير) عند قوله تعالى في سورة الأعراف: ((الذين يتَّبعون الرَّسول النَّبيّ الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التَّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) (http://**********:openquran%286,157,157%29)) الآية.
ذكرنا ما أورده البيهقيّ وغيره من طريق أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل من قريش إلى هرقل صاحب الرُّوم ندعوه إلى الإسلام، فذكر اجتماعهم به، وأنَّ عرفته تنغصت حين ذكروا الله - عز وجل - فأنزلهم في دار ضيافته، ثم استدعاهم بعد ثلاث، فدعا بشيء نحو الربعة العظيمة فيها بيوت صغار عليها أبواب وإذا فيها صور الأنبياء ممثلة في قطع من حرير من آدم إلى محمد - صلوات الله عليهم أجمعين -، فجعل يخرج لهم واحداً واحداً، ويخبرهم عنه، وأخرج لهم صورة آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم تعجَّل إخراج صورة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال: ثم فتح باباً آخر فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا والله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال: أتعرفون هذا ؟
قلنا: نعم، محمد رسول الله.
قال: وبكينا.
قال: والله يعلم أنه قام قائماً، ثم جلس وقال: والله إنَّه لهو ؟
قلنا: نعم إنَّه لهو كما تنظر إليه.
فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال: أما إنَّه كان آخر البيوت، ولكني عجَّلته لكم لأنظر ما عندكم، ثم ذكر تمام الحديث في إخراجه بقية صور الأنبياء، وتعريفه إياهما بهم.
وقال في آخره: قلنا له: من أين لك هذه الصّور؟ لأنا نعلم أنها ما على صورِّت عليه الأنبياء - عليهم السَّلام -، لأنَّا رأينا صورة نبينا - عليه السَّلام - مثله.
فقال: إنَّ آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكانت في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشَّمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشَّمس فدفعها إلى دانيال.
ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وأني كنت عبداً لأشركم ملكة حتى أموت.
قال: ثم أجازنا، فأحسن جائزتنا وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصّديق رضي الله عنه حدَّثناه بما رأينا، وما قال لنا، وما أجازنا.
قال: فبكى أبو بكر فقال: مسكين لو أراد الله به خيراً لفعل ثم قال: أخبرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلَّى الله عليه وسلَّم عندهم.
وقال الواقديّ: حدَّثني علي بن عيسى الحكيمي عن أبيه، عن عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدِّقه، وأشهد برسالته، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السَّلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك.
قلت: هلم.
قال: هو رجل ليس بالطَّويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشَّعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قوم منها ويكرهون ما جاء به، حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من سأل من اليهود، والنَّصارى، والمجوس يقولون: هذا الدِّين وذاك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبق نبي غيره.
قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قول زيد بن عمرو بن نفيل، وإقرائه منه السَّلام، فردَّ عليه السَّلام، وترحم عليه وقال: ((قد رأيته في الجنَّة يسحب ذيولاً)). (ج/ص: 6/73)
http://www.al-eman.com/Islamlib/images/up.gif (http://www.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=251&CID=92#TOP) كتاب دلائل النّبوة
وهو معنوية وحسّية فمن المعنوية: إنزال القرآن عليه، وهو أعظم المعجزات وأبهر الآيات، وأبين الحجج الواضحات لما اشتمل عليه من التركيب المعجز الذي تحدَّى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك مع توافر دواعي أعدائه على معارضته وفصاحتهم وبلاغتهم، ثمَّ تحدَّاهم بعشر سور منه فعجزوا، ثمَّ تنازل إلى التَّحدي بسورة من مثله فعجزوا عنه وهم يعلمون عجزهم، وتقصيرهم عن ذلك، وأن هذا ما لا سبيل لأحد إليه أبداً.
قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (http://**********:openquran%2816,88,88%29). [الإسراء: 88] وهذه الآية مكية.
وقال في سورة الطُّور وهي مكية: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (http://**********:openquran%2851,33,34%29) [الطُّور: 33-34].
أي: إن كنتم صادقين في أنه قاله من عنده فهو بشر مثلكم، فأتوا بمثل ما جاء به فإنَّكم مثله.
وقال تعالى في سورة البقرة وهي مدنية - معيداً للتحديّ -: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (http://**********:openquran%281,23,24%29) [البقرة: 23 -24].
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ} (http://**********:openquran%2810,13,14%29) [هود: 13-14].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (http://**********:openquran%289,37,39%29) [يونس: 37-39].
فبيَّن تعالى أن الخلق عاجزون عن معارضة هذا القرآن، بل عن عشر سور مثله، بل عن سورة منه وأنهم لا يستطيعون ذلك أبداً. (ج/ص:6/74)
كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} (http://**********:openquran%281,24,24%29) أي: فإن لم تفعلوا في الماضي ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل وهذا تحدٍّ ثان، وهو أنه لا يمكن معارضتهم له لا في الحال ولا في المآل، ومثل هذا التحديّ إنما يصدر عن واثق بأن ما جاء به لا يمكن للبشر معارضته ولا الإتيان بمثله، ولو كان متقوَّل من عند نفسه لخاف أن يعارض فيفنضح ويعود عليه نقيض ما قصده من متابعة النَّاس له، ومعلوم لكلِّ ذي لبّ أنَّ محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم من أعقل خلق الله، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق في نفس الأمر، فما كان ليقدم هذا الأمر إلا وهو عالم بأنَّه لا يمكن معارضته، وهكذا وقع فإنَّه من لدن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم -.
وإلى زماننا هذا لم يستطع أحد أن يأتي بنظيره، ولا نظير سورة منه، وهذا لا سبيل إليه أبداً فإنَّه كلام ربّ العالمين الذي لا يشبهه شيء من خلقه، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله فأنى يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق ؟
وقول كفار قريش الذي حكاه تعالى عنهم في قوله: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين. [الأنفال: 31] كذب منهم ودعوى باطلة بلا دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولو كانوا صادقين لأتوا بما يعارضه، بل هم يعلمون كذب أنفسهم كما يعلمون كذب أنفسهم في قولهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (http://**********:openquran%2824,5,5%29) [الفرقان: 5].
