Bakenam
01-28-2009, 07:00 PM
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
الجريمة المستحيلة
في الشروع الكامل وهو ما تتم فيه أعمال التنفيذ ولم يتحصل الجاني على ما يبتغيه قد تكون الأسباب في عدم حصول الجاني على النتيجة التي يقصدها استحالة مادية تعترض التنفيذ يجهلها الفاعل كمن يحاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، أو كمن يحاول قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يقصد قتل شخص بآلة نارية نزع منها الخرطوش من قبل، أو كمن يشرع في قتل إنسان بالسم فيضع له جوهرًا غير سام، أو كمن يحاول السرقة من خزانة أو صندوق أو درج أو جيب شخص لم يكن بها نقود، ففي هذه الأمثلة عدم حصول الفاعل على ما يبتغيه إنما نشأ عن ظروف خارجة عن إرادته فهل في هذه الأحوال يعاقب الجاني على هذه الوقائع باعتبار أنها شروع كامل Delit Manqué أو لا عقاب لأن التنفيذ مستحيل ماديًا.
لقد تشعبت الآراء في هذا الموضوع:
المذهب المادي (doctrine objective):
إن أنصار هذا المذهب يرون أن لا عقاب على الشروع لأن تنفيذ الجريمة أصبح مستحيلاً، ويعللون ذلك بأنه لا يمكن تصور بدء في تنفيذ ما هم مستحيل تنفيذه، ويرون أن الأفعال التي يأتيها الفاعل كلها مظاهر تدل على نية الإجرام ولكن هذا مجرم عزم على ارتكاب جريمة، ومجرد العزم على ارتكاب جريمة حتى إذا كان مقرونًا بالأعمال الخارجية لا عقاب عليه، لأن القانون لا يعاقب على مجرد التصميم.
على أن بعض أشياع هذا المذهب لم يسلموا بإطلاق هذه القاعدة من غير شرط ولا قيد، لهذا يقسمون الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وفي الواقع لو طبقت القاعدة بدون قيد ولا شرط لترتب على ذلك نتائج غريبة منها عدم إلحاق العقاب على الجريمة الخائبةDélit Man qué على أنه في حالة ما إذا خاب الفعل يمكن أن يقال بأن هناك استحالة اعترضت التنفيذ، مثال ذلك إذا حاول إنسان قتل آخر باستعماله آلة نارية معمرة ولكنه لم يصب المجني عليه أما لأنه أخطأ في تصويب الآلة وأما لأنه اضطرب قليلاً عند إطلاق العيار فأخذ المقذوف اتجاهًا منحرفًا، فهنا من المستحيل إصابة المراد قتله للأسباب آنفة الذكر، على أنه من المسلم به أن الشخص المقصود بالقتل كان عرضة للخطر الداهم ولم ينجُ إلا لظرف خارج عن إرادة الجاني، ومن جهة أخرى فلا يمكن تشبيه هذه الحالة بحالة ما إذا أراد قتل آخر بآلة نارية غير معمرة أو بحالة ما إذا كان المقصود قتله كان فارق الحياة من قبل.
لهذا قسموا الاستحالة إلى مطلقة ونسبية.
والاستحالة المطلقة والنسبية يمكن تقسيمها بالنسبة لمحل الجريمة وللوسائل والطرق التي تستعمل لارتكاب الجريمة، فالاستحالة المتعلقة بمحل الجريمة تكون مطلقة إذا انعدم محل الجريمة أو كان المحل مجردًا عن الصفة الجوهرية المقصودة بارتكاب الجريمة كمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، أو كمن يريد إسقاط امرأة غير حامل.
والاستحالة تكون نسبية بالنسبة لمحل الجريمة إذا كان محل الجريمة حائزًا للصفات المقصودة من ارتكاب الجريمة ولكنه لم يوجد في المحل الذي يعتقد الجاني وجوده فيه، مثال ذلك: قصد شخص قتل آخر وأطلق عيارًا في الحجرة التي يكون فيها عادةً ولكنه غاب عنها لسبب ما، أو حاول لص كسر خزانة أو صندوق الصدقات وكانا خاليين من المال، أو حاول شخص السرقة من جيب آخر ولم يكن به نقود.
والاستحالة التي تتعلق بالوسائل تكون مطلقة إذا كانت الطرق التي استعملت لا تؤدي للنتيجة بالمرة، كمن يحاول قتل آخر بآلة نارية غير معمرة، أو حاول شخص قتل آخر بالسم ووضع له جوهرًا غير سام، وتكون الاستحالة بالنسبة للوسائل النسبية إذا كان من شأنها أن تؤدي للنتيجة إنما لسوء الاستعمال أو لأسباب عارضية أخرى لم يحصل الفاعل على النتيجة المبتغاة، كمن يحاول قتل شخص بآلة معمرة ولكنه أخطأ تصويب الآلة أو لأن المجني عليه اجتنابًا للإصابة انحرف عن اتجاه المقذوف، أو لأن اللص الذي يحاول السرقة من خزانة لم يحسن استعمال الأدوات التي استحضرها للكسر.
ففي أحوال الاستحالة المطلقة سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل لا يمكن اعتبار الأفعال لا من قبيل الجريمة الخائبة أو الشروع المعاقب عليه وإن كانت تدل على مظاهر أعمال لتصميم جنائي.
أما في أحوال الاستحالة النسبية فقالوا بوجود جريمة خائبة معاقب عليها قانونًا.
وقد جرى أغلب الشراح على هذا التقسيم على أن البعض يرى أن لا عقاب بالمرة في أحوال الاستحالة المطلقة أو النسبية.
الاستحالة القانونية والاستحالة المادية
أما العلامة (جارو) فإنه يقسم الاستحالة إلى قانونية ومادية ويرى أن لا عقاب في الأولى أما في الثانية فيستحق الجاني العقاب.
والاستحالة القانونية تكون في حالة ما إذا انعدم أحد الأركان المكونة للجريمة كمن يريد إسقاط حامل في حالة عدم وجود الحمل، وكمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يريد قتل حيوان ظهر أنه مملوكًا له، وكالشخص الذي يريد تسميم آخر بجوهر غير سام، وكمن يريد سرقة مال ظهر أنه ملكه، وما سوى ذلك فإن الاستحالة تكون مادية ويستحق الجاني العقاب.
المذهب الشخصي Doctrine Subjective
إن أنصار هذا المذهب إنما ينظرون إلى قصد الفاعل بصرف النظر عن الاستحالة إن كانت مطلقة أو نسبية، سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل، لهذا يرون أنه يتعين البحث عن نية وقصد الجاني وهل اقترن قصد الجاني بأفعال خارجية ينتقي معها كل شك، على أنه كان يريد ارتكاب جريمة معينة كما يجب البحث عما إذا كان هذا التصميم الجنائي المقرون بالأفعال خطرًا أم لا.
واختيار الوسائل قد يدل على أن الفاعل أما أنه ليس بكفء لارتكاب الجرم وأما لأنه ساذج لدرجة أنه يعتقد قتل شخص بالسكر أو بملح الطعام أو كمن يريد قتل شخص بآلة نارية فيطلقها على مسافة كبيرة جدًا يستحيل معها إصابة المرمى، ففي هذه الأحوال الأخيرة لا جريمة، لا لأنها غير كافية للحصول على النتيجة المقصودة وإنما تنهض دليلاً على أن الفاعل غير كفء لارتكاب الجرم أو أنها تدل على ضعف في الإدارة وتزعزع في العزيمة. ومن العبث إلحاق العقاب على مثل هذه الأفعال التي لا يترتب عليها ضرر ما.
على أن هذه الأفعال تخالف ما إذا أراد شخص قتل آخر ووضع له مادة بيضاء كالسكر مثلاً وكان يعتقد أنها سامة لخطأ الصيدلي في التركيب كما أنها تخالف حالة من يريد قتل آخر وكان عَمر الآلة النارية من قبل وإنما اُنتزعت الخرطوشة على غير علم منه أو كمن يريد قتل آخر بعيار ناري وكانت المسافة بينه وبين المجني عليه أطول بقليل عن مرمى البندقية، ففي هذه الأحوال الأخيرة يستحق الفاعل العقاب لأن هذه الأفعال لا تدل على أن الجاني غير كفء لارتكاب الجرم.
ومن أنصار هذا المذهب الشخصي علماء الألمان، وقد أخذت بهذه النظرية محكمة برلين العليا إذا قضت بتاريخ 24 مايو، و10 يونيه سنة 1880 بالعقاب على امرأة حاولت قتل جنينها وكان مولودًا ميتًا، وقضت بتاريخ 30 مارس سنة 1883 بعقاب شخص حاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، وبتاريخ 4 يونيه سنة 1883 و27 فبراير سنة 1888 أصدرت حكمين بهذا المعنى الأخير (وقد اتبع هذه القاعدة النقض المصري في حكمه الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1913 نمرة 15 عدد 18 س 94) انظر فيدال طبعة ثالثة صـ 182 نبذة 182 والحاشية عليها.
