Warning: Function get_magic_quotes_gpc() is deprecated in /home/forumbs/public_html/includes/class_core.php on line 1960
بحوث علم النفس- علم النفس الشرعي وكشف الجر [الأرشيف] - منتديات بانى ستار

المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بحوث علم النفس- علم النفس الشرعي وكشف الجر



Bakenam
01-28-2009, 06:01 PM
علم النفس الشرعي وكشف الجرائم


مجلة المحاماة - العدد الثامن
السنة السابعة - عدد مايو سنة 1927

علم النفس الشرعي وكشف الجرائم

ليس فينا من يجهل ما للمشاعر والمحسوسات من الارتباط بالأفكار والذكريات في الحياة العملية، فإنه ليس بغريب على فؤاد شاب كلف بحب فتاة أن يضطرب كلما ذكر اسمها أمامه، أو كلما وقع بصره على شيء من آثارها، كذلك إذا انقطعت صلاته بها زمانًا فإنه إذا شم مصادفة رائحة طيب كانت تتعطر به، بعث عبقه ذاكراها في نفسه مهما طال عليها العهد وتمثل طيفها لناظريه، وأحس في الحال لوعة غرامه الغابر، أو إذا سمع لحنًا كان قد ألف سماعه منها، فإن شجن اللحن قد يوقظ في نفسه شجو الغرام، مهما تعاقب على حبه السنون والأعوام، وتذكر على الفور ذلك المحبوب القديم، وارتسمت في المخيلة صورته، وبيده عوده أو قيثارته، يستنطق أوتارها وهو مستوٍ على أريكته، وشعر كأن نبرات صوته الرخيم، ترن في أذنه رنات طرب وحنين.
كذلك إذا نكب المرء بفقد عزيز له فإنه يتحاشى جهده أن يقع بصره على شيء من مخلفاته وآثاره، ويبالغ في إخفاء أمتعته وملابسه ومقتنياته وإقصائها عن حواسه، حتى لا تصطدم بمشاعره فننبه ذكرى صاحبها، فتذكى في نفسه نار الحزن والشجن، وقد نرى بعض الناس يهجرون مضاجعهم أو منازلهم، بل قد يهجرون مدينة بأسرها، فرارًا من الآلام النفسية التي تبعثها ذكرى الفراق.
والشواهد في حياتنا اليومية على ما للمشاعر من الارتباط بالأفكار كثيرة، فنقيق الضفادع قد يذكرنا بسكنى الريف، وصياح الديك في الليل البهيم قد يذكرنا بانبلاج الفجر وبزوغ النهار، وطبلة المسحر في خلال العام، قد تذكرنا بأيام الصيام، وقد يذكرنا وجه صديق باسمه، أو قد يذكرنا اسمه بمدينة أو بناحية أو بمكان، وقد تذكرنا رؤية مكان بعهد الطفولة أو بأيام الدراسة أو بمواقف الامتحان، وكذلك قد تذكرنا رائحة بطعم خاص، أو تذكرنا رائحة خاصة كالأثير أو اليودفورم بعملية جراحية أو بأيام الإقامة بإحدى المستشفيات، مع ما يتبع ذلك من استحضار الذهن صور الأطباء والممرضات وغيرها من مختلف الذكريات.
فهذه الظواهر الفكرية المختلفة قد لفتت نظر المفكرين من عهد أرسطاطاليس حتى الآن، وقد أطلق عليها علماء النفس من الإفرنج Association of Ideasومعناها حرفيًا (ترافق الأفكار)، ولكن قوانينها وأسبابها لم تدرس درسًا محكمًا منظمًا مبينًا على قواعد علمية صحيحة إلا من عهد قريب، فمن مجموعة هذه الظواهر المشتركة نشأ علم كامل منتظم، حتى لقد قام جماعة من كبار العلماء ينادون بتعليل كافة الظواهر الفكرية في جميع أدوار الحياة العقلية بأنها نتيجة فعل ظاهرة ترافق الأفكار، وقد عرفوا بأصحاب مذهب الترافق School of Associationists ، وفي مقدمة هؤلاء (لوك - Locke) (وهيوم - Hume)، و(هارتلي - Hartly)، و(جيمس مل - James Mill)، (وبين - Bain)، (وريبو - Ribot ) وغيرهم من فطاحل الفلسفة وجهابذة العلم.