قال الله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 6].
أي: أنزله عالم الخفيَّات، ربّ الأرض والسَّموات، الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فإنَّه تعالى أوحى إلى عبده ورسوله النَّبيّ الأمي الذي كان لا يحسن الكتابة، ولا يدريها بالكلية، ولا يعلم شيئاً من علم الأوائل، وأخبار الماضين، فقص الله عليه خبر ما كان وما هو كائن على الوجه الواقع سواء بسواء، وهو في ذلك يفصل بين الحق والباطل الذي اختلفت في إيراده جملة الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (http://**********:openquran%2810,49,49%29) [هود: 49].
وقال تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} (http://**********:openquran%2819,99,101%29) [طه: 99-101].
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (http://**********:openquran%284,48,48%29) [المائدة: 48].
وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (http://**********:openquran%2828,48,52%29) [العنكبوت: 48-52].
فبيَّن تعالى أنَّ نفس إنزال هذا الكتاب المشتمل على علم ما كان وما يكون وحكم ما هو كائن بين الناس على مثل هذا النَّبيّ الأمي وحده كان من الدَّلالة على صدقه. (ج/ص:6/75)
وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} (http://**********:openquran%289,15,17%29) [يونس: 15 - 17].
يقول لهم: إني لا أطيق تبديل هذا من تلقاء نفسي، وإنما الله - عز وجل - هو الذي يمحو ما يشاء ويثبت، وأنا مبلغ عنه، وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به، لأني نشأت بين أظهركم وأنتم تعلمون نسبي، وصدقي، وأمانتي، وأني لم أكذِّب على أحد منكم يوماً من الدَّهر، فكيف يسعني أن أكذب على الله - عز وجل - مالك الضّر والنَّفع الذي هو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأي ذنب عنده أعظم من الكذب عليه، ونسبة ما ليس منه إليه كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (http://**********:openquran%2868,44,47%29) [الحاقة: 44-47].
أي: لو كذَّب علينا لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما استطاع أحد من أهل الأرض أن يحجزنا عنه ويمنعنا منه.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (http://**********:openquran%285,93,93%29) [الأنعام: 93].
وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (http://**********:openquran%285,19,19%29). [الأنعام: 19].
وهذا الكلام فيه الإخبار بأن الله شهيد على كل شيء، وأنه تعالى أعظم الشُّهداء، وهو مطَّلع عليَّ وعليكم فيما جئتكم به عنه، وتتضمن قوة الكلام قسماً به أنَّه قد أرسلني إلى الخلق لأنذرهم بهذا القرآن، فمن بلغه منهم فهو نذير له كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} (http://**********:openquran%2810,17,17%29) [هود: 17].
ففي هذا القرآن من الأخبار الصَّادقة عن الله وملائكته، وعرشه، ومخلوقاته العلوية والسفلية كالسَّموات والأرضين وما بينهما، وما فيهنَّ أمور عظيمة كثيرة مبرهنة بالأدلة القطعية المرشدة إلى العلم بذلك من جهة العقل الصَّحيح كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} (http://**********:openquran%2816,89,89%29) [الإسراء: 89].
وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (http://**********:openquran%2828,43,43%29) [العنكبوت: 43].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (http://**********:openquran%2838,27,28%29) [الزمر: 27-28].
وفي القرآن العظيم الإخبار عما مضى على الوجه الحق، وبرهانه ما في كتب أهل الكتاب من ذلك شاهداً له مع كونه نزل على رجل أمي لا يعرف الكتابة، ولم يعان يوماً من الدَّهر شيئاً من علوم الأوائل ولا أخبار الماضين، فلم يفجأ النَّاس إلا بوحي إليه عما كان من الأخبار النَّافعة التي ينبغي أن تذكر للاعتبار بها من أخبار الأمم مع الأنبياء، وما كان منهم من أمورهم معهم، وكيف نجَّى الله المؤمنين وأهلك الكافرين، بعبارة لا يستطيع بشر أن يأتي بمثلها أبد الآبدين، ودهر الدَّاهرين، ففي مكان تقص القصة موجزة في غاية البيان والفصاحة، وتارة تبسط فلا أحلى ولا أجلى ولا أعلى من ذلك السِّياق، حتى كأن التالي أو السَّامع مشاهد لما كان حاضر له، معاين للخبر بنفسه كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (http://**********:openquran%2827,46,46%29) [القصص: 46].
وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (http://**********:openquran%282,44,44%29) [آل عمران: 44]. (ج/ص:6/76)
وقال تعالى في سورة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ * وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (http://**********:openquran%2811,102,111%29) إلى أن قال في آخرها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (http://**********:openquran%2811,111,111%29) [يوسف: 102-111].
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} (http://**********:openquran%2819,133,133%29) [طه: 133].
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (http://**********:openquran%2840,52,53%29) [فصِّلت: 52-53].
وعد تعالى أنَّه سيظهر الآيات القرآن وصدقه، وصدق من جاء به بما يخلقه في الآفاق من الآيات الدَّالة على صدق هذا الكتاب، وفي نفس المنكرين له المكذبين ما فيه حجة عليهم وبرهان قاطع لشبههم حتى يستيقنوا أنه منزل من عند الله على لسان الصَّادق، ثمَّ أرشد إلى دليل مستقل بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (http://**********:openquran%2840,53,53%29) [فصِّلت: 53].
أي: في العلم بأن الله يطلع على هذا الأمر كفاية في صدق هذا المخبر عنه، إذ لو كان مفترياً عليه لعاجله بالعقوبة البليغة كما تقدَّم بيان ذلك.