ويرى فيدال وبعض الشراح أن نص القانون الفرنسي لا يساعد على تقسيم الجريمة إلى مستحيلة وغير مستحيلة لأنه جاء في تعريف الشروع أن تكون الجريمة خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل، وأما التقسيم إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية فهو استبدادي Arbitraire ومن أوضاع الشراح وهو غير مؤسس على حقيقة ثابتة وعرضة للنقد والتأويل، وفي الواقع ليس هناك ما يسمونه بالاستحالة النسبية لأن إذا نظرنا إلى الظروف التي تحيط بالفاعل وقت ارتكاب الفعل إذا لم يحصل على النتيجة التي يبتغيها عند ما يأتي على الأفعال التي يستلزمها التنفيذ يمكن أن يقال بأن هناك استحالة مطلقة حالت دون الحصول على النتيجة وهذا ينافي ويتعارض مع الجريمة الخائبة المعاقب عليها قانونًا، وأن الاستحالة التي تحول دون الحصول على النتيجة المبتغاة مهما كانت صفتها ما هي إلا من الأسباب الخارجة عن إدارة الفاعل.
القضاء في فرنسا
يظهر أن القضاء في فرنسا قد اتبع نظرية تقسيم الجريمة المستحيلة إلى مطلقة ونسبية، فقد قضى بأن لا عقاب على من يشرع في إسقاط امرأة ليست بحامل (النقض 6 يناير سنة 1859) ولا في حالة التسميم إذا استعمل الجاني جوهرًا غير سام.
وقد يظهر هذا التقسيم بأنواعه في حكم النقض الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876 الذي قضى بعقوبة الشروع في سرقة صندوق الصدقات وكان خاليًا، وجاء بإحدى الحيثيات أن هذا الفعل لا يمكن اعتباره من قبيل الاستحالة المطلقة، وقد قضى بالعقوبة على شخص أطلق عيارًا في حجرة شخص كان يعتقد وجوده فيها قاصدًا قتله ولم يوجد بها صدفة (نقض 12 إبريل سنة 1879)، وبني الحكم على نفس الأسباب السابقة.
وقد زعم بعض الشراح على أن النقض الفرنسي في حكم حديث رجع عن هذه النظرية واتبع المذهب الشخصي في حكمه الصادر بتاريخ 4 يناير سنة 1895، وهي حادثه محاولة لص السرقة من جيب شخص لم يوجد به نقود، ذلك لأن الحكم المشار إليه لم يشر إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وجاء بالأسباب أن الجريمة خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل.
على أنه قد صدر حكمان من محكمة الجنايات الفرنسية بتاريخ 16 يوليه سنة 1910، و20 مارس سنة 1913, وجاء بأسباب الحكمين الإشارة إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية (انظر فيدال صـ 163 طبعة سادسة).
رأي العلامة جرسون
إن هذا العلامة يرى أن نظرية الجريمة المستحيلة اعتبرها الشراح بفرنسا مدة طويلة نظرية ثابتة وأساسها هذا التدليل الخلاب إذا يقولون: إن الشروع يستلزم بدءًا في التنفيذ، وغير معقول البدء في تنفيذ جريمة يستحيل تنفيذها، إذن لا عقاب على الجريمة المستحيلة.
وقد قرر جرسون أن القضاء في فرنسا بعد أن أخذ بنظرية الجريمة المستحيلة عاد واتبع المذهب الشخصي، وقد ذكر أسباب الحكمين الصادرين من محكمة النقض بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876، و4 يناير سنة 1895 المذكورين آنفًا.
ويرى أيضًا أن المذهب الشخصي حل محل نظرية الجريمة المستحيلة (جرسون جزء أول صـ 24 نوته 109 و133 على المادة (3) من قانون العقوبات).
القضاء في مصر
أحكام المحاكم المصرية في هذا الموضوع:
1 - قد أشار حكم النقض الصادر بتاريخ 12 ديسمبر سنة 1913 إلى تقسيم الجريمة المستحيلة إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية وهذا نص إحدى الحيثيات:
(وحيث إنه لا يصح القول هنا بوجود (جنحة مستحيلة) لأن مسألة هذه الاستحالة لا يمكن التمسك بها إلا في حالة وجود مانع مادي ومطلق لا بسبب وجود مانع نسبي ناشئ عن قوة إدراك المجني عليه وبالفعل فإن هذا الأخير قد جعل المتهم يخيب عن عمله بسبب ظرف قهري لا دخل فيه لنفس الواقعة ولولا وجود هذا الظرف لكان من الممكن أن الجريمة يتم ارتكابها فعلاً) (المجموعة الرسمية سنة 1915 نمرة 19).
2 - وقد صدر حكم من محكمة النقض في نفس التاريخ ومن ذات الهيئة الأولى.
ويظهر أن محكمة النقض في هذا الحكم قد اتبعت المذهب الشخصي (مادة تسميم).
أما وجه النقض الذي قدمه المحكوم عليه فينحصر في أنه لم يبين في الحكم أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة.
وهاك نص إحدى حيثيات الحكم:
(وحيث إن الوجه الثاني مبني على عدم بيان أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة فهذا البيان ليس ركنًا من الأركان المكونة لجريمة الشروع في القتل بالسم ولذا ليس من الواجب إثباته، لأن الشروع في القتل بواسطة السم يتكون بمجرد إعطاء شخص عمدًا مادة في إمكانها إحداث الموت أو يظن الفاعل أنها تحدث الوفاة وذلك توصلاً لقتل المجني عليه، وأما إذا أعطى السم بكمية خفيفة جدًا أو إذا كانت الجواهر المستعملة غير مضرة وذلك بدون علم الفاعل ولكنها أعطيت بقصد قتل المجني عليه فإن هذه الوقائع لا تكون جناية مستحيلة بل شروعًا في القتل عمدًا قد خاب أثره لأسباب خارجة عن إرادة الفاعل، وفي الواقع فإن جريمة الشروع في القتل عمدًا بواسطة السم توجد قانونًا متى أظهر الفاعل نية ارتكابها بأفعال مقاربة للجناية ومع جميع الظروف المكونة لها، أما كون السم قد أعطي بكمية خفيفة جدًا أو أن المادة المستعملة كانت بدون علم الفاعل غير مضرة بدلاً من أن تكون قاتلة فإن هذه ظروف قهرية تجعل الفعل شروعًا بدلاً من قتل تام) (المجموعة الرسمية 15 نمرة 18). ارتكن الحكم على جرسون وشرح القانون الألماني وحكم الإمبراطورية الألمانية في 24 مايو 1880، وقد قضت محكمة أسيوط الاستئنافية في واقعة حاول الجناة فيها سرقة خزانة وكسروها ولم يجدوا بها نقودًا.
وقد جاء بأسباب هذا الحكم ما يأتي:
(حيث إنه ثبت من شهادة المجني عليه والتحقيقات أن المتهم دخل بيت المجني عليه وكان جاريًا كسر الدولاب الذي كان بداخله عقود إيجار وسندات وقد اعترف المتهم أنه كان يكسر الدولاب لسرقة النقود التي كان يعتقد أنها بداخله).
(وحيث إن الشروع في السرقة المعاقب عليه قانونًا يمكن توفره متى ظهر قصد الفاعل بأعمال محسوسة لا يمكن تفسيرها بغير ذلك وليس من المهم فقدان ظرف من الظروف التي توصل الفاعل إلى غرضه مثل عدم وجود النقود في المكان الذي كان يقصد السرقة منه لأن فقدان هذا الظرف خارج عن إرادته).
وقد حكمت محكمة النقض والإبرام الفرنسوية في 4 يناير سنة 1895 بإدانة شخص وضع يده في جيب آخر بقصد السرقة وكان الجيب خاليًا.
(ويظهر أن الحكم اتبع المذهب الشخصي).
ونلاحظ بأن حكم النقض الفرنسي المشار إليه بهذه الحيثيات قد اتخذه جرسون وبعض الشراح دليلاً على أن النقض بفرنسا عدل عن المذهب المادي.
