maghfera
04-13-2009, 10:16 AM
قدوم مالك بن عوف النصري على الرسول
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن وسألهم عن مالك بن عوف ما فعل؟
فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف.
فقال: ((أخبروه أنه إن أتاني مسلماً رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل)).
فلما بلغ ذلك مالكاً انسل من ثقيف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة - أو بمكة - فأسلم وحسن إسلامه، فرد عليه أهله وماله، ولما أعطاه مائة فقال مالك بن عوف رضي الله عنه:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى * ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها * بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله * وسط الهباءة خادر في مرصد
قال: واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وتلك القبائل ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفاً لا يخرج لهم سرج إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم. (ج/ص: 4/ 415)
وقال البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير بن حازم، ثنا الحسن، حدثني عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه فقال: ((إني أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم وأكِل قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب)).
قال عمرو: فما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم.
زاد أبو عاصم عن جرير: سمعت الحسن، ثنا عمرو بن تغلب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال - أو سبي - فقسمه بهذا.
وفي رواية للبخاري قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال - أو بشيء - فأعطى رجالاً وترك رجالاً فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد)) فذكر مثله سواء.
تفرد به البخاري.
وقد ذكر ابن هشام أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال فيما كان من أمر الأنصار وتأخرهم عن الغنيمة:
ذر الهموم فماء العين منحدر * سحاً إذا حفلته عبرة درر
وجداً بشماء إذ شماء بهكنة * هيفاء لا ذنن فيها ولا خور
دع عنك شماء إذ كانت مودتها * نزراً وشر وصال الواصل النزر
وائت الرسول وقل يا خير مؤتمن * للمؤمنين إذ ما عدد البشر
علام تدعي سليم وهي نازحة * قدام قوم هموا آووا وهم نصروا
سماهم الله أنصاراً بنصرهم * دين الهدى وعوان الحرب تستعر
وسارعوا في سبيل الله واعترضوا * للنائبات وما خانوا وما ضجروا
والناس إلب علينا فيك ليس لنا * إلا السيوف وأطراف القنا وزر
تجالد الناس لا نبقي على أحد * ولا نضيع ما توحي به السور
ولا تهز جناة الحرب نادينا * ونحن حين تلظى نارها سعر
كما رددنا ببدر دون ما طلبوا * أهل النفاق وفينا ينزل الظفر
ونحن جندك يوم النعف من أحد * إذ حزبت بطراً أحزابها مضر
فما ونينا وما خمنا وما خبروا * منا عثاراً وكل الناس قد عثروا
(ج/ص: 4/ 415)
اعتراض بعض أهل الشقاق على الرسول
قال البخاري: ثنا قبيصة، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: لما قسم النبي قسمة حنين قال رجل من الأنصار: ما أراد بها وجه الله.
قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتغير وجهه، ثم قال: ((رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)).
ورواه مسلم من حديث الأعمش به.
ثم قال البخاري: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناساً، أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناساً، فقال رجل: ما أريد بهذه القسمة وجه الله.
فقلت: لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ((رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)).
وهكذا رواه من حديث منصور، عن المعتمر به.
وفي رواية للبخاري: فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله.
فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأخبرته فقال: ((من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ؟! رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)).
وقال محمد بن إسحاق: وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن مقسم أبي القاسم، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي، حتى أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو يطوف بالبيت معلقاً نعله بيده، فقلنا له: هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كلمه التميمي يوم حنين ؟
قال: نعم، جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف عليه وهو يعطي الناس فقال له: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجل فكيف رأيت ؟)).
قال: لم أرك عدلت.
قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ؟)).
فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله ؟
فقال: ((دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء، ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث والدم)).
وقال الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل بالجعرانة النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل.
قال: ((ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل)).
فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق؟
فقال: ((معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية)). (ج/ص: 4/ 417)
ورواه مسلم: عن محمد بن رمح، عن الليث.
وقال أحمد: ثنا أبو عامر، ثنا قرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مغانم حنين إذ قام إليه رجل فقال: اعدل.