وفي هذا القرآن إخبار عما وقع في المستقبل طبق ما وقع سواء بسواء، وكذلك في الأحاديث حسب ما قررناه في كتابنا (التفسير)، وما سنذكره من الملاحم والفتن كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (http://**********:openquran%2872,20,20%29) [المزَّمل: 20] وهذه السُّورة من أوائل ما نزل بمكة.
وكذلك قوله تعالى في سورة اقتربت وهي مكية بلا خلاف: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (http://**********:openquran%2853,45,46%29) [القمر: 45-46].
وقع مصداق هذه الهزيمة يوم بدر بعد ذلك، إلى أمثال هذا من الأمور البينة الواضحة، وسيأتي فصل فيما أخبر به من الأمور التي وقعت بعده عليه السلام طبق ما أخبر به، وفي القرآن الأحكام العادلة أمراً ونهياً، المشتملة على الحكم البالغة التي إذا تأملها ذو الفهم والعقل الصَّحيح قطع بأن هذه الأحكام إنما أنزلها العالم بالخفيَّات، الرَّحيم بعباده الذي يعاملهم بلطفه ورحمته وإحسانه.
قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} (http://**********:openquran%285,115,115%29) [الأنعام: 115].
أي: صدقاً في الإخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي.
وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (http://**********:openquran%2810,1,1%29). [هود: 1].
أي: أحكمت ألفاظه، وفصِّلت معانيه.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} (http://**********:openquran%2847,28,28%29) [الفتح: 28].
أي: العلم النَّافع، والعمل الصَّالح، وهكذا روي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال لكميل بن زياد: هو كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، وحكم ما بينكم، ونبأ ما بعدكم.
وقد بسطنا هذا كله في كتابنا (التفسير)، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة. (ج/ص:6/77)
فالقرآن العظيم معجز من وجوه كثيرة: من فصاحته، وبلاغته، ونظمه، وتراكيبه، وأساليبه، وما تضمنه من الأخبار الماضية والمستقبلة، وما اشتمل عليه من الأحكام المحكمة الجلية، والتَّحدي ببلاغة ألفاظه يخص فصحاء العرب، والتحدي بما اشتمل عليه من المعاني الصَّحيحة الكاملة - وهي أعظم في التَّحدي عند كثير من العلماء - يعم جميع أهل الأرض من الملتين، أهل الكتاب، وغيرهم من عقلاء اليونان والهند والفرس والقبط، وغيرهم من أصناف بني آدم في سائر الأقطار والأمصار.
وأما من زعم من المتكلمين أن الإعجاز إنما هو من صرف دواعي الكفرة عن معارضته مع إنكار ذلك، أو هو سلب قدرتهم على ذلك، فقول باطل، وهو مفرع على اعتقادهم أن القرآن مخلوق، خلقه الله في بعض الأجرام، ولا فرق عندهم بين مخلوق ومخلوق، وقولهم هذا كفر وباطل، وليس مطابقاً لما في نفس الأمر، بل القرآن كلام الله غير مخلوق، تكلَّم به كما شاء تعالى، وتقدَّس وتنزَّه عما يقولون علواً كبيراً، فالخلق كلهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن الإتيان بمثله، وتنزه عما يقولون علواً كبيراً، فالخلق كلهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن الإتيان بمثله ولو تعاضدوا وتناصروا على ذلك، بل لا تقدر الرُّسل الذين هم أفصح الخلق، وأعظم الخلق وأكملهم أن يتكلموا بمثل كلام الله، وهذا القرآن الذي يبلغه الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم عن الله، أسلوب كلامه لا يشبه أساليب كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأساليب كلامه عليه السلام المحفوظة عنه بالسَّند الصَّحيح إليه لا يقدر أحد من الصَّحابة ولا من بعدهم أن يتكلم بمثل أساليبه في فصاحته وبلاغته، فيما يرويه من المعاني بألفاظه الشَّريفة، بل وأسلوب كلام الصَّحابة أعلى من أساليب كلام التَّابعين، وهلمَّ جراً إلى زماننا، و علماء السَّلف أفصح وأعلم وأقلّ تكلفاً فيما يرونه من المعاني بألفاظهم من علماء الخلف، وهذا يشهده من له ذوق بكلام النَّاس كما يدرك تفاوت ما بين أشعار العرب في زمن الجاهلية، وبين أشعار المولدين الذين كانوا بعد ذلك.
ولهذا جاء الحديث الثَّابت في هذا المعنى، وهو فيما رواه الإمام أحمد قائلاً: حدَّثنا حجاج، ثنا ليث، حدَّثني سعيد ابن أبي سعيد عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
((ما من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)).
وقد أخرجه البخاريّ، ومسلم من حديث اللَّيث بن سعد به.
ومعنى هذا أنَّ الأنبياء - عليهم السَّلام - كل منهم قد أوتي من الحجج والدَّلائل على صدقه، وصحة ما جاء به عن ربه ما فيه كفاية، وحجة لقومه الذين بعث إليهم سواء آمنوا به ففازوا بثواب إيمانهم، أو جحدوا فاستحقوا العقوبة.
وقوله: ((وإنما كان الذي أوتيت)) أي: جلَّه، وأعظمه الوحي الذي أوحاه إليه وهو القرآن الحجَّة المستمرة الدَّائمة القائمة في زمانه وبعده، فإنَّ البراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها، وأما القرآن فهو حجَّة قائمة كأنما يسمعه السَّامع من فيّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فحجة الله قائمة به في حياته عليه السلام وبعد وفاته ولهذا قال:
((فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) أي: لاستمرار ما آتاني الله من الحجَّة البالغة، والبراهين الدَّامغة، فلهذا يكون يوم القيامة أكثر الأنبياء تبعاً. (ج/ص:6/78)
فصل وإنَّك لعلى خلق عظيم.