الجريمة المستحيلة
الانسان كائن مزدوج في طبيعته خلق من مادة وروح . واودع فيه نوعان من القوى، نوع تأخذ بيده الى الخير واخرى تدفعه الى الشر وهذه الحقيقة ذكرها القرآن الكريم { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها }. نتج عن ذلك ان كان للانسان نوعان من السلوك، مايتفق مع الاخلاق والقانون والنظام ومايختلف عنها. وغالبا ما يمر كلا النوعين بمرحلتين: مرحلة داخلية نفسية لاعلاقة لها بالمادة واخرى خارجية وذات طبيعة مادية تتحسسها الحواس. وكثيرا ما تسبق المرحلة النفسية المرحلة المادية فلا يقوم الانسان بتنفيذ عمل الا بعد التصميم على القيام به. وتسبق كلا المرحلتين مرحلة تمهيدية فلا يصمم الانسان على عمل شئ الا بعد التفكير به مليا، ولا يقوم بتنفيذه الا بعد التمهيد لهذا التنفيذ والوصول الى مبتغاه.
فالسلوك بشكل عام هو مجموعة الافعال الداخلية ( الذهنية ) والخارجية ( المادية ) والتي بواسطتها يحقق الانسان ما يريد ان خيرا ً فخير وان شرا فشر. فمن يريد اقامة ملجئ للايتام ، لابد ان يفكر في الموضوع مليا ، موازنا بين حسناته وسيئاته فاذا مارجحت الحسنات ينتقل الى مرحلة اخرى اكثر اهمية الا وهي مرحلة التصميم والعزم على تنفيذ العمل . ومتى بدأ بالتهيئة للتنفيذ فيكون قد انتقل من المرحلة النفسية الى المرحلة التمهيدية لمرحلة التنفيذ، وهي اعداد وتحضير الوسائل الضرورية. وما ان يفرغ من التمهيد للمرحلة المادية حتى ينتقل الى تنفيذ العمل والوصول الى النتيجة التي ارادها الفاعل الا وهي بناء الملجئ.
ما قيل بالنسبة للسلوك النافع يقال ايضا في السلوك الضار وما يهدف اليه من نتيجة ضارة او جرمية حيث يمر الفاعل بنفس المراحل السابقة. فلو اراد شخص قتل آخر يتعين عليه ان يفكر في الامر، ويوازن بين ما يحقق رغباته ونزواته وبين ما يلحق به من اضرار. فاذا ما اوصله تفكيره الى الاتيان بفعل القتل فانه ينتقل الى مرحلة التصميم ليبدأ بعدها بتهيئة وتحضير الوسائل اللازمة للقيام بجريمة القتل مثل شراء سلاح والتدريب عليه، وما ان يفرغ من المرحلة الاخيرة حتى يبدأ التنفيذ وقد يصل الى النتيجة او لا يصل.
مراحل الجريمة
ان المراحل التي تمر بها الجريمة قبل وقوعها ثلاث:
1- مرحلة التفكير والتصميم
2- مرحلة الاعداد والتحضير.
3- مرحلة البدء بالتنفيذ.
الجاني في مرحلة التنفيذ قد يتعامل عن قرب مع محل الجريمة. كما لوضع سما في طعام المجني عليه، او يأخذ حبلا ويتسلق ليدخل بيت المجني عليه لسرقته. او قد يتعامل بشكل مباشر مع محل الجريمة كما لو اطلق النار على المجني عليه، او السارق الذي يضع يده على المال المسروق وقد يصل الى النتيجة التي يريدها او تفلت النتيجة فلا يصل الى مايتوخاه. وعلى ذلك نكون امام احتمالين :
الاول : ان يكمل الجاني نشاطه الاجرامي وتتحقق تبعا لذلك النتيجة المقصودة ، وهذه الجريمة التامة. كما لوطعن شخص آخرَ بسكين فارداه قتيلا. او كما لو وضع السارق المال المسروق تحت حيازته.
الاحتمال الثاني : ان يتخلف اهم عنصر في الجريمة الا وهو عنصر النتيجة. فنكون امام الشروع في الجريمة او الجريمة الناقصة. وبما ان للشروع حد ادنى ويسمى الشروع الناقص، وحد اقصى وهو الشروع التام، لذلك نكون امام صورتين للشروع :
الاولى :ان عدم تمام الجريمة وفق هذه الصورة عائد الى عدم اتمام الفاعل لنشاطه الاجرامي. وبعبارة اخرى عدم تمام الافعال المادية المكونة للجريمة او عدم اكمال ماديات الجريمة. وتوقف الجاني عن اتمام نشاطه الاجرامي يعود لاسباب خارجية لا دخل لارادته فيها. كمن يحاول الانتحار ويصوب المسدس نحو رأسه فيأتي آخريخطف المسدس من يده. او السارق الذي يدخل المتجر لسرقته وعندما يحاول كسر الخزانة يتم ضبطه ولا يتمكن من وضع يده على النقود. فيكون الفاعل قد منع عن اتمام فعله بفعل فاعل آخر لادخل لارادة الجاني فيه. وهذه حالة الشروع الناقص او الجريمة الموقوفة.
وفي الجريمة الناقصة يمكن تصور عدول الجاني عن اتمام فعله وعدم اكمال جريمته بأرادته ورغبته. كما لوحاول شخص قتل آخر وصوب المسدس نحوه ثم يمتنع عن اطلاق النار عليه رأفة من الجاني بالمجني عليه. او حالة السارق الذي يمتنع عن سرقة الاموال لانها تعود الى ايتام وطالما ان العدول تم بأرادة ورغبة الجاني لا بسبب خارجي فيسمى بالعدول الاختياري.
ولا بد ان تتوافر في العدول الاختياري شروط معينه حتى لا يكون منتجا للشروع المعاقب عليه :
1- ان يحصل العدول الاختياري قبل تمام الشروع في الجريمة، فاذا ماحصل بعد ذلك يتحقق الشروع المعاقب عليه. كما لو اخذته الرأفة بالمجني عليه قبل اطلاق الرصاص عليه. اما لو اطلق رصاصة فأخطأته ثم عدل بعد ذلك فيكون الشروع المعاقب عليه قد تحقق. ولا عبرة بالعدول اذا ماحصل بعد اتمام الجريمة وهو ما يسمى بالتوبة الايجابية، ويُسأل الجاني عن الجريمة كاملة. كما لواعاد السارق ما سرقه الى المجني عليه. ( 1 )
2- الا يكون العدول اضطراريا. فاذا ما تحققت في العدول الصفة الاضطرارية فهذا يعني تحقق الشروع وبالتالي استحقاق الجاني للعقاب عليه، كما لاعبرة بتوهم الجاني. فلو احس السارق بوقع اقدام وظن انه صاحب البيت او شرطي او كان فعلا كذلك وهرب فلا يؤخذ بعدوله انما يعتبر شارعا في جريمة السرقة.( 2 )
الثانية : وهي اذا ماقام الجاني بكل الافعال المادية المكونة للجريمة حتى نهايتها، ولم تبق خطوة تفصل بين الجاني والنتيجة، ومع ذلك تفلت النتيجة التي قصدها الجاني من سلوكه لسبب لا دخل لارادته فيه، والنتيجة في هذه الحالة تكون ممكنة الوقوع في ظروف النشاط الاجرامي الذي قام به الجاني. كما لو اطلق النار من مسدسه على خصمه فلم يصبه او أصابه في غير مقتل او تم اسعافه في المستشفى، ويسمى فعل الفاعل هذا بالشروع التام لآنه اتم كل نشاطه الاجرامي ما عدى النتيجة حيث يعتبر تخلفها من طبيعة الشروع ،وتسمى بالجريمة الخائبة.
وعلى عكس الصورة الاولى ففي هذه الصورة (الثانية) لا يُتصورعدول الجاني بأختياره عن اتمام جريمته. لان العدول الاختياري يتحقق في الغالب في الجريمة الموقوفة. ولا يمكن تصوره في الجريمة الخائبة الا في حالة كون عمل الجاني مما يمكن تداركه بعد وقوعه وقبل ان ينتج اثره كما لو حاول شخص قتل خصمه بأغراقه فألقاه بالنهر، وبعد ذلك يعدل بأختياره ولم يشأ ان يتم جريمته فيمد له يد المساعدة فينقذه من الغرق. وعلى العكس اذا كان فعل الجاني مما لايمكن تداركه، وكان وحده كافيا لاتمام الجريمة الا ان سببا خارجيا لادخل لارادة الجاني به حال دون وقوع النتيجة ، فان الفاعل يعد شارعا في الجريمة. كما لو اطلق شخص النار على خصمه بقصد قتله فأخطأه ثم عدل عن اتمام قصده فلم يطلق رصاصة اخرى، يعتبر في هذه الحالة مرتكبا لجريمة الشروع في القتل ويعاقب على فعله.