فقال: ((لقد شقيت إذ لم أعدل)).
ورواه البخاري: عن مسلم بن إبراهيم، عن قرة بن خالد السدوسي به.
وفي الصحيحين من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلك ومن يعدل إن لم أعدل، لقد خبت وخسرت إذ لم أعدل فمن يعدل ؟)).
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ايذن لي فيه فأضرب عنقه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس)).
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت.
ورواه مسلم أيضاً من حديث القاسم بن الفضل، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد به نحوه.
مجيء أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة عليه بالجعرانة
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض بني سعد بن بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم هوازن: ((إن قدرتم على نجاد - رجل من بني سعد بن بكر - فلا يفلتنكم)).
وكان قد أحدث حدثاً. (ج/ص: 4/ 418)
فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة.
قال: فعنفوا عليها في السوق، فقالت للمسلمين: تعلمون والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة؟ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن عبيد السعدي - هو أبو وجزة - قال: فلما انتهى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله إني أختك من الرضاعة.
قال: ((وما علامة ذلك ؟)).
قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك.
قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها، وقال: ((إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت ؟)).
قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وردها إلى قومها، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاماً يقال له مكحول وجارية، فزوجت أحدهما الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية.
وروى البيهقي: من حديث الحكم بن عبد الملك، عن قتادة قال: لما كان يوم فتح هوازن جاءت جارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا أختك، أنا شيماء بنت الحارث.
فقال لها: ((إن تكوني صادقة فإن بك مني أثر لا يبلى)).
قال: فكشفت عن عضدها فقالت: نعم يا رسول الله حملتك وأنت صغير فعضضتني هذه العضة.
قال: فبسط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه، ثم قال: ((سلي تعطي، واشفعي تشفعي)).
وقال البيهقي: أنبا أبو نصر بن قتادة، أنبا عمرو بن إسماعيل بن عبد السلمي، ثنا مسلم، ثنا أبو عاصم، ثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان، أخبرني عمي عمارة بن ثوبان: أن أبا الطفيل أخبره قال: كنت غلاماً أحمل عضو البعير، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم نعماً بالجعرانة، قال: فجاءته امرأة فبسط لها رداءه، فقلت: من هذه ؟
قالوا: أمه التي أرضعته.
هذا حديث غريب، ولعله يريد أخته وقد كانت تحضنه مع أمها حليمة السعدية، وإن كان محفوظاً فقد عمرت حليمة دهراً، فإن من وقت أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقت الجعرانة أزيد من ستين سنة، وأقل ما كان عمرها حين أرضعته صلى الله عليه وسلم ثلاثين سنة، ثم الله أعلم بما عاشت بعد ذلك.
وقد ورد حديث مرسل فيه: أن أبويه من الرضاعة قدما عليه والله أعلم بصحته.
قال أبو داود في (المراسيل): ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، ثنا ابن وهب، ثنا عمرو بن الحارث: أن عمر بن السائب حدثه:
أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً فجاءه أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم جاءه أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه.
(ج/ص: 4/ 419)
وقد تقدم أن هوازن بكمالها متوالية برضاعته من بني سعد بن بكر - وهم شرذمة من هوازن - فقال خطيبهم زهير بن صرد: يا رسول الله إنما في الحظائر أمهاتك وخالاتك وحواضنك، فأمنُن علينا منَّ الله عليك، وقال فيما قال:
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم، فعادت فواضله عليه السلام عليهم قديماً وحديثاً، خصوصاً وعموماً.
وقد ذكر الواقدي، عن إبراهيم بن محمد بن شرحبيل، عن أبيه قال: كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول: الحمد لله الذي منَّ علينا بالإسلام، ومنَّ علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الأخوة وبنو العم.
ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين وهم على دينهم بعد، قال: ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم يمكنا ذلك، فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أنضير ؟)).
قلت: لبيك.
قال: ((هل لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه ؟)).
قال: فأقبلت إليه سريعاً.
فقال: ((قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع)).
قلت: قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم زده ثباتاً))
قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتاً في الدين، وتبصرة بالحق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله الذي هداه)).