ومن الدَّلائل المعنوية: أخلاقه عليه السلام الطَّاهرة، وخلقه الكامل، وشجاعته، وحلمه، وكرمه، وزهده، وقناعته، وإيثاره، وجميل صحبته، وصدقه، وأمانته، وتقواه، وعبادته، وكرم أصله، وطيب مولده، ومنشئه، ومرباه، كما قدمناه مبسوطاً في مواضعه، وما أحسن ما ذكره شيخنا العلامة أبو العبَّاس ابن تيمية رحمه الله في كتابه الذي ردَّ فيه على فرق النَّصارى واليهود، وما أشبههم من أهل الكتاب وغيرهم، فإنَّه ذكر في آخره دلائل النبوة، وسلك فيها مسالك حسنة صحيحة، منتجة بكلام بليغ، يخضع له كل من تأمَّله وفهمه.
قد أسلفنا طرفاً صالحاً من ذلك في البشارات قبل مولده، ونحن نذكر هنا غرراً من ذلك.
فقد روى البخاريّ والبيهقيّ واللفظ له من حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في التَّوراة ؟
فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التَّوراة ببعض صفته في الفرقان: يا أيها النَّبيّ إنَّا أرسلناك شاهداً، ومبشراً، ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتك المتوكل ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخَّاب بالأسواق، ولا يدفع السَّيئة بالسَّيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأفتح به أعينا عمياً، وآذاناً صمَّاً، وقلوباً غُلفاً.
قال عطاء بن يسار: ثمَّ لقيت كعباً الحبر فسألته فما اختلف في حرف، إلا أنَّ كعباً قال: أعيناً عموياً، وآذاناً صمومي، وقلوباً غلوفاً.
ورواه البخاريّ أيضاً عن عبد الله غير منسوب، قيل: هو ابن رجاء، وقيل: عبد الله بن صالح، وهو الأرجح، عن عبد العزيز ابن أبي سلمة الماجشون، عن هلال بن علي به.
قال البخاريّ: وقال سعيد عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام: كذا علَّقه البخاريّ.
وقد روى البيهقيّ من طريق يعقوب بن سفيان: حدَّثنا أبو صالح - هو عبد الله بن صالح كاتب اللَّيث - حدَّثني خالد بن يزيد عن سعيد ابن أبي هلال، عن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن ابن سلام أنه كان يقول: إنَّا لنجد صفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّا أرسلناك شاهداً ومبشراً) (http://**********:openquran%2832,45,45%29)) أنت عبدي ورسولي، سمَّيته المتوكل ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسَّيئة مثلها، ولكن يعفو ويغفر ويتجاوز، وليس أقبضه حتى يُقيم الملة العوجاء، بأن تشهد ((أن لا إله إلا الله)) يفتح به أعيناً عُمياً، وآذاناً صمَّاً، وقلوباً غُلفاً. (ج/ص:6/69)
قال عطاء بن يسار: وأخبرني اللَّيثي أنَّه سمع كعب الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلام.
وقد روي عن عبد الله بن سلام من وجه آخر: فقال التّرمذيّ: حدَّثنا زيد بن أخرم الطَّائيّ البصريّ، ثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة، حدَّثني أبو مودود المدنيّ، ثنا عثمان الضحاك عن محمد بن يوسف، عن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال: مكتوب في التَّوراة: محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه.
فقال أبو مودود: قد بقي في البيت موضع قبر.
ثم قال التّرمذيّ: هذا حديث حسن، هكذا قال الضحاك، والمعروف الضحاك بن عثمان المدنيّ، وهكذا حكى شيخنا الحافظ المزيّ في كتابه (الأطراف)، عن ابن عساكر أنه قال مثل قول التّرمذيّ ثم قال: وهو شيخ آخر أقدم من الضحاك بن عثمان، ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه فيمن اسمه عثمان، فقد روى هذا عن عبد الله بن سلام - وهو من أئمة أهل الكتاب ممن آمن -، وعبد الله بن عمرو بن العاص وقد كان له اطلاع على ذلك من جهة زاملتين كان أصابهما يوم اليرموك، فكان يحدِّث منهما عن أهل الكتاب وعن كعب الأحبار، وكان بصيراً بأقوال المتقدمين على ما فيها من خلط وغلط وتحريف وتبديل، فكان يقولها بما فيها من غير نقد.
وربما أحسن بعض السَّلف بها الظَّن فنقلها عنه مسلمة، وفي ذلك من المخالفة لبعض ما بأيدينا من الحق جملة كثيرة، لكن لا يتفطن لها كثير من النَّاس.
ثم ليعلم أن كثيراً من السَّلف يطلقون التَّوراة على كتب أهل الكتاب المتلوة عندهم، أو أعم من ذلك، كما أن لفظ القرآن يطلق على كتابنا خصوصاً ويراد به غيره، كما في الصَّحيح خفف على داود القرآن فكان يأمر بداوبه فتسرح فيقرأ القرآن مقدار ما يفرغ، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقال البيهقيّ عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدَّثني محمد بن ثابت بن شرحبيل عن أم الدَّرداء قالت: قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في التَّوراة ؟
قال: نجده محمد رسول الله اسمه المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا سخَّاب بالأسواق، وأعطي المفاتيح ليبصِّر الله به أعيناً عُمياً، ويسمع به آذاناً وُقراً، ويقيم به ألسناً مِعوجة، حتى تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه.
وبه عن يونس بن بكير، عن يونس ابن عمرو، عن العيزار بن حريث، عن عائشة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مكتوب في الإنجيل: لا فظٍّ، ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسَّيئة مثلها بل يعفو ويصفح. (ج/ص:6/70)
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا قيس البجليّ، حدَّثنا سلام بن مسكين عن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم: ((جد في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع، يا ابن الطَّاهر البتول، إني خلقتك من غير فحل، وجعلتك آية للعالمين، فإياي فاعبد، وعليَّ فتوكَّل، فبين لأهل سوران أني أنا الحق القائم الذي لا أزول، صدِّقوا بالنَّبيّ العربي، صاحب الجمل والمدرعة، والعمامة، والنعلين، والهراوة، الجعد الرأس، الصَّلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدّين، الكثّ اللِّحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، ريحه المسك ينفخ منه، كأن عنقه إبريق فضة، وكأن الذَّهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب، ليس على صدره ولا بطنه شعر غيره، شثن الكفين والقدم، إذا جاء مع الناس غمرهم، وإذا مشى كأنما ينقلع من الصَّخر، وينحدر في صبب، ذو النسل القليل.