تتفرع عن الصورة الثانية جريمة اخرى تتشابه معها من ناحية سلوك الجاني ومن حيث النتيجة ، الا انها تختلف عنها في ان النتيجة اذا كانت ممكنة الحدوث في ظل ظروف النشاط الاجرامي في الاولى، فهي في الثانية لم ولن تتحقق مهما بذل الجاني من جهد في سبيل اتمامها. كما لو اطلق احدهم النار على خصمه النائم على السرير فاذا به فارق الحياة قبل اطلاق النار .او كمن يمد يده في جيب المجني عليه فيجده خاليا من المحفظة. او من يكسر خزانة النقود فيجدها فارغة، وهذه هي الجريمة المستحيلة. ومن هنا يتبين ان الجريمة المستحيلة هي صورة من الشروع التام .
البدء بتنفيذ الشروع
اذا عرفنا نهاية الشروع التي تختلف اختلافا كاملا من حيث النتيجة عن نهاية الجريمة التامة فهل ان بدايته كذلك ؟
يقال ان الشروع يبدأحيث تبدأ الجريمة التامة ، ولكنه يختلف عنها في نهايته . وهذا ما اتفقت عليه الكثير من التشريعات فنصت على ان الشروع يبدأ من مرحلة التنفيذ واستثنت مرحلتي العزم والتحضير. وهذا مافعله المشرع العراقي في المادة 30 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل والتي جاء فيها بأن الشروع (وهو البدء في تنفيذ فعل [ ... ] ولا يعد شروعا مجرد العزم على ارتكاب الجريمة ولا الاعمال التحضيرية لذلك ما لم ينص القانون على خلاف ذلك ). وكذلك فعل المشرع المصري في المادة 45 من قانون العقوبات (الشروع هو البدء في تنفيذ فعل [...] ولا يعتبر شروعا في الجناية او الجنحة مجرد العزم على ارتكابها ولا الاعمال التحضيرية لذلك ) .
الا ان غالبية التشريعات لم تعرّف البدء بالتنفيذ وهنا تبرز مشكلة الفصل والتمييزبين الاعمال التحضيرية واعمال البدء بالتنفيذ. فاذا كان الفصل بينهما واضحا وسهلا في بعض الاحيان، الا ان الامر ليس كذلك في احيان اخرى .
فمن يشتري سلاحا ناريا، او من يتدرب على استعماله فانه يقوم بعمل تحضيري، لان الفاعل لم يتعامل بصورة مباشرة مع محل الجريمة او بشكل قريب منها. ولكن في حالة خلط الجاني السم بطعام المجني عليه وتقديمه له او مد يده في جيب المجني عليه وسحب المحفظة منه او من يطلق النار على المجني عليه ففي هذه الحالة يكون الفاعل قد جاء بافعال تنفيذية لانه تعامل مباشرة مع محل الجريمة .والتمييز بين الافعال من الطائفة الاولى والثانية واضح ولا يثير اشكالا.
لكن في احوال اخرى تكون منطقة وسطى بين المرحلتين تمتاز بالضبابية بحيث يصعب فيها تحديد الافعال لاية مرحلة تعود. فلو ضبط الجاني حاملا سلاحه ومتجها الى مكان ارتكاب الجريمة او قبض عليه متربصا للمجني عليه او حالة ما اذا ضبط الجاني وهو يتسلق جدار المنزل لغرض الدخول اليه وسرقته. فهل تمثل هذه الاعمال اعلى درجات الاعمال التحضيرية ام انها تمثل ادنى درجات الاعمال التنفيذية؟
تظهر صعوبة التمييز بين المرحلتين في الشروع الناقص او الجريمة الموقوفة حيث لم يستكمل الجاني كل نشاطه، على ان في تحديد عمله تقريرا لمصيره، فاذا كان من اعمال التحضير يكون معفيا من العقاب على عكس ما اذا كان ما قام به من عمل يعد بدء بالتنفيذ فيتحقق فيه الشروع المعاقب عليه .ولا يثير الامر اية صعوبة في الشروع التام او الجريمة الخائبة لان الجاني قد استكمل كل نشاطه الاجرامي ويخضع لعقوبة الشروع في الجريمة .
ان للتمييز بين الاعمال التحضيرية والاعمال التنفيذية اهمية كبيرة يتجلى اثرها في العقاب على الفعل حيث لا عقاب على اعمال التحضير بينما تقع اعمال البدء بالتنفيذ تحت طائلة العقاب هذا من جهة . ومن جهة اخرى فان التمييز بين عمل المرحلتين تظهر اهميته في الجريمة المستحيلة حيث يبدأ الجاني بالتنفيذ وان تخلفت النتيجة فهل يعتبر بدء التنفيذ سببا لعقابه ام انه يعفى من العقاب لأن استحالة تمام الجريمة لازم الجاني منذ البدء بالتنفيذ؟ وهذا ما سنتناوله في العقاب على الجريمة المستحيلة .
لاهمية التمييز بين اعمال المرحلتين كما اسلفنا ولسكوت غالبية التشريعات عن تعريف اعمال البدء بالتنفيذ ،ولضرورة وضع معيار للتمييز بينهما فقد تصدى الفقهاء لهذه المهمة ولكنهم انقسموا الى مذهبين:
المذهب المادي:
اعتمد انصارهذا المذهب السلوك الاجرامي وما ينتجه من ضرر وما يكشف عنه من خطر معيارا لتحديد البدء بالتنفيذ. ووفقا لذلك يرون ان التنفيذ يبدأ متى بدأ الفاعل بتنفيذ الافعال المادية المكونة للجريمة وكما يتطلبها النموذج القانوني . فعندما يعرف القانون جريمة السرقة على انها اختلاس مال منقول مملوك للغير، وبما ان الاختلاس لا يتحقق الا بوضع اليد على المال المراد سرقته . فيكون وضع اليد في هذه الحالة العمل الذي يبدأ به الجاني سلوكه الاجرامي. اما في جريمة القتل فأي عمل يقوم به الجاني ويتعامل به مع المجني عليه للوصول الى النتيجة التي يتوخاها يعتبر بدء بالتنفيذ كما لو اطبق يديه على رقبة المجني عليه او كما لو اطلق النار عليه . اما اذا دخل الجاني منزل المجني عليه لغرض قتله فلا يعتبر دخول المنزل من ضمن الركن المادي لجريمة القتل . وحجتهم في ذلك ان القانون وهو يعرف جريمة القتل لم يعتبر الدخول في المنزل من اعمال البدء بالتنفيذ في الجريمة المذكورة.
بالرغم من سهولة ووضوح المعيار الذي تبناه المذهب المادي الا انه يضيق من نطاق الشروع فيوسع من دائرة الاعمال التحضيرية الغير معاقب عليها وبذلك يؤثر سلبا على الحماية للمجتمع التي هي من الاهداف الرئيسية لقانون العقوبات بسبب افلات الكثير من العقاب ممن لايجوز السكوت على اعمالهم لخطورتها. فدخول المنزل لغرض السرقة حسب اصحاب المذهب المادي لا يعتبر بدء بالتنفيذ لأن الجاني لم يضع يده على المال المراد سرقته. وبما ان مناط التجريم هو البدء بالتنفيذ فيكون دخول المنزل غير معاقب عليه مع خطورته.
نتيجة الانتقادات المذكورة وغيرها حاول اصحاب هذا الرأي التوسع في مرحلة البدء بالتنفيذ فقالوا بأن افعال المرحلة المذكورة لا تقتصر فقط على الافعال المادية او السلوك الذي به يتحقق الركن المادي للجريمة وانما اضافوا اليها ما اعتبره القانون ظرفا مشددا للجريمة . وحيث ان القانون اعتبر التسور وكسر الابواب ظرفا مشددا في جريمة السرقة فانها تدخل ضمن اعمال مرحلة التنفيذ.