عمرة الجعرانة في ذي القعدة
قال الإمام أحمد: ثنا بهز وعبد الصمد المعنى قالا: ثنا همام بن يحيى، ثنا قتادة قال: سألت أنس بن مالك قلت: كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: حجة واحدة، واعتمر أربع مرات.
عمرته زمن الحديبية، وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة، حيث قسم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته.
ورواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي من طرق عن همام بن يحيى به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني العطار - عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر؛ عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته. (ج/ص: 4/ 420)
ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث داود بن عبد الرحمن العطار المكي، عن عمرو بن دينار به. وحسنه والترمذي.
وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ثنا حجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر، كل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الحجر.
غريب من هذا الوجه. وهذه الثلاث عمر اللاتي وقعن في ذي القعدة ما عدا عمرته مع حجته فإنها وقعت في ذي الحجة مع الحجة، وإن أراد ابتداء الإحرام بهن في ذي القعدة فلعله لم يرد عمرة الحديبية لأنه صد عنها، ولم يفعلها، والله أعلم.
قلت: وقد كان نافع ومولاه ابن عمر ينكران أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة بالكلية، وذلك فيما قال البخاري: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إنه كان علي اعتكاف يوم في الجاهلية فأمره أن يفي به.
قال: وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين، فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال: فمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبي حنين فجعلوا يسعون في السكك، فقال عمر: يا عبد الله انظر ما هذا ؟
قال: منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السبي.
قال: اذهب فأرسل الجاريتين.
قال نافع: ولم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، ولو اعتمر لم يخف على عبد الله.
وقد رواه مسلم من حديث أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر به.
ورواه مسلم أيضاً، عن أحمد بن عبدة الضبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فقال: لم يعتمر منها.
وهذا غريب جداً عن ابن عمرو عن مولاه نافع في إنكارهما عمرة الجعرانة، وقد أطبق النقلة ممن عداهما على رواية ذلك من أصحاب الصحاح، والسنن، والمسانيد، وذكر ذلك أصحاب المغازي والسنن كلهم.
وهذا أيضاً كما ثبت في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح، عن عروة، عن عائشة أنها أنكرت على ابن عمر قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب، وقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط.
وقال الإمام أحمد: ثنا نمير، ثنا الأعمش، عن مجاهد قال: سأل عروة بن الزبير ابن عمر في أي شهر اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: في رجب، فسمعتنا عائشة فسألها ابن الزبير وأخبرها بقول ابن عمر، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وقد شهدها، وما اعتمر قط إلا في ذي القعدة.
وأخرجه البخاري، ومسلم من حديث جرير، عن منصور عن مجاهد به نحوه.
ورواه أبو داود، والنسائي أيضاً من حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن مجاهد: سئل ابن عمر كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فقال: مرتين، فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثاً سوى التي قرنها بحجة الوداع.
قال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن آدم، ثنا مفضل، عن منصور، عن مجاهد قال: دخلت مع عروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر مستند إلى حجرة عائشة، وأناس يصلون الضحى، فقال عروة: أبا عبد الرحمن ما هذه الصلاة ؟
قال: بدعة. (ج/ص: 4/ 421)
فقال له عروة: أبا عبد الرحمن كم اعتمر رسول الله ؟
فقال: أربعاً إحداهن في رجب.
قال: وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، فقال لها عروة: إن أبا عبد الرحمن يزعم أن رسول الله اعتمر أربعاً إحداهن في رجب.
فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط.
وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن الحسن بن موسى، عن شيبان، عن منصور.
وقال: حسن صحيح غريب.
وقال الإمام أحمد: ثنا روح، ثنا ابن جريج، أخبرني مزاحم بن أبي مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن مخرش الكعبي:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلاً حتى أمسى معتمراً، فدخل مكة ليلاً يقضي عمرته، ثم خرج من تحت ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، حتى إذا زالت الشمس خرج من الجعرانة في بطن سرف، حتى جاء مع الطريق - طريق المدينة - بسرف.
قال مخرش: فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس.