وروى الحافظ البيهقيّ بسنده عن وهب بن منبه اليمامي قال: إنَّ الله - عز وجل - لما قرَّب موسى نجياً.
قال: ربِّ إني أجد في التوراة أمة خير أمة أخرجت للنَّاس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، فاجعلهم أمتي؟
قال: ((تلك أمة أحمد)).
قال: ربِّ إني أجد في التَّوراة أمة هم خير الأمم الآخرون من الأمم، السَّابقون يوم القيامة فاجعلهم أمتي.
قال: ((تلك أمة أحمد)).
قال: يا رب إني أجد في التَّوراة أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، وكان من قبلهم يقرءون كتبهم نظراً ولا يحفظونها، فاجعلهم أمتي.
قال: ((تلك أمة أحمد)).
قال: ربِّ إني أجد في التَّوراة أمة يؤمنون بالكتاب الأول والآخر، ويقاتلون رؤوس الضَّلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذَّاب، فاجعلهم أمتي.
قال: ((تلك أمة أحمد)).
قال: ربِّ إني أجد في التَّوراة أمة يأكلون صدقاتهم في بطونهم، وكان من قبلهم إذا أخرج صدقته بعث الله عليها ناراً فأكلتها، فإن لم تقبل لا تقربها النَّار، فاجعلهم أمتي.
قال: ((تلك أمة أحمد)).
قال: ربِّ إني أجد في التَّوراة أمة إذا همَّ أحدهم بسيئة لم تُكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، وإذا همَّ أحدهم بحسنة ولم يعملها بها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فاجعلهم أمتي.
قال: ((تلك أمة أحمد)).
قال: ربِّ إني أجد في التَّوراة أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، فاجعلهم أمتي.
قال: ((تلك أمة أحمد)). (ج/ص:6/71)
قال: وذكر وهب بن منبه في قصة داود عليه السلام وما أوحي إليه في الزبور: ((يا داود إنَّه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، صادقاً سيداً، لا أغضب عليه أبداً، ولا يغضبني أبداً، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، أمته مرحومة أعطيهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرُّسل، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرُّسل قبلهم، يا داود إني فضَّلت محمداً وأمته على الأمم كلها، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا آخذهم بالخطأ والنِّسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إن استغفروني منه غفرته لهم، وما قدَّموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم جعلته لهم أضعاف مضاعفة، ولهم في المدَّخر عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، الصَّلاة والرَّحمة والهدى إلى جنات النَّعيم، فإن دعوني استجبت لهم، فإما أن يروه عاجلاً، وإما أن أصرف عنهم سوءاً، وإما أن أدَّخره لهم في الآخرة.
يا داود! من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صادقاً بها فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذَّب محمداً، أو كذَّب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صباً، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره، ثم أُدخله في الدرك الأسفل من النَّار)).
وقال الحافظ البيهقيّ: أخبرنا الشَّريف أبو الفتح العمريّ، ثنا عبد الرَّحمن ابن أبي شريح الهرويّ، ثنا يحيى بن محمد بن صاعد، ثنا عبد الله بن شبيب أبو سعيد الربعي، حدثني محمد بن عمر بن سعيد - يعني: ابن محمد بن جبير بن مطعم - قال: حدثتني أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيها، عن أبيه قال: سمعت أبي جبير ابن مطعم يقول: لما بعث الله نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم وظهر أمره بمكة، خرجت إلى الشَّام فلما كنت ببصرى أتتنى جماعة من النَّصارى فقالوا لي: أمن الحرام أنت ؟
قلت: نعم!
قالوا: فتعرف هذا الذي تنبَّأ فيكم ؟
قلت: نعم.
قال: فأخذوا بيدي فأدخلوني ديراً لهم فيه تماثيل وصور.
فقالوا لي: أنظر هل ترى صورة هذا النَّبيّ الذي بعث فيكم ؟
فنظرت، فلم أر صورته.
قلت: لا أرى صورته، فأدخلوني ديراً أكبر من ذلك الدَّير فإذا فيه تماثيل وصور أكثر مما في ذلك الدَّير.
فقالوا لي: انظر هل ترى صورته.
فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصورته، وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته، وهو آخذ بعقب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
فقالوا لي: هل ترى صفته ؟
قلت: نعم!
قالوا: هو هذا، وأشاروا إلى صفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
قلت: اللهم نعم، أشهد أنه هو.
قالوا: أتعرف هذا الذي آخذ بعقبه ؟
قلت: نعم!
قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده. (ج/ص:6/72)
ورواه البخاري في (التاريخ): عن محمد - غير منسوب -، عن محمد بن عمر هذا، بإسناده فذكره مختصراً، وعنده فقالوا: إنَّه لم يكن نبي إلا بعده نبي، إلا هذا النَّبيّ.
وقد ذكرنا في كتابنا (التفسير) عند قوله تعالى في سورة الأعراف: ((الذين يتَّبعون الرَّسول النَّبيّ الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التَّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) (http://**********:openquran%286,157,157%29)) الآية.
ذكرنا ما أورده البيهقيّ وغيره من طريق أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل من قريش إلى هرقل صاحب الرُّوم ندعوه إلى الإسلام، فذكر اجتماعهم به، وأنَّ عرفته تنغصت حين ذكروا الله - عز وجل - فأنزلهم في دار ضيافته، ثم استدعاهم بعد ثلاث، فدعا بشيء نحو الربعة العظيمة فيها بيوت صغار عليها أبواب وإذا فيها صور الأنبياء ممثلة في قطع من حرير من آدم إلى محمد - صلوات الله عليهم أجمعين -، فجعل يخرج لهم واحداً واحداً، ويخبرهم عنه، وأخرج لهم صورة آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم تعجَّل إخراج صورة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال: ثم فتح باباً آخر فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا والله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال: أتعرفون هذا ؟
قلنا: نعم، محمد رسول الله.