ما يؤخذ على اصحاب الرأي الثاني من المذهب المادي هو انه من غير المنطقي ان تعتبر عملا معينا في الليل من ضمن مرحلة التنفيذ اما في النهار فنفس العمل يدخل ضمن مرحلة التحضير لا لسبب الا لان القانون اعتبر الليل ظرفا مشددا في جريمة السرقة .اضافة الى ان الرأي المذكور يؤدي الى التفرقة بين الجرائم فما يعتبر عملا تنفيذيا في جريمة ما لا يعتبر كذلك في جريمة اخرى . فمن تسور المنزل لغرض السرقة يعتبر قد بدأ عملا ماديا يتحقق معه الشروع في السرقة لان المشرع اعتبر التسور ظرفا مشددا. اما من تسور لغرض قتل خصمه فلا يعتبر شارعا في جريمة القتل لان القانون لا يعتبر التسور ظرفا مشددا في جريمة القتل. (3)
الجريمة المستحيلة
في الشروع الكامل وهو ما تتم فيه أعمال التنفيذ ولم يتحصل الجاني على ما يبتغيه قد تكون الأسباب في عدم حصول الجاني على النتيجة التي يقصدها استحالة مادية تعترض التنفيذ يجهلها الفاعل كمن يحاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، أو كمن يحاول قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يقصد قتل شخص بآلة نارية نزع منها الخرطوش من قبل، أو كمن يشرع في قتل إنسان بالسم فيضع له جوهرًا غير سام، أو كمن يحاول السرقة من خزانة أو صندوق أو درج أو جيب شخص لم يكن بها نقود، ففي هذه الأمثلة عدم حصول الفاعل على ما يبتغيه إنما نشأ عن ظروف خارجة عن إرادته فهل في هذه الأحوال يعاقب الجاني على هذه الوقائع باعتبار أنها شروع كامل Delit Manqué أو لا عقاب لأن التنفيذ مستحيل ماديًا.
لقد تشعبت الآراء في هذا الموضوع:
المذهب المادي (doctrine objective):
إن أنصار هذا المذهب يرون أن لا عقاب على الشروع لأن تنفيذ الجريمة أصبح مستحيلاً، ويعللون ذلك بأنه لا يمكن تصور بدء في تنفيذ ما هم مستحيل تنفيذه، ويرون أن الأفعال التي يأتيها الفاعل كلها مظاهر تدل على نية الإجرام ولكن هذا مجرم عزم على ارتكاب جريمة، ومجرد العزم على ارتكاب جريمة حتى إذا كان مقرونًا بالأعمال الخارجية لا عقاب عليه، لأن القانون لا يعاقب على مجرد التصميم.
على أن بعض أشياع هذا المذهب لم يسلموا بإطلاق هذه القاعدة من غير شرط ولا قيد، لهذا يقسمون الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وفي الواقع لو طبقت القاعدة بدون قيد ولا شرط لترتب على ذلك نتائج غريبة منها عدم إلحاق العقاب على الجريمة الخائبةDélit Man qué على أنه في حالة ما إذا خاب الفعل يمكن أن يقال بأن هناك استحالة اعترضت التنفيذ، مثال ذلك إذا حاول إنسان قتل آخر باستعماله آلة نارية معمرة ولكنه لم يصب المجني عليه أما لأنه أخطأ في تصويب الآلة وأما لأنه اضطرب قليلاً عند إطلاق العيار فأخذ المقذوف اتجاهًا منحرفًا، فهنا من المستحيل إصابة المراد قتله للأسباب آنفة الذكر، على أنه من المسلم به أن الشخص المقصود بالقتل كان عرضة للخطر الداهم ولم ينجُ إلا لظرف خارج عن إرادة الجاني، ومن جهة أخرى فلا يمكن تشبيه هذه الحالة بحالة ما إذا أراد قتل آخر بآلة نارية غير معمرة أو بحالة ما إذا كان المقصود قتله كان فارق الحياة من قبل.
لهذا قسموا الاستحالة إلى مطلقة ونسبية.
والاستحالة المطلقة والنسبية يمكن تقسيمها بالنسبة لمحل الجريمة وللوسائل والطرق التي تستعمل لارتكاب الجريمة، فالاستحالة المتعلقة بمحل الجريمة تكون مطلقة إذا انعدم محل الجريمة أو كان المحل مجردًا عن الصفة الجوهرية المقصودة بارتكاب الجريمة كمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، أو كمن يريد إسقاط امرأة غير حامل.
والاستحالة تكون نسبية بالنسبة لمحل الجريمة إذا كان محل الجريمة حائزًا للصفات المقصودة من ارتكاب الجريمة ولكنه لم يوجد في المحل الذي يعتقد الجاني وجوده فيه، مثال ذلك: قصد شخص قتل آخر وأطلق عيارًا في الحجرة التي يكون فيها عادةً ولكنه غاب عنها لسبب ما، أو حاول لص كسر خزانة أو صندوق الصدقات وكانا خاليين من المال، أو حاول شخص السرقة من جيب آخر ولم يكن به نقود.
والاستحالة التي تتعلق بالوسائل تكون مطلقة إذا كانت الطرق التي استعملت لا تؤدي للنتيجة بالمرة، كمن يحاول قتل آخر بآلة نارية غير معمرة، أو حاول شخص قتل آخر بالسم ووضع له جوهرًا غير سام، وتكون الاستحالة بالنسبة للوسائل النسبية إذا كان من شأنها أن تؤدي للنتيجة إنما لسوء الاستعمال أو لأسباب عارضية أخرى لم يحصل الفاعل على النتيجة المبتغاة، كمن يحاول قتل شخص بآلة معمرة ولكنه أخطأ تصويب الآلة أو لأن المجني عليه اجتنابًا للإصابة انحرف عن اتجاه المقذوف، أو لأن اللص الذي يحاول السرقة من خزانة لم يحسن استعمال الأدوات التي استحضرها للكسر.
ففي أحوال الاستحالة المطلقة سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل لا يمكن اعتبار الأفعال لا من قبيل الجريمة الخائبة أو الشروع المعاقب عليه وإن كانت تدل على مظاهر أعمال لتصميم جنائي.
أما في أحوال الاستحالة النسبية فقالوا بوجود جريمة خائبة معاقب عليها قانونًا.
وقد جرى أغلب الشراح على هذا التقسيم على أن البعض يرى أن لا عقاب بالمرة في أحوال الاستحالة المطلقة أو النسبية.
الاستحالة القانونية والاستحالة المادية
أما العلامة (جارو) فإنه يقسم الاستحالة إلى قانونية ومادية ويرى أن لا عقاب في الأولى أما في الثانية فيستحق الجاني العقاب.
والاستحالة القانونية تكون في حالة ما إذا انعدم أحد الأركان المكونة للجريمة كمن يريد إسقاط حامل في حالة عدم وجود الحمل، وكمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يريد قتل حيوان ظهر أنه مملوكًا له، وكالشخص الذي يريد تسميم آخر بجوهر غير سام، وكمن يريد سرقة مال ظهر أنه ملكه، وما سوى ذلك فإن الاستحالة تكون مادية ويستحق الجاني العقاب.
المذهب الشخصي Doctrine Subjective
إن أنصار هذا المذهب إنما ينظرون إلى قصد الفاعل بصرف النظر عن الاستحالة إن كانت مطلقة أو نسبية، سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل، لهذا يرون أنه يتعين البحث عن نية وقصد الجاني وهل اقترن قصد الجاني بأفعال خارجية ينتقي معها كل شك، على أنه كان يريد ارتكاب جريمة معينة كما يجب البحث عما إذا كان هذا التصميم الجنائي المقرون بالأفعال خطرًا أم لا.
واختيار الوسائل قد يدل على أن الفاعل أما أنه ليس بكفء لارتكاب الجرم وأما لأنه ساذج لدرجة أنه يعتقد قتل شخص بالسكر أو بملح الطعام أو كمن يريد قتل شخص بآلة نارية فيطلقها على مسافة كبيرة جدًا يستحيل معها إصابة المرمى، ففي هذه الأحوال الأخيرة لا جريمة، لا لأنها غير كافية للحصول على النتيجة المقصودة وإنما تنهض دليلاً على أن الفاعل غير كفء لارتكاب الجرم أو أنها تدل على ضعف في الإدارة وتزعزع في العزيمة. ومن العبث إلحاق العقاب على مثل هذه الأفعال التي لا يترتب عليها ضرر ما.
على أن هذه الأفعال تخالف ما إذا أراد شخص قتل آخر ووضع له مادة بيضاء كالسكر مثلاً وكان يعتقد أنها سامة لخطأ الصيدلي في التركيب كما أنها تخالف حالة من يريد قتل آخر وكان عَمر الآلة النارية من قبل وإنما اُنتزعت الخرطوشة على غير علم منه أو كمن يريد قتل آخر بعيار ناري وكانت المسافة بينه وبين المجني عليه أطول بقليل عن مرمى البندقية، ففي هذه الأحوال الأخيرة يستحق الفاعل العقاب لأن هذه الأفعال لا تدل على أن الجاني غير كفء لارتكاب الجرم.
ومن أنصار هذا المذهب الشخصي علماء الألمان، وقد أخذت بهذه النظرية محكمة برلين العليا إذا قضت بتاريخ 24 مايو، و10 يونيه سنة 1880 بالعقاب على امرأة حاولت قتل جنينها وكان مولودًا ميتًا، وقضت بتاريخ 30 مارس سنة 1883 بعقاب شخص حاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، وبتاريخ 4 يونيه سنة 1883 و27 فبراير سنة 1888 أصدرت حكمين بهذا المعنى الأخير (وقد اتبع هذه القاعدة النقض المصري في حكمه الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1913 نمرة 15 عدد 18 س 94) انظر فيدال طبعة ثالثة صـ 182 نبذة 182 والحاشية عليها.