ورواه الإمام أحمد: عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج كذلك، وهو من أفراده.
والمقصود أن عمرة الجعرانة ثابتة بالنقل الصحيح الذي لا يمكن منعه ولا دفعه، ومن نفاها لا حجة معه في مقابلة من أثبتها، والله أعلم.
ثم هم كالمجمعين على أنها كانت في ذي القعدة بعد غزوة الطائف، وقسم غنائم حنين.
وما رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في (معجمه الكبير) قائلاً: حدثنا الحسن بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا محمد بن الحسن الأسدي، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عمير - مولى عبد الله بن عباس - عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل بالجعرانة فقسم بها الغنائم، ثم اعتمر منها، وذلك لليلتين بقيتا من شوال، فإنه غريب جداً، وفي إسناده نظر، والله أعلم.
وقال البخاري: ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا إسماعيل، ثنا ابن جريج، أخبرني عطاء بن صفوان بن يعلى بن أمية، أخبره أن يعلى كان يقول: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به معه فيه ناس من أصحابه، إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمخ بطيب، قال: فأشار عمر بن الخطاب إلى يعلى بيده أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سرى عنه، فقال: ((أين الذي يسألني عن العمرة آنفاً ؟))
فالتمس الرجل فأتي به.
قال: ((أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك)).
ورواه مسلم من حديث ابن جريج، وأخرجاه من وجه آخر عن عطاء كلاهما، عن صفوان بن يعلى بن أمية به.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو أسامة، أنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء من أعلى مكة، ودخل في العمرة من كدى.
وقال أبو داود: ثنا موسى أبو سلمة، ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثاً ومشوا أربعاً، وجعلوا أرديتهم تحت أباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى.
تفرد به أبو داود. (ج/ص: 4/ 422)
ورواه أيضاً، وابن ماجه من حديث ابن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس مختصراً.
وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاووس: أن ابن عباس أخبره، أن معاوية أخبره قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص - أو قال: رأيته يقصر عنه بمشقص عند المروة -
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن جريج به.
ورواه مسلم أيضاً: من حديث سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاووس، عن ابن عباس، عن معاوية به.
ورواه أبو داود، والنسائي أيضاً: من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه به.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عمرو بن محمد الناقد، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن ابن عباس، عن معاوية قال: قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة.
والمقصود أن هذا إنما يتوجه أن يكون في عمرة الجعرانة، وذلك أن عمرة الحديبية لم يدخل إلى مكة فيها، بل صد عنها كما تقدم بيانه، وأما عمرة القضاء فلم يكن أبو سفيان أسلم، ولم يبق بمكة من أهلها أحد حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خرجوا منها وتغيبوا عنها مدة مقامه عليه السلام بها تلك الثلاثة الأيام.
وعمرته التي كانت مع حجته لم يتحلل منها بالاتفاق، فتعين أن هذا التقصير الذي تعاطاه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة إنما كان في عمرة الجعرانة كما قلنا، والله تعالى أعلم.
وقال محمد بن إسحاق رحمه الله: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمراً، وأمر ببقاء الفيء فحبس بمجنة بناحية مر الظهران.
قلت: الظاهر أنه عليه السلام إنما استبقى بعض المغنم ليتألف به من يلقاه من الأعراب فيما بين مكة والمدينة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن.
وذكر عروة وموسى بن عقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف معاذاً مع عتاب بمكة قبل خروجه إلى هوازن، ثم خلفهما بها حين رجع إلى المدينة.
وقال ابن هشام: وبلغني عن زيد بن أسلم أنه قال: لما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة، رزقه كل يوم درهماً، فقام فخطب الناس فقال: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهماً كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد.
قال ابن إسحاق: وكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، وقدم المدينة في بقية ذي القعدة، أو في أول ذي الحجة. (ج/ص: 4/ 423)
قال ابن هشام: قدمها لست بقين من ذي القعدة فيما قال أبو عمرو المديني.
قال ابن إسحاق: وحج الناس ذلك العام على ما كانت العرب تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد وهي سنة ثمان.