قال: وبكينا.
قال: والله يعلم أنه قام قائماً، ثم جلس وقال: والله إنَّه لهو ؟
قلنا: نعم إنَّه لهو كما تنظر إليه.
فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال: أما إنَّه كان آخر البيوت، ولكني عجَّلته لكم لأنظر ما عندكم، ثم ذكر تمام الحديث في إخراجه بقية صور الأنبياء، وتعريفه إياهما بهم.
وقال في آخره: قلنا له: من أين لك هذه الصّور؟ لأنا نعلم أنها ما على صورِّت عليه الأنبياء - عليهم السَّلام -، لأنَّا رأينا صورة نبينا - عليه السَّلام - مثله.
فقال: إنَّ آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكانت في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشَّمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشَّمس فدفعها إلى دانيال.
ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وأني كنت عبداً لأشركم ملكة حتى أموت.
قال: ثم أجازنا، فأحسن جائزتنا وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصّديق رضي الله عنه حدَّثناه بما رأينا، وما قال لنا، وما أجازنا.
قال: فبكى أبو بكر فقال: مسكين لو أراد الله به خيراً لفعل ثم قال: أخبرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلَّى الله عليه وسلَّم عندهم.
وقال الواقديّ: حدَّثني علي بن عيسى الحكيمي عن أبيه، عن عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدِّقه، وأشهد برسالته، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السَّلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك.
قلت: هلم.
قال: هو رجل ليس بالطَّويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشَّعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قوم منها ويكرهون ما جاء به، حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من سأل من اليهود، والنَّصارى، والمجوس يقولون: هذا الدِّين وذاك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبق نبي غيره.
قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قول زيد بن عمرو بن نفيل، وإقرائه منه السَّلام، فردَّ عليه السَّلام، وترحم عليه وقال: ((قد رأيته في الجنَّة يسحب ذيولاً)). (ج/ص: 6/73)
http://www.al-eman.com/Islamlib/images/up.gif (http://www.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=251&CID=92#TOP) كتاب دلائل النّبوة
وهو معنوية وحسّية فمن المعنوية: إنزال القرآن عليه، وهو أعظم المعجزات وأبهر الآيات، وأبين الحجج الواضحات لما اشتمل عليه من التركيب المعجز الذي تحدَّى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك مع توافر دواعي أعدائه على معارضته وفصاحتهم وبلاغتهم، ثمَّ تحدَّاهم بعشر سور منه فعجزوا، ثمَّ تنازل إلى التَّحدي بسورة من مثله فعجزوا عنه وهم يعلمون عجزهم، وتقصيرهم عن ذلك، وأن هذا ما لا سبيل لأحد إليه أبداً.
قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (http://**********:openquran%2816,88,88%29). [الإسراء: 88] وهذه الآية مكية.
وقال في سورة الطُّور وهي مكية: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (http://**********:openquran%2851,33,34%29) [الطُّور: 33-34].
أي: إن كنتم صادقين في أنه قاله من عنده فهو بشر مثلكم، فأتوا بمثل ما جاء به فإنَّكم مثله.
وقال تعالى في سورة البقرة وهي مدنية - معيداً للتحديّ -: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (http://**********:openquran%281,23,24%29) [البقرة: 23 -24].
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ} (http://**********:openquran%2810,13,14%29) [هود: 13-14].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (http://**********:openquran%289,37,39%29) [يونس: 37-39].
فبيَّن تعالى أن الخلق عاجزون عن معارضة هذا القرآن، بل عن عشر سور مثله، بل عن سورة منه وأنهم لا يستطيعون ذلك أبداً. (ج/ص:6/74)
كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} (http://**********:openquran%281,24,24%29) أي: فإن لم تفعلوا في الماضي ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل وهذا تحدٍّ ثان، وهو أنه لا يمكن معارضتهم له لا في الحال ولا في المآل، ومثل هذا التحديّ إنما يصدر عن واثق بأن ما جاء به لا يمكن للبشر معارضته ولا الإتيان بمثله، ولو كان متقوَّل من عند نفسه لخاف أن يعارض فيفنضح ويعود عليه نقيض ما قصده من متابعة النَّاس له، ومعلوم لكلِّ ذي لبّ أنَّ محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم من أعقل خلق الله، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق في نفس الأمر، فما كان ليقدم هذا الأمر إلا وهو عالم بأنَّه لا يمكن معارضته، وهكذا وقع فإنَّه من لدن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم -.
وإلى زماننا هذا لم يستطع أحد أن يأتي بنظيره، ولا نظير سورة منه، وهذا لا سبيل إليه أبداً فإنَّه كلام ربّ العالمين الذي لا يشبهه شيء من خلقه، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله فأنى يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق ؟
وقول كفار قريش الذي حكاه تعالى عنهم في قوله: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين. [الأنفال: 31] كذب منهم ودعوى باطلة بلا دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولو كانوا صادقين لأتوا بما يعارضه، بل هم يعلمون كذب أنفسهم كما يعلمون كذب أنفسهم في قولهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (http://**********:openquran%2824,5,5%29) [الفرقان: 5].
قال الله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 6].
أي: أنزله عالم الخفيَّات، ربّ الأرض والسَّموات، الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فإنَّه تعالى أوحى إلى عبده ورسوله النَّبيّ الأمي الذي كان لا يحسن الكتابة، ولا يدريها بالكلية، ولا يعلم شيئاً من علم الأوائل، وأخبار الماضين، فقص الله عليه خبر ما كان وما هو كائن على الوجه الواقع سواء بسواء، وهو في ذلك يفصل بين الحق والباطل الذي اختلفت في إيراده جملة الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (http://**********:openquran%2810,49,49%29) [هود: 49].