ويرى فيدال وبعض الشراح أن نص القانون الفرنسي لا يساعد على تقسيم الجريمة إلى مستحيلة وغير مستحيلة لأنه جاء في تعريف الشروع أن تكون الجريمة خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل، وأما التقسيم إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية فهو استبدادي Arbitraire ومن أوضاع الشراح وهو غير مؤسس على حقيقة ثابتة وعرضة للنقد والتأويل، وفي الواقع ليس هناك ما يسمونه بالاستحالة النسبية لأن إذا نظرنا إلى الظروف التي تحيط بالفاعل وقت ارتكاب الفعل إذا لم يحصل على النتيجة التي يبتغيها عند ما يأتي على الأفعال التي يستلزمها التنفيذ يمكن أن يقال بأن هناك استحالة مطلقة حالت دون الحصول على النتيجة وهذا ينافي ويتعارض مع الجريمة الخائبة المعاقب عليها قانونًا، وأن الاستحالة التي تحول دون الحصول على النتيجة المبتغاة مهما كانت صفتها ما هي إلا من الأسباب الخارجة عن إدارة الفاعل.
القضاء في فرنسا
يظهر أن القضاء في فرنسا قد اتبع نظرية تقسيم الجريمة المستحيلة إلى مطلقة ونسبية، فقد قضى بأن لا عقاب على من يشرع في إسقاط امرأة ليست بحامل (النقض 6 يناير سنة 1859) ولا في حالة التسميم إذا استعمل الجاني جوهرًا غير سام.
وقد يظهر هذا التقسيم بأنواعه في حكم النقض الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876 الذي قضى بعقوبة الشروع في سرقة صندوق الصدقات وكان خاليًا، وجاء بإحدى الحيثيات أن هذا الفعل لا يمكن اعتباره من قبيل الاستحالة المطلقة، وقد قضى بالعقوبة على شخص أطلق عيارًا في حجرة شخص كان يعتقد وجوده فيها قاصدًا قتله ولم يوجد بها صدفة (نقض 12 إبريل سنة 1879)، وبني الحكم على نفس الأسباب السابقة.
وقد زعم بعض الشراح على أن النقض الفرنسي في حكم حديث رجع عن هذه النظرية واتبع المذهب الشخصي في حكمه الصادر بتاريخ 4 يناير سنة 1895، وهي حادثه محاولة لص السرقة من جيب شخص لم يوجد به نقود، ذلك لأن الحكم المشار إليه لم يشر إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وجاء بالأسباب أن الجريمة خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل.
على أنه قد صدر حكمان من محكمة الجنايات الفرنسية بتاريخ 16 يوليه سنة 1910، و20 مارس سنة 1913, وجاء بأسباب الحكمين الإشارة إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية (انظر فيدال صـ 163 طبعة سادسة).
رأي العلامة جرسون
إن هذا العلامة يرى أن نظرية الجريمة المستحيلة اعتبرها الشراح بفرنسا مدة طويلة نظرية ثابتة وأساسها هذا التدليل الخلاب إذا يقولون: إن الشروع يستلزم بدءًا في التنفيذ، وغير معقول البدء في تنفيذ جريمة يستحيل تنفيذها، إذن لا عقاب على الجريمة المستحيلة.
وقد قرر جرسون أن القضاء في فرنسا بعد أن أخذ بنظرية الجريمة المستحيلة عاد واتبع المذهب الشخصي، وقد ذكر أسباب الحكمين الصادرين من محكمة النقض بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876، و4 يناير سنة 1895 المذكورين آنفًا.
ويرى أيضًا أن المذهب الشخصي حل محل نظرية الجريمة المستحيلة (جرسون جزء أول صـ 24 نوته 109 و133 على المادة (3) من قانون العقوبات).
القضاء في مصر
أحكام المحاكم المصرية في هذا الموضوع:
1 - قد أشار حكم النقض الصادر بتاريخ 12 ديسمبر سنة 1913 إلى تقسيم الجريمة المستحيلة إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية وهذا نص إحدى الحيثيات:
(وحيث إنه لا يصح القول هنا بوجود (جنحة مستحيلة) لأن مسألة هذه الاستحالة لا يمكن التمسك بها إلا في حالة وجود مانع مادي ومطلق لا بسبب وجود مانع نسبي ناشئ عن قوة إدراك المجني عليه وبالفعل فإن هذا الأخير قد جعل المتهم يخيب عن عمله بسبب ظرف قهري لا دخل فيه لنفس الواقعة ولولا وجود هذا الظرف لكان من الممكن أن الجريمة يتم ارتكابها فعلاً) (المجموعة الرسمية سنة 1915 نمرة 19).
2 - وقد صدر حكم من محكمة النقض في نفس التاريخ ومن ذات الهيئة الأولى.
ويظهر أن محكمة النقض في هذا الحكم قد اتبعت المذهب الشخصي (مادة تسميم).
أما وجه النقض الذي قدمه المحكوم عليه فينحصر في أنه لم يبين في الحكم أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة.
وهاك نص إحدى حيثيات الحكم:
(وحيث إن الوجه الثاني مبني على عدم بيان أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة فهذا البيان ليس ركنًا من الأركان المكونة لجريمة الشروع في القتل بالسم ولذا ليس من الواجب إثباته، لأن الشروع في القتل بواسطة السم يتكون بمجرد إعطاء شخص عمدًا مادة في إمكانها إحداث الموت أو يظن الفاعل أنها تحدث الوفاة وذلك توصلاً لقتل المجني عليه، وأما إذا أعطى السم بكمية خفيفة جدًا أو إذا كانت الجواهر المستعملة غير مضرة وذلك بدون علم الفاعل ولكنها أعطيت بقصد قتل المجني عليه فإن هذه الوقائع لا تكون جناية مستحيلة بل شروعًا في القتل عمدًا قد خاب أثره لأسباب خارجة عن إرادة الفاعل، وفي الواقع فإن جريمة الشروع في القتل عمدًا بواسطة السم توجد قانونًا متى أظهر الفاعل نية ارتكابها بأفعال مقاربة للجناية ومع جميع الظروف المكونة لها، أما كون السم قد أعطي بكمية خفيفة جدًا أو أن المادة المستعملة كانت بدون علم الفاعل غير مضرة بدلاً من أن تكون قاتلة فإن هذه ظروف قهرية تجعل الفعل شروعًا بدلاً من قتل تام) (المجموعة الرسمية 15 نمرة 18). ارتكن الحكم على جرسون وشرح القانون الألماني وحكم الإمبراطورية الألمانية في 24 مايو 1880، وقد قضت محكمة أسيوط الاستئنافية في واقعة حاول الجناة فيها سرقة خزانة وكسروها ولم يجدوا بها نقودًا.
وقد جاء بأسباب هذا الحكم ما يأتي:
(حيث إنه ثبت من شهادة المجني عليه والتحقيقات أن المتهم دخل بيت المجني عليه وكان جاريًا كسر الدولاب الذي كان بداخله عقود إيجار وسندات وقد اعترف المتهم أنه كان يكسر الدولاب لسرقة النقود التي كان يعتقد أنها بداخله).
(وحيث إن الشروع في السرقة المعاقب عليه قانونًا يمكن توفره متى ظهر قصد الفاعل بأعمال محسوسة لا يمكن تفسيرها بغير ذلك وليس من المهم فقدان ظرف من الظروف التي توصل الفاعل إلى غرضه مثل عدم وجود النقود في المكان الذي كان يقصد السرقة منه لأن فقدان هذا الظرف خارج عن إرادته).
وقد حكمت محكمة النقض والإبرام الفرنسوية في 4 يناير سنة 1895 بإدانة شخص وضع يده في جيب آخر بقصد السرقة وكان الجيب خاليًا.
(ويظهر أن الحكم اتبع المذهب الشخصي).
ونلاحظ بأن حكم النقض الفرنسي المشار إليه بهذه الحيثيات قد اتخذه جرسون وبعض الشراح دليلاً على أن النقض بفرنسا عدل عن المذهب المادي.