قال: وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة إلى رمضان من سنة تسع.
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن وسألهم عن مالك بن عوف ما فعل؟
فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف.
فقال: ((أخبروه أنه إن أتاني مسلماً رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل)).
فلما بلغ ذلك مالكاً انسل من ثقيف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة - أو بمكة - فأسلم وحسن إسلامه، فرد عليه أهله وماله، ولما أعطاه مائة فقال مالك بن عوف رضي الله عنه:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى * ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها * بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله * وسط الهباءة خادر في مرصد
قال: واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وتلك القبائل ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفاً لا يخرج لهم سرج إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم. (ج/ص: 4/ 415)
وقال البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير بن حازم، ثنا الحسن، حدثني عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه فقال: ((إني أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم وأكِل قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب)).
قال عمرو: فما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم.
زاد أبو عاصم عن جرير: سمعت الحسن، ثنا عمرو بن تغلب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال - أو سبي - فقسمه بهذا.
وفي رواية للبخاري قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال - أو بشيء - فأعطى رجالاً وترك رجالاً فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد)) فذكر مثله سواء.
تفرد به البخاري.
وقد ذكر ابن هشام أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال فيما كان من أمر الأنصار وتأخرهم عن الغنيمة:
ذر الهموم فماء العين منحدر * سحاً إذا حفلته عبرة درر
وجداً بشماء إذ شماء بهكنة * هيفاء لا ذنن فيها ولا خور
دع عنك شماء إذ كانت مودتها * نزراً وشر وصال الواصل النزر
وائت الرسول وقل يا خير مؤتمن * للمؤمنين إذ ما عدد البشر
علام تدعي سليم وهي نازحة * قدام قوم هموا آووا وهم نصروا
سماهم الله أنصاراً بنصرهم * دين الهدى وعوان الحرب تستعر
وسارعوا في سبيل الله واعترضوا * للنائبات وما خانوا وما ضجروا
والناس إلب علينا فيك ليس لنا * إلا السيوف وأطراف القنا وزر
تجالد الناس لا نبقي على أحد * ولا نضيع ما توحي به السور
ولا تهز جناة الحرب نادينا * ونحن حين تلظى نارها سعر
كما رددنا ببدر دون ما طلبوا * أهل النفاق وفينا ينزل الظفر
ونحن جندك يوم النعف من أحد * إذ حزبت بطراً أحزابها مضر
فما ونينا وما خمنا وما خبروا * منا عثاراً وكل الناس قد عثروا
(ج/ص: 4/ 415)
اعتراض بعض أهل الشقاق على الرسول
قال البخاري: ثنا قبيصة، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: لما قسم النبي قسمة حنين قال رجل من الأنصار: ما أراد بها وجه الله.
قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتغير وجهه، ثم قال: ((رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)).
ورواه مسلم من حديث الأعمش به.
ثم قال البخاري: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناساً، أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناساً، فقال رجل: ما أريد بهذه القسمة وجه الله.
فقلت: لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ((رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)).
وهكذا رواه من حديث منصور، عن المعتمر به.
وفي رواية للبخاري: فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله.
فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأخبرته فقال: ((من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ؟! رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)).
وقال محمد بن إسحاق: وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن مقسم أبي القاسم، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي، حتى أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو يطوف بالبيت معلقاً نعله بيده، فقلنا له: هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كلمه التميمي يوم حنين ؟
قال: نعم، جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف عليه وهو يعطي الناس فقال له: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجل فكيف رأيت ؟)).
قال: لم أرك عدلت.
قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ؟)).
فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله ؟
فقال: ((دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء، ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث والدم)).
وقال الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل بالجعرانة النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل.
قال: ((ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل)).
فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق؟
فقال: ((معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية)). (ج/ص: 4/ 417)
ورواه مسلم: عن محمد بن رمح، عن الليث.
وقال أحمد: ثنا أبو عامر، ثنا قرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مغانم حنين إذ قام إليه رجل فقال: اعدل.
فقال: ((لقد شقيت إذ لم أعدل)).