وقال تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} (http://**********:openquran%2819,99,101%29) [طه: 99-101].
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (http://**********:openquran%284,48,48%29) [المائدة: 48].
وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (http://**********:openquran%2828,48,52%29) [العنكبوت: 48-52].
فبيَّن تعالى أنَّ نفس إنزال هذا الكتاب المشتمل على علم ما كان وما يكون وحكم ما هو كائن بين الناس على مثل هذا النَّبيّ الأمي وحده كان من الدَّلالة على صدقه. (ج/ص:6/75)
وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} (http://**********:openquran%289,15,17%29) [يونس: 15 - 17].
يقول لهم: إني لا أطيق تبديل هذا من تلقاء نفسي، وإنما الله - عز وجل - هو الذي يمحو ما يشاء ويثبت، وأنا مبلغ عنه، وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به، لأني نشأت بين أظهركم وأنتم تعلمون نسبي، وصدقي، وأمانتي، وأني لم أكذِّب على أحد منكم يوماً من الدَّهر، فكيف يسعني أن أكذب على الله - عز وجل - مالك الضّر والنَّفع الذي هو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأي ذنب عنده أعظم من الكذب عليه، ونسبة ما ليس منه إليه كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (http://**********:openquran%2868,44,47%29) [الحاقة: 44-47].
أي: لو كذَّب علينا لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما استطاع أحد من أهل الأرض أن يحجزنا عنه ويمنعنا منه.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (http://**********:openquran%285,93,93%29) [الأنعام: 93].
وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (http://**********:openquran%285,19,19%29). [الأنعام: 19].
وهذا الكلام فيه الإخبار بأن الله شهيد على كل شيء، وأنه تعالى أعظم الشُّهداء، وهو مطَّلع عليَّ وعليكم فيما جئتكم به عنه، وتتضمن قوة الكلام قسماً به أنَّه قد أرسلني إلى الخلق لأنذرهم بهذا القرآن، فمن بلغه منهم فهو نذير له كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} (http://**********:openquran%2810,17,17%29) [هود: 17].
ففي هذا القرآن من الأخبار الصَّادقة عن الله وملائكته، وعرشه، ومخلوقاته العلوية والسفلية كالسَّموات والأرضين وما بينهما، وما فيهنَّ أمور عظيمة كثيرة مبرهنة بالأدلة القطعية المرشدة إلى العلم بذلك من جهة العقل الصَّحيح كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} (http://**********:openquran%2816,89,89%29) [الإسراء: 89].
وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (http://**********:openquran%2828,43,43%29) [العنكبوت: 43].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (http://**********:openquran%2838,27,28%29) [الزمر: 27-28].
وفي القرآن العظيم الإخبار عما مضى على الوجه الحق، وبرهانه ما في كتب أهل الكتاب من ذلك شاهداً له مع كونه نزل على رجل أمي لا يعرف الكتابة، ولم يعان يوماً من الدَّهر شيئاً من علوم الأوائل ولا أخبار الماضين، فلم يفجأ النَّاس إلا بوحي إليه عما كان من الأخبار النَّافعة التي ينبغي أن تذكر للاعتبار بها من أخبار الأمم مع الأنبياء، وما كان منهم من أمورهم معهم، وكيف نجَّى الله المؤمنين وأهلك الكافرين، بعبارة لا يستطيع بشر أن يأتي بمثلها أبد الآبدين، ودهر الدَّاهرين، ففي مكان تقص القصة موجزة في غاية البيان والفصاحة، وتارة تبسط فلا أحلى ولا أجلى ولا أعلى من ذلك السِّياق، حتى كأن التالي أو السَّامع مشاهد لما كان حاضر له، معاين للخبر بنفسه كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (http://**********:openquran%2827,46,46%29) [القصص: 46].
وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (http://**********:openquran%282,44,44%29) [آل عمران: 44]. (ج/ص:6/76)
وقال تعالى في سورة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ * وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (http://**********:openquran%2811,102,111%29) إلى أن قال في آخرها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (http://**********:openquran%2811,111,111%29) [يوسف: 102-111].
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} (http://**********:openquran%2819,133,133%29) [طه: 133].
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (http://**********:openquran%2840,52,53%29) [فصِّلت: 52-53].
وعد تعالى أنَّه سيظهر الآيات القرآن وصدقه، وصدق من جاء به بما يخلقه في الآفاق من الآيات الدَّالة على صدق هذا الكتاب، وفي نفس المنكرين له المكذبين ما فيه حجة عليهم وبرهان قاطع لشبههم حتى يستيقنوا أنه منزل من عند الله على لسان الصَّادق، ثمَّ أرشد إلى دليل مستقل بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (http://**********:openquran%2840,53,53%29) [فصِّلت: 53].
أي: في العلم بأن الله يطلع على هذا الأمر كفاية في صدق هذا المخبر عنه، إذ لو كان مفترياً عليه لعاجله بالعقوبة البليغة كما تقدَّم بيان ذلك.
وفي هذا القرآن إخبار عما وقع في المستقبل طبق ما وقع سواء بسواء، وكذلك في الأحاديث حسب ما قررناه في كتابنا (التفسير)، وما سنذكره من الملاحم والفتن كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (http://**********:openquran%2872,20,20%29) [المزَّمل: 20] وهذه السُّورة من أوائل ما نزل بمكة.
وكذلك قوله تعالى في سورة اقتربت وهي مكية بلا خلاف: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (http://**********:openquran%2853,45,46%29) [القمر: 45-46].