الجريمة المستحيلة
الانسان كائن مزدوج في طبيعته خلق من مادة وروح . واودع فيه نوعان من القوى، نوع تأخذ بيده الى الخير واخرى تدفعه الى الشر وهذه الحقيقة ذكرها القرآن الكريم { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها }. نتج عن ذلك ان كان للانسان نوعان من السلوك، مايتفق مع الاخلاق والقانون والنظام ومايختلف عنها. وغالبا ما يمر كلا النوعين بمرحلتين: مرحلة داخلية نفسية لاعلاقة لها بالمادة واخرى خارجية وذات طبيعة مادية تتحسسها الحواس. وكثيرا ما تسبق المرحلة النفسية المرحلة المادية فلا يقوم الانسان بتنفيذ عمل الا بعد التصميم على القيام به. وتسبق كلا المرحلتين مرحلة تمهيدية فلا يصمم الانسان على عمل شئ الا بعد التفكير به مليا، ولا يقوم بتنفيذه الا بعد التمهيد لهذا التنفيذ والوصول الى مبتغاه.
فالسلوك بشكل عام هو مجموعة الافعال الداخلية ( الذهنية ) والخارجية ( المادية ) والتي بواسطتها يحقق الانسان ما يريد ان خيرا ً فخير وان شرا فشر. فمن يريد اقامة ملجئ للايتام ، لابد ان يفكر في الموضوع مليا ، موازنا بين حسناته وسيئاته فاذا مارجحت الحسنات ينتقل الى مرحلة اخرى اكثر اهمية الا وهي مرحلة التصميم والعزم على تنفيذ العمل . ومتى بدأ بالتهيئة للتنفيذ فيكون قد انتقل من المرحلة النفسية الى المرحلة التمهيدية لمرحلة التنفيذ، وهي اعداد وتحضير الوسائل الضرورية. وما ان يفرغ من التمهيد للمرحلة المادية حتى ينتقل الى تنفيذ العمل والوصول الى النتيجة التي ارادها الفاعل الا وهي بناء الملجئ.
ما قيل بالنسبة للسلوك النافع يقال ايضا في السلوك الضار وما يهدف اليه من نتيجة ضارة او جرمية حيث يمر الفاعل بنفس المراحل السابقة. فلو اراد شخص قتل آخر يتعين عليه ان يفكر في الامر، ويوازن بين ما يحقق رغباته ونزواته وبين ما يلحق به من اضرار. فاذا ما اوصله تفكيره الى الاتيان بفعل القتل فانه ينتقل الى مرحلة التصميم ليبدأ بعدها بتهيئة وتحضير الوسائل اللازمة للقيام بجريمة القتل مثل شراء سلاح والتدريب عليه، وما ان يفرغ من المرحلة الاخيرة حتى يبدأ التنفيذ وقد يصل الى النتيجة او لا يصل.
مراحل الجريمة
ان المراحل التي تمر بها الجريمة قبل وقوعها ثلاث:
1- مرحلة التفكير والتصميم
2- مرحلة الاعداد والتحضير.
3- مرحلة البدء بالتنفيذ.
الجاني في مرحلة التنفيذ قد يتعامل عن قرب مع محل الجريمة. كما لوضع سما في طعام المجني عليه، او يأخذ حبلا ويتسلق ليدخل بيت المجني عليه لسرقته. او قد يتعامل بشكل مباشر مع محل الجريمة كما لو اطلق النار على المجني عليه، او السارق الذي يضع يده على المال المسروق وقد يصل الى النتيجة التي يريدها او تفلت النتيجة فلا يصل الى مايتوخاه. وعلى ذلك نكون امام احتمالين :
الاول : ان يكمل الجاني نشاطه الاجرامي وتتحقق تبعا لذلك النتيجة المقصودة ، وهذه الجريمة التامة. كما لوطعن شخص آخرَ بسكين فارداه قتيلا. او كما لو وضع السارق المال المسروق تحت حيازته.
الاحتمال الثاني : ان يتخلف اهم عنصر في الجريمة الا وهو عنصر النتيجة. فنكون امام الشروع في الجريمة او الجريمة الناقصة. وبما ان للشروع حد ادنى ويسمى الشروع الناقص، وحد اقصى وهو الشروع التام، لذلك نكون امام صورتين للشروع :
الاولى :ان عدم تمام الجريمة وفق هذه الصورة عائد الى عدم اتمام الفاعل لنشاطه الاجرامي. وبعبارة اخرى عدم تمام الافعال المادية المكونة للجريمة او عدم اكمال ماديات الجريمة. وتوقف الجاني عن اتمام نشاطه الاجرامي يعود لاسباب خارجية لا دخل لارادته فيها. كمن يحاول الانتحار ويصوب المسدس نحو رأسه فيأتي آخريخطف المسدس من يده. او السارق الذي يدخل المتجر لسرقته وعندما يحاول كسر الخزانة يتم ضبطه ولا يتمكن من وضع يده على النقود. فيكون الفاعل قد منع عن اتمام فعله بفعل فاعل آخر لادخل لارادة الجاني فيه. وهذه حالة الشروع الناقص او الجريمة الموقوفة.
وفي الجريمة الناقصة يمكن تصور عدول الجاني عن اتمام فعله وعدم اكمال جريمته بأرادته ورغبته. كما لوحاول شخص قتل آخر وصوب المسدس نحوه ثم يمتنع عن اطلاق النار عليه رأفة من الجاني بالمجني عليه. او حالة السارق الذي يمتنع عن سرقة الاموال لانها تعود الى ايتام وطالما ان العدول تم بأرادة ورغبة الجاني لا بسبب خارجي فيسمى بالعدول الاختياري.
ولا بد ان تتوافر في العدول الاختياري شروط معينه حتى لا يكون منتجا للشروع المعاقب عليه :
1- ان يحصل العدول الاختياري قبل تمام الشروع في الجريمة، فاذا ماحصل بعد ذلك يتحقق الشروع المعاقب عليه. كما لو اخذته الرأفة بالمجني عليه قبل اطلاق الرصاص عليه. اما لو اطلق رصاصة فأخطأته ثم عدل بعد ذلك فيكون الشروع المعاقب عليه قد تحقق. ولا عبرة بالعدول اذا ماحصل بعد اتمام الجريمة وهو ما يسمى بالتوبة الايجابية، ويُسأل الجاني عن الجريمة كاملة. كما لواعاد السارق ما سرقه الى المجني عليه. ( 1 )
2- الا يكون العدول اضطراريا. فاذا ما تحققت في العدول الصفة الاضطرارية فهذا يعني تحقق الشروع وبالتالي استحقاق الجاني للعقاب عليه، كما لاعبرة بتوهم الجاني. فلو احس السارق بوقع اقدام وظن انه صاحب البيت او شرطي او كان فعلا كذلك وهرب فلا يؤخذ بعدوله انما يعتبر شارعا في جريمة السرقة.( 2 )
الثانية : وهي اذا ماقام الجاني بكل الافعال المادية المكونة للجريمة حتى نهايتها، ولم تبق خطوة تفصل بين الجاني والنتيجة، ومع ذلك تفلت النتيجة التي قصدها الجاني من سلوكه لسبب لا دخل لارادته فيه، والنتيجة في هذه الحالة تكون ممكنة الوقوع في ظروف النشاط الاجرامي الذي قام به الجاني. كما لو اطلق النار من مسدسه على خصمه فلم يصبه او أصابه في غير مقتل او تم اسعافه في المستشفى، ويسمى فعل الفاعل هذا بالشروع التام لآنه اتم كل نشاطه الاجرامي ما عدى النتيجة حيث يعتبر تخلفها من طبيعة الشروع ،وتسمى بالجريمة الخائبة.
وعلى عكس الصورة الاولى ففي هذه الصورة (الثانية) لا يُتصورعدول الجاني بأختياره عن اتمام جريمته. لان العدول الاختياري يتحقق في الغالب في الجريمة الموقوفة. ولا يمكن تصوره في الجريمة الخائبة الا في حالة كون عمل الجاني مما يمكن تداركه بعد وقوعه وقبل ان ينتج اثره كما لو حاول شخص قتل خصمه بأغراقه فألقاه بالنهر، وبعد ذلك يعدل بأختياره ولم يشأ ان يتم جريمته فيمد له يد المساعدة فينقذه من الغرق. وعلى العكس اذا كان فعل الجاني مما لايمكن تداركه، وكان وحده كافيا لاتمام الجريمة الا ان سببا خارجيا لادخل لارادة الجاني به حال دون وقوع النتيجة ، فان الفاعل يعد شارعا في الجريمة. كما لو اطلق شخص النار على خصمه بقصد قتله فأخطأه ثم عدل عن اتمام قصده فلم يطلق رصاصة اخرى، يعتبر في هذه الحالة مرتكبا لجريمة الشروع في القتل ويعاقب على فعله.