ورواه البخاري: عن مسلم بن إبراهيم، عن قرة بن خالد السدوسي به.
وفي الصحيحين من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلك ومن يعدل إن لم أعدل، لقد خبت وخسرت إذ لم أعدل فمن يعدل ؟)).
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ايذن لي فيه فأضرب عنقه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس)).
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت.
ورواه مسلم أيضاً من حديث القاسم بن الفضل، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد به نحوه.
مجيء أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة عليه بالجعرانة
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض بني سعد بن بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم هوازن: ((إن قدرتم على نجاد - رجل من بني سعد بن بكر - فلا يفلتنكم)).
وكان قد أحدث حدثاً. (ج/ص: 4/ 418)
فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة.
قال: فعنفوا عليها في السوق، فقالت للمسلمين: تعلمون والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة؟ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن عبيد السعدي - هو أبو وجزة - قال: فلما انتهى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله إني أختك من الرضاعة.
قال: ((وما علامة ذلك ؟)).
قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك.
قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها، وقال: ((إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت ؟)).
قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وردها إلى قومها، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاماً يقال له مكحول وجارية، فزوجت أحدهما الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية.
وروى البيهقي: من حديث الحكم بن عبد الملك، عن قتادة قال: لما كان يوم فتح هوازن جاءت جارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا أختك، أنا شيماء بنت الحارث.
فقال لها: ((إن تكوني صادقة فإن بك مني أثر لا يبلى)).
قال: فكشفت عن عضدها فقالت: نعم يا رسول الله حملتك وأنت صغير فعضضتني هذه العضة.
قال: فبسط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه، ثم قال: ((سلي تعطي، واشفعي تشفعي)).
وقال البيهقي: أنبا أبو نصر بن قتادة، أنبا عمرو بن إسماعيل بن عبد السلمي، ثنا مسلم، ثنا أبو عاصم، ثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان، أخبرني عمي عمارة بن ثوبان: أن أبا الطفيل أخبره قال: كنت غلاماً أحمل عضو البعير، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم نعماً بالجعرانة، قال: فجاءته امرأة فبسط لها رداءه، فقلت: من هذه ؟
قالوا: أمه التي أرضعته.
هذا حديث غريب، ولعله يريد أخته وقد كانت تحضنه مع أمها حليمة السعدية، وإن كان محفوظاً فقد عمرت حليمة دهراً، فإن من وقت أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقت الجعرانة أزيد من ستين سنة، وأقل ما كان عمرها حين أرضعته صلى الله عليه وسلم ثلاثين سنة، ثم الله أعلم بما عاشت بعد ذلك.
وقد ورد حديث مرسل فيه: أن أبويه من الرضاعة قدما عليه والله أعلم بصحته.
قال أبو داود في (المراسيل): ثنا أحمد بن سعيد الهمداني، ثنا ابن وهب، ثنا عمرو بن الحارث: أن عمر بن السائب حدثه:
أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً فجاءه أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم جاءه أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه.
(ج/ص: 4/ 419)
وقد تقدم أن هوازن بكمالها متوالية برضاعته من بني سعد بن بكر - وهم شرذمة من هوازن - فقال خطيبهم زهير بن صرد: يا رسول الله إنما في الحظائر أمهاتك وخالاتك وحواضنك، فأمنُن علينا منَّ الله عليك، وقال فيما قال:
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم، فعادت فواضله عليه السلام عليهم قديماً وحديثاً، خصوصاً وعموماً.
وقد ذكر الواقدي، عن إبراهيم بن محمد بن شرحبيل، عن أبيه قال: كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول: الحمد لله الذي منَّ علينا بالإسلام، ومنَّ علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الأخوة وبنو العم.
ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين وهم على دينهم بعد، قال: ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم يمكنا ذلك، فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أنضير ؟)).
قلت: لبيك.
قال: ((هل لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه ؟)).
قال: فأقبلت إليه سريعاً.
فقال: ((قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع)).
قلت: قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم زده ثباتاً))
قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتاً في الدين، وتبصرة بالحق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله الذي هداه)).