فمن الروابط الفكرية ما هو ناشئ عن التلازم أو الاقتران حيث يذكرنا القرين بقرينه، ومنها ما هو ناشئ عن التشابه والتمائل حيث يذكرنا المثيل بمثيله، وهنالك من الروابط ما هو ناشئ عن مجرد التعاقب والتواتر حيث يذكرنا المتبوع بتابعه، وقد يذكرنا الجزء بالكل أو الكل بالجزء، أو قد يذكرنا اسم حيوان باسم فصيلته أو اسم نوعه أو اسم نظيره أو بقصة عن هذا الحيوان، أو بكتاب في التاريخ الطبيعي ورد ذكره فيه وغير ذلك من الاحتمالات التي لا تقف عند حد أو نهاية، غير أن علماء النفس لم يقتنعوا بمجرد تبويب الروابط العقلية وتقسيمها تقسيمًا نظريًا بل وجهوا جل عنايتهم ومعظم جهودهم إلى دراسة الأسباب التي تؤثر في تلك الروابط والعوامل التي تبعثها في النفس فتدعو إلى تنبيه خاطر دون خاطر، أو تبعث فيها فكرة دون أخرى، ووضعوا الأجهزة الدقيقة لقياس سرعة الخواطر والتفاعلات العقلية لكل نوع من أنواع الروابط الفكرية المختلفة، ففي أقل من نصف قرن نهض علم النفس التجريبي بمعامله الخاصة حاذيًا حذو علمي الكيمياء والطبيعة إذ وضعت الظواهر العقلية المختلفة تحت الفحص والاختبار بنفس الطرق المستخدمة في العلوم الطبيعية الأخرى فبتطبيق التجارب العملية أخذت دراسة (ارتباط الأفكار) تتجه في العهد الأخير اتجاهًا جديدًا، فالعالم النفساني في معمله لا يقنع بما قد يجنيه مصادفة في الحياة العملية اليومية من المشاهدات، بل يسعى خصيصًا وراء غاية مقصودة بالذات، دائبًا على العمل لاستخلاص القوانين وتأسيس القواعد والنظريات، ولذلك أمكن الوصول إلى نتائج حاسمة، حيث أصبحت لنظريات علم النفس فائدة تذكر في الحياة العلمية، فطبقت قوانين ارتباط الأفكار، أسوةً بكثير من فروع علم النفس التجريبي تطبيقًا عمليًا في التعليم والطب والهندسة والتجارة والفنون وغيرها من مرافق الحياة المختلفة، وأنه لمن المستغرب في وقتنا الحاضر عدم اتجاه أنظار رجال القانون إلى مثل هذه الأبحاث وتطبيق أساليب علم النفس الخاصة بدراسة تلك الظاهرة العجيبة واستخدامها في كشف الجرائم، فإننا في كثير من الحوادث نقف مكتوفي الأيدي ننظر مع الحسرة والألم إلى عجز الوسائل القانونية المألوفة في الوصول إلى إقرار بالحقيقة، إذ أن للإنسان مقدرة على إخفاء معلوماته وأفكاره أما بالأكاذيب وأما بالكتمان، وكلما زادت أساليب الحياة الاجتماعية ارتباكًا وتعقيدًا سهل على المجرم المحنك أن يخفي آثار جرائمه ويستر سيئاته بالمكر والخداع، ولهذا كان لا بد لنا من البحث عن وسائل أخرى تكشف لنا الحقائق وتميط عنها القناع، ونستعين بها على قراءة ما يخالج ضمير المتهم من الخواطر والأفكار، وما يكنه في صدره من الأسرار، ولا ملجأ لرجل القانون في هذا إلا طرق أبواب العلوم الأخرى، والتزود مما ادخرته من ثمرات الاكتشاف والاختراع، وظاهرة ارتباط الأفكار في مقدمة الوسائل العلمية التي نبلغ بها نحن معشر رجال القانون ذلك الغرض الأسمى الذي نسعى إليه وهو نشر لواء العدل بين الناس وصيانة أعراضهم وأرواحهم وأموالهم من عبث العابثين، والضرب على يد كل مجرم أثيم.
فأبحاث رجال العلم لم تقف عند حد استخدام هذه الظاهرة في المسائل الطبية وحل المعضلات النفسية في الأحوال المرضية بل تعدته إلى تطبيقها في غيرها من مختلف المسائل العمرانية ومنها كشف الجرائم، فوصلوا بما أجروه في ذلك من التجارب إلى نتائج جديرة بأن يعيرها رجل القانون كل عناية واهتمام، ولهذا رأيت أن أنقل في هذه الرسالة الصغيرة مجمل ما وقفت عليه من الأبحاث التي قام بها علماء الغرب في هذا الشأن، حتى إذا لم يكن لزملائي من ورائها شيء من الفائدة العملية ربما يكون لهم فيها بعض اللذة والتسلية العلمية، ولكن قبل أن أتكلم من الوجهة الفنية في تلك الظاهرة التي تشغل مقامًا خطيرًا بين مجموعة الظواهر العقلية وبيان أوجه الاستفادة منها عمليًا، أرى أن الموقف يتطلب ذكر كلمة عنها من الوجهة العلمية وفهم بعض نظرياتها وقوانينها حتى عند تطبيقها عمليًا تكون لنا بها من الخبرة والإلمام ما يكفي لتقدير مدى اعتمادنا عليها في الأبحاث الجنائية.