وقع مصداق هذه الهزيمة يوم بدر بعد ذلك، إلى أمثال هذا من الأمور البينة الواضحة، وسيأتي فصل فيما أخبر به من الأمور التي وقعت بعده عليه السلام طبق ما أخبر به، وفي القرآن الأحكام العادلة أمراً ونهياً، المشتملة على الحكم البالغة التي إذا تأملها ذو الفهم والعقل الصَّحيح قطع بأن هذه الأحكام إنما أنزلها العالم بالخفيَّات، الرَّحيم بعباده الذي يعاملهم بلطفه ورحمته وإحسانه.
قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} (http://**********:openquran%285,115,115%29) [الأنعام: 115].
أي: صدقاً في الإخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي.
وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (http://**********:openquran%2810,1,1%29). [هود: 1].
أي: أحكمت ألفاظه، وفصِّلت معانيه.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} (http://**********:openquran%2847,28,28%29) [الفتح: 28].
أي: العلم النَّافع، والعمل الصَّالح، وهكذا روي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال لكميل بن زياد: هو كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، وحكم ما بينكم، ونبأ ما بعدكم.
وقد بسطنا هذا كله في كتابنا (التفسير)، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة. (ج/ص:6/77)
فالقرآن العظيم معجز من وجوه كثيرة: من فصاحته، وبلاغته، ونظمه، وتراكيبه، وأساليبه، وما تضمنه من الأخبار الماضية والمستقبلة، وما اشتمل عليه من الأحكام المحكمة الجلية، والتَّحدي ببلاغة ألفاظه يخص فصحاء العرب، والتحدي بما اشتمل عليه من المعاني الصَّحيحة الكاملة - وهي أعظم في التَّحدي عند كثير من العلماء - يعم جميع أهل الأرض من الملتين، أهل الكتاب، وغيرهم من عقلاء اليونان والهند والفرس والقبط، وغيرهم من أصناف بني آدم في سائر الأقطار والأمصار.
وأما من زعم من المتكلمين أن الإعجاز إنما هو من صرف دواعي الكفرة عن معارضته مع إنكار ذلك، أو هو سلب قدرتهم على ذلك، فقول باطل، وهو مفرع على اعتقادهم أن القرآن مخلوق، خلقه الله في بعض الأجرام، ولا فرق عندهم بين مخلوق ومخلوق، وقولهم هذا كفر وباطل، وليس مطابقاً لما في نفس الأمر، بل القرآن كلام الله غير مخلوق، تكلَّم به كما شاء تعالى، وتقدَّس وتنزَّه عما يقولون علواً كبيراً، فالخلق كلهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن الإتيان بمثله، وتنزه عما يقولون علواً كبيراً، فالخلق كلهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن الإتيان بمثله ولو تعاضدوا وتناصروا على ذلك، بل لا تقدر الرُّسل الذين هم أفصح الخلق، وأعظم الخلق وأكملهم أن يتكلموا بمثل كلام الله، وهذا القرآن الذي يبلغه الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم عن الله، أسلوب كلامه لا يشبه أساليب كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأساليب كلامه عليه السلام المحفوظة عنه بالسَّند الصَّحيح إليه لا يقدر أحد من الصَّحابة ولا من بعدهم أن يتكلم بمثل أساليبه في فصاحته وبلاغته، فيما يرويه من المعاني بألفاظه الشَّريفة، بل وأسلوب كلام الصَّحابة أعلى من أساليب كلام التَّابعين، وهلمَّ جراً إلى زماننا، و علماء السَّلف أفصح وأعلم وأقلّ تكلفاً فيما يرونه من المعاني بألفاظهم من علماء الخلف، وهذا يشهده من له ذوق بكلام النَّاس كما يدرك تفاوت ما بين أشعار العرب في زمن الجاهلية، وبين أشعار المولدين الذين كانوا بعد ذلك.
ولهذا جاء الحديث الثَّابت في هذا المعنى، وهو فيما رواه الإمام أحمد قائلاً: حدَّثنا حجاج، ثنا ليث، حدَّثني سعيد ابن أبي سعيد عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
((ما من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)).
وقد أخرجه البخاريّ، ومسلم من حديث اللَّيث بن سعد به.
ومعنى هذا أنَّ الأنبياء - عليهم السَّلام - كل منهم قد أوتي من الحجج والدَّلائل على صدقه، وصحة ما جاء به عن ربه ما فيه كفاية، وحجة لقومه الذين بعث إليهم سواء آمنوا به ففازوا بثواب إيمانهم، أو جحدوا فاستحقوا العقوبة.
وقوله: ((وإنما كان الذي أوتيت)) أي: جلَّه، وأعظمه الوحي الذي أوحاه إليه وهو القرآن الحجَّة المستمرة الدَّائمة القائمة في زمانه وبعده، فإنَّ البراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها، وأما القرآن فهو حجَّة قائمة كأنما يسمعه السَّامع من فيّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فحجة الله قائمة به في حياته عليه السلام وبعد وفاته ولهذا قال:
((فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) أي: لاستمرار ما آتاني الله من الحجَّة البالغة، والبراهين الدَّامغة، فلهذا يكون يوم القيامة أكثر الأنبياء تبعاً. (ج/ص:6/78)
فصل وإنَّك لعلى خلق عظيم.
ومن الدَّلائل المعنوية: أخلاقه عليه السلام الطَّاهرة، وخلقه الكامل، وشجاعته، وحلمه، وكرمه، وزهده، وقناعته، وإيثاره، وجميل صحبته، وصدقه، وأمانته، وتقواه، وعبادته، وكرم أصله، وطيب مولده، ومنشئه، ومرباه، كما قدمناه مبسوطاً في مواضعه، وما أحسن ما ذكره شيخنا العلامة أبو العبَّاس ابن تيمية رحمه الله في كتابه الذي ردَّ فيه على فرق النَّصارى واليهود، وما أشبههم من أهل الكتاب وغيرهم، فإنَّه ذكر في آخره دلائل النبوة، وسلك فيها مسالك حسنة صحيحة، منتجة بكلام بليغ، يخضع له كل من تأمَّله وفهمه.