عمرة الجعرانة في ذي القعدة
قال الإمام أحمد: ثنا بهز وعبد الصمد المعنى قالا: ثنا همام بن يحيى، ثنا قتادة قال: سألت أنس بن مالك قلت: كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: حجة واحدة، واعتمر أربع مرات.
عمرته زمن الحديبية، وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة، حيث قسم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته.
ورواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي من طرق عن همام بن يحيى به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني العطار - عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر؛ عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته. (ج/ص: 4/ 420)
ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث داود بن عبد الرحمن العطار المكي، عن عمرو بن دينار به. وحسنه والترمذي.
وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ثنا حجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر، كل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الحجر.
غريب من هذا الوجه. وهذه الثلاث عمر اللاتي وقعن في ذي القعدة ما عدا عمرته مع حجته فإنها وقعت في ذي الحجة مع الحجة، وإن أراد ابتداء الإحرام بهن في ذي القعدة فلعله لم يرد عمرة الحديبية لأنه صد عنها، ولم يفعلها، والله أعلم.
قلت: وقد كان نافع ومولاه ابن عمر ينكران أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة بالكلية، وذلك فيما قال البخاري: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إنه كان علي اعتكاف يوم في الجاهلية فأمره أن يفي به.
قال: وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين، فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال: فمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبي حنين فجعلوا يسعون في السكك، فقال عمر: يا عبد الله انظر ما هذا ؟
قال: منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السبي.
قال: اذهب فأرسل الجاريتين.
قال نافع: ولم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، ولو اعتمر لم يخف على عبد الله.
وقد رواه مسلم من حديث أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر به.
ورواه مسلم أيضاً، عن أحمد بن عبدة الضبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فقال: لم يعتمر منها.
وهذا غريب جداً عن ابن عمرو عن مولاه نافع في إنكارهما عمرة الجعرانة، وقد أطبق النقلة ممن عداهما على رواية ذلك من أصحاب الصحاح، والسنن، والمسانيد، وذكر ذلك أصحاب المغازي والسنن كلهم.
وهذا أيضاً كما ثبت في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح، عن عروة، عن عائشة أنها أنكرت على ابن عمر قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب، وقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط.
وقال الإمام أحمد: ثنا نمير، ثنا الأعمش، عن مجاهد قال: سأل عروة بن الزبير ابن عمر في أي شهر اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: في رجب، فسمعتنا عائشة فسألها ابن الزبير وأخبرها بقول ابن عمر، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وقد شهدها، وما اعتمر قط إلا في ذي القعدة.
وأخرجه البخاري، ومسلم من حديث جرير، عن منصور عن مجاهد به نحوه.
ورواه أبو داود، والنسائي أيضاً من حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن مجاهد: سئل ابن عمر كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فقال: مرتين، فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثاً سوى التي قرنها بحجة الوداع.
قال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن آدم، ثنا مفضل، عن منصور، عن مجاهد قال: دخلت مع عروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر مستند إلى حجرة عائشة، وأناس يصلون الضحى، فقال عروة: أبا عبد الرحمن ما هذه الصلاة ؟
قال: بدعة. (ج/ص: 4/ 421)
فقال له عروة: أبا عبد الرحمن كم اعتمر رسول الله ؟
فقال: أربعاً إحداهن في رجب.
قال: وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، فقال لها عروة: إن أبا عبد الرحمن يزعم أن رسول الله اعتمر أربعاً إحداهن في رجب.
فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط.
وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن الحسن بن موسى، عن شيبان، عن منصور.
وقال: حسن صحيح غريب.
وقال الإمام أحمد: ثنا روح، ثنا ابن جريج، أخبرني مزاحم بن أبي مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن مخرش الكعبي:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلاً حتى أمسى معتمراً، فدخل مكة ليلاً يقضي عمرته، ثم خرج من تحت ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، حتى إذا زالت الشمس خرج من الجعرانة في بطن سرف، حتى جاء مع الطريق - طريق المدينة - بسرف.
قال مخرش: فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس.