تتفرع عن الصورة الثانية جريمة اخرى تتشابه معها من ناحية سلوك الجاني ومن حيث النتيجة ، الا انها تختلف عنها في ان النتيجة اذا كانت ممكنة الحدوث في ظل ظروف النشاط الاجرامي في الاولى، فهي في الثانية لم ولن تتحقق مهما بذل الجاني من جهد في سبيل اتمامها. كما لو اطلق احدهم النار على خصمه النائم على السرير فاذا به فارق الحياة قبل اطلاق النار .او كمن يمد يده في جيب المجني عليه فيجده خاليا من المحفظة. او من يكسر خزانة النقود فيجدها فارغة، وهذه هي الجريمة المستحيلة. ومن هنا يتبين ان الجريمة المستحيلة هي صورة من الشروع التام .
البدء بتنفيذ الشروع
اذا عرفنا نهاية الشروع التي تختلف اختلافا كاملا من حيث النتيجة عن نهاية الجريمة التامة فهل ان بدايته كذلك ؟
يقال ان الشروع يبدأحيث تبدأ الجريمة التامة ، ولكنه يختلف عنها في نهايته . وهذا ما اتفقت عليه الكثير من التشريعات فنصت على ان الشروع يبدأ من مرحلة التنفيذ واستثنت مرحلتي العزم والتحضير. وهذا مافعله المشرع العراقي في المادة 30 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل والتي جاء فيها بأن الشروع (وهو البدء في تنفيذ فعل [ ... ] ولا يعد شروعا مجرد العزم على ارتكاب الجريمة ولا الاعمال التحضيرية لذلك ما لم ينص القانون على خلاف ذلك ). وكذلك فعل المشرع المصري في المادة 45 من قانون العقوبات (الشروع هو البدء في تنفيذ فعل [...] ولا يعتبر شروعا في الجناية او الجنحة مجرد العزم على ارتكابها ولا الاعمال التحضيرية لذلك ) .
الا ان غالبية التشريعات لم تعرّف البدء بالتنفيذ وهنا تبرز مشكلة الفصل والتمييزبين الاعمال التحضيرية واعمال البدء بالتنفيذ. فاذا كان الفصل بينهما واضحا وسهلا في بعض الاحيان، الا ان الامر ليس كذلك في احيان اخرى .
فمن يشتري سلاحا ناريا، او من يتدرب على استعماله فانه يقوم بعمل تحضيري، لان الفاعل لم يتعامل بصورة مباشرة مع محل الجريمة او بشكل قريب منها. ولكن في حالة خلط الجاني السم بطعام المجني عليه وتقديمه له او مد يده في جيب المجني عليه وسحب المحفظة منه او من يطلق النار على المجني عليه ففي هذه الحالة يكون الفاعل قد جاء بافعال تنفيذية لانه تعامل مباشرة مع محل الجريمة .والتمييز بين الافعال من الطائفة الاولى والثانية واضح ولا يثير اشكالا.
لكن في احوال اخرى تكون منطقة وسطى بين المرحلتين تمتاز بالضبابية بحيث يصعب فيها تحديد الافعال لاية مرحلة تعود. فلو ضبط الجاني حاملا سلاحه ومتجها الى مكان ارتكاب الجريمة او قبض عليه متربصا للمجني عليه او حالة ما اذا ضبط الجاني وهو يتسلق جدار المنزل لغرض الدخول اليه وسرقته. فهل تمثل هذه الاعمال اعلى درجات الاعمال التحضيرية ام انها تمثل ادنى درجات الاعمال التنفيذية؟
تظهر صعوبة التمييز بين المرحلتين في الشروع الناقص او الجريمة الموقوفة حيث لم يستكمل الجاني كل نشاطه، على ان في تحديد عمله تقريرا لمصيره، فاذا كان من اعمال التحضير يكون معفيا من العقاب على عكس ما اذا كان ما قام به من عمل يعد بدء بالتنفيذ فيتحقق فيه الشروع المعاقب عليه .ولا يثير الامر اية صعوبة في الشروع التام او الجريمة الخائبة لان الجاني قد استكمل كل نشاطه الاجرامي ويخضع لعقوبة الشروع في الجريمة .
ان للتمييز بين الاعمال التحضيرية والاعمال التنفيذية اهمية كبيرة يتجلى اثرها في العقاب على الفعل حيث لا عقاب على اعمال التحضير بينما تقع اعمال البدء بالتنفيذ تحت طائلة العقاب هذا من جهة . ومن جهة اخرى فان التمييز بين عمل المرحلتين تظهر اهميته في الجريمة المستحيلة حيث يبدأ الجاني بالتنفيذ وان تخلفت النتيجة فهل يعتبر بدء التنفيذ سببا لعقابه ام انه يعفى من العقاب لأن استحالة تمام الجريمة لازم الجاني منذ البدء بالتنفيذ؟ وهذا ما سنتناوله في العقاب على الجريمة المستحيلة .
لاهمية التمييز بين اعمال المرحلتين كما اسلفنا ولسكوت غالبية التشريعات عن تعريف اعمال البدء بالتنفيذ ،ولضرورة وضع معيار للتمييز بينهما فقد تصدى الفقهاء لهذه المهمة ولكنهم انقسموا الى مذهبين:
المذهب المادي:
اعتمد انصارهذا المذهب السلوك الاجرامي وما ينتجه من ضرر وما يكشف عنه من خطر معيارا لتحديد البدء بالتنفيذ. ووفقا لذلك يرون ان التنفيذ يبدأ متى بدأ الفاعل بتنفيذ الافعال المادية المكونة للجريمة وكما يتطلبها النموذج القانوني . فعندما يعرف القانون جريمة السرقة على انها اختلاس مال منقول مملوك للغير، وبما ان الاختلاس لا يتحقق الا بوضع اليد على المال المراد سرقته . فيكون وضع اليد في هذه الحالة العمل الذي يبدأ به الجاني سلوكه الاجرامي. اما في جريمة القتل فأي عمل يقوم به الجاني ويتعامل به مع المجني عليه للوصول الى النتيجة التي يتوخاها يعتبر بدء بالتنفيذ كما لو اطبق يديه على رقبة المجني عليه او كما لو اطلق النار عليه . اما اذا دخل الجاني منزل المجني عليه لغرض قتله فلا يعتبر دخول المنزل من ضمن الركن المادي لجريمة القتل . وحجتهم في ذلك ان القانون وهو يعرف جريمة القتل لم يعتبر الدخول في المنزل من اعمال البدء بالتنفيذ في الجريمة المذكورة.
بالرغم من سهولة ووضوح المعيار الذي تبناه المذهب المادي الا انه يضيق من نطاق الشروع فيوسع من دائرة الاعمال التحضيرية الغير معاقب عليها وبذلك يؤثر سلبا على الحماية للمجتمع التي هي من الاهداف الرئيسية لقانون العقوبات بسبب افلات الكثير من العقاب ممن لايجوز السكوت على اعمالهم لخطورتها. فدخول المنزل لغرض السرقة حسب اصحاب المذهب المادي لا يعتبر بدء بالتنفيذ لأن الجاني لم يضع يده على المال المراد سرقته. وبما ان مناط التجريم هو البدء بالتنفيذ فيكون دخول المنزل غير معاقب عليه مع خطورته.
نتيجة الانتقادات المذكورة وغيرها حاول اصحاب هذا الرأي التوسع في مرحلة البدء بالتنفيذ فقالوا بأن افعال المرحلة المذكورة لا تقتصر فقط على الافعال المادية او السلوك الذي به يتحقق الركن المادي للجريمة وانما اضافوا اليها ما اعتبره القانون ظرفا مشددا للجريمة . وحيث ان القانون اعتبر التسور وكسر الابواب ظرفا مشددا في جريمة السرقة فانها تدخل ضمن اعمال مرحلة التنفيذ.
ما يؤخذ على اصحاب الرأي الثاني من المذهب المادي هو انه من غير المنطقي ان تعتبر عملا معينا في الليل من ضمن مرحلة التنفيذ اما في النهار فنفس العمل يدخل ضمن مرحلة التحضير لا لسبب الا لان القانون اعتبر الليل ظرفا مشددا في جريمة السرقة .اضافة الى ان الرأي المذكور يؤدي الى التفرقة بين الجرائم فما يعتبر عملا تنفيذيا في جريمة ما لا يعتبر كذلك في جريمة اخرى . فمن تسور المنزل لغرض السرقة يعتبر قد بدأ عملا ماديا يتحقق معه الشروع في السرقة لان المشرع اعتبر التسور ظرفا مشددا. اما من تسور لغرض قتل خصمه فلا يعتبر شارعا في جريمة القتل لان القانون لا يعتبر التسور ظرفا مشددا في جريمة القتل. (3)