ورواه الإمام أحمد: عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج كذلك، وهو من أفراده.
والمقصود أن عمرة الجعرانة ثابتة بالنقل الصحيح الذي لا يمكن منعه ولا دفعه، ومن نفاها لا حجة معه في مقابلة من أثبتها، والله أعلم.
ثم هم كالمجمعين على أنها كانت في ذي القعدة بعد غزوة الطائف، وقسم غنائم حنين.
وما رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في (معجمه الكبير) قائلاً: حدثنا الحسن بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا محمد بن الحسن الأسدي، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عمير - مولى عبد الله بن عباس - عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل بالجعرانة فقسم بها الغنائم، ثم اعتمر منها، وذلك لليلتين بقيتا من شوال، فإنه غريب جداً، وفي إسناده نظر، والله أعلم.
وقال البخاري: ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا إسماعيل، ثنا ابن جريج، أخبرني عطاء بن صفوان بن يعلى بن أمية، أخبره أن يعلى كان يقول: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به معه فيه ناس من أصحابه، إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمخ بطيب، قال: فأشار عمر بن الخطاب إلى يعلى بيده أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سرى عنه، فقال: ((أين الذي يسألني عن العمرة آنفاً ؟))
فالتمس الرجل فأتي به.
قال: ((أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك)).
ورواه مسلم من حديث ابن جريج، وأخرجاه من وجه آخر عن عطاء كلاهما، عن صفوان بن يعلى بن أمية به.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو أسامة، أنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء من أعلى مكة، ودخل في العمرة من كدى.
وقال أبو داود: ثنا موسى أبو سلمة، ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثاً ومشوا أربعاً، وجعلوا أرديتهم تحت أباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى.
تفرد به أبو داود. (ج/ص: 4/ 422)
ورواه أيضاً، وابن ماجه من حديث ابن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس مختصراً.
وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاووس: أن ابن عباس أخبره، أن معاوية أخبره قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص - أو قال: رأيته يقصر عنه بمشقص عند المروة -
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن جريج به.
ورواه مسلم أيضاً: من حديث سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاووس، عن ابن عباس، عن معاوية به.
ورواه أبو داود، والنسائي أيضاً: من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه به.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عمرو بن محمد الناقد، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن ابن عباس، عن معاوية قال: قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة.
والمقصود أن هذا إنما يتوجه أن يكون في عمرة الجعرانة، وذلك أن عمرة الحديبية لم يدخل إلى مكة فيها، بل صد عنها كما تقدم بيانه، وأما عمرة القضاء فلم يكن أبو سفيان أسلم، ولم يبق بمكة من أهلها أحد حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خرجوا منها وتغيبوا عنها مدة مقامه عليه السلام بها تلك الثلاثة الأيام.
وعمرته التي كانت مع حجته لم يتحلل منها بالاتفاق، فتعين أن هذا التقصير الذي تعاطاه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة إنما كان في عمرة الجعرانة كما قلنا، والله تعالى أعلم.
وقال محمد بن إسحاق رحمه الله: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمراً، وأمر ببقاء الفيء فحبس بمجنة بناحية مر الظهران.
قلت: الظاهر أنه عليه السلام إنما استبقى بعض المغنم ليتألف به من يلقاه من الأعراب فيما بين مكة والمدينة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن.
وذكر عروة وموسى بن عقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف معاذاً مع عتاب بمكة قبل خروجه إلى هوازن، ثم خلفهما بها حين رجع إلى المدينة.
وقال ابن هشام: وبلغني عن زيد بن أسلم أنه قال: لما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة، رزقه كل يوم درهماً، فقام فخطب الناس فقال: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهماً كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد.
قال ابن إسحاق: وكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، وقدم المدينة في بقية ذي القعدة، أو في أول ذي الحجة. (ج/ص: 4/ 423)
قال ابن هشام: قدمها لست بقين من ذي القعدة فيما قال أبو عمرو المديني.
قال ابن إسحاق: وحج الناس ذلك العام على ما كانت العرب تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد وهي سنة ثمان.
قال: وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة إلى رمضان من سنة تسع.