القسم الأول: البحث العلمي أو النظري
ظاهرة ارتباط الأفكار
Association of Ideas

أن ظاهرة (ترافق الأفكار) أو بعبارة أخرى (ارتباط الأفكار) أو (ارتباط الخواطر النفسية) كما اسميها هي تلك الظاهرة العقلية التي تمثل ما بين خواطر النفس المختلفة من روابط، بمعنى أنه إذا تنبهت في العقل فكرة أو ذكرى معينة أو إحساس خاص، أيقظ ذلك في الحال فكرة أخرى أو مجموعة أفكار وذكريات تجمعها بها روابط عقلية قديمة، فإذا كان العقل قد ألف أن يدرك شيئين مختلفين في الشكل ومتلازمين وجودًا، فإن إدراكه أحدهما أو تذكره إياه فيما بعد، من شأنه أن ينبه ذكرى الشيء الآخر بجانبه، مثال ذلك إذا كنت اعتدت أن أرى زيدًا وعمرًا متلازمين، فإذا اتفق لي رؤية أحدهما منفردًا فإني أتذكر زميله في الحال، وإذا كنت تعرفت بصديق في بلد معين في أثناء سفري أو سياحتي، فإن رؤية الصديق أو ذكراه قد تذكرني بذلك البلد، كما أن رؤية البلد أو ذكراه قد تذكرني بالصديق كذلك إذا حصل للإنسان حادث مزعج أو أليم أو حلت به فاجعة في وقت معين كوقت الغروب مثلاً، فقد ينبه الغروب عند مجيئه ذكرى الحادث أو الفاجعة، وإذا رأى الإنسان في عرض الطريق وجه شخص يشبه وجه صديق، قد يذكر في الحال ذلك الصديق، وإذا حفظ الإنسان أرقامًا بترتيب خاص أو كلمات قد لا تجمعها أي رابطة معنوية، فإن ذكرى إحداها قد يدعو إلى تذكر ما يليها من الأرقام أو الكلمات، وقد يذكرنا الأبيض بالأسود، أو البارد بالحار، أو الطويل بالقصير وهلم جرا، فبالتأمل في هذه الأمثال المختلفة يتبين أن العلة في إيقاظ فكرة بأخرى ترجع إلى وجود صلة عقلية تؤلف فيما بينهما وتجمعهما في المخيلة في آنٍ واحد، فالصلة في المثل الأول هي صلة تلازم أو اقتران، وفي المثل الثاني صلة مكان، وفي الثالث صلة زمان، وفي الرابع صلة تماثل، وفي الخامس صلة تعاقب وفي السادس صلة تضاد، وهناك صلات أخرى تجمع الأفكار المختلفة بعضها ببعض وتؤلف فيما بينها لا يتسع المجال لذكرها فضلاً عن كونها خارجة عن نطاق بحثنا.
فمما تقدم يمكننا أن نستخلص التعريف الآتي لظاهرة (ارتباط الخواطر النفسية) فهي خاصية تنبيه الأفكار أو الخواطر بعضها بعضًا بسبب سابقة ارتباطها في العقل برابطة فكرية مشتركة، أو بعبارة أوجز: هي تنبيه فكرة بأخرى تجمعهما ممارسة عقلية سابقة.
ومما يجب لفت النظر إليه أن هذه الظاهرة في مجموعها تشمل دورين من أدوار الإجراءات العقلية مختلفين ومستقلين بعضهما عن بعض، أحدهما سابق والآخر لاحق، فالسابق خاص بالرابطة التي ينشئها العقل بين فكرتين أو أكثر ويؤلف بينهما، وهذا يأتي من الخبرة والممارسة العقلية، وبعد أن يتم الارتباط بين الخواطر المختلفة ينتهي بذلك الدور الأول وهو دور التكوين، ثم تبقى الأفكار الموصولة كامنة في العقل إلى أن يأتي الدور اللاحق وهو دور العمل أو التنبيه، وذلك عندما تتنبه إحدى الفكرتين في العقل بفعل أي مؤثر من المؤثرات سواء كان ذاتيًا أو خارجيًا، فإن الفكرة التي تنبهت توقظ معها الأفكار الأخرى الكامنة السابق ارتباطها معها، والفرق بين العمليتين جوهري من حيث إن العملية الأولى إنشائية.
بخلاف الثانية فهي وظيفية أو عملية حيث تكون فيها الأفكار الكامنة في العقل قابلة للتفاعل بالمؤثرات أو المنبهات فهي ظاهرة تنبيه عقلية، فكما أن رائحة الطعام أو طعمه أو مضغه قد تنبه إفراز اللعاب أو العصارة المعدية، كذلك سماع بعض الأصوات أو لمس بعض الأشياء أو شمها أو رؤيتها أو مذاقها قد تنبه في العقل العصارة الفكرية، والعملية الأولى فيها معنى الإنشاء والتركيب كما تقدم، أما الثانية ففيها معنى التحليل، لأنها لا تولد فكرة جديدة بل من شأنها تحليل الأفكار التي في العقل قديمًا والدلالة على ما تتألف منه من الجزيئات، لهذا كانت عبارة Association of Ideas التي اصطلح عليها الأفرنج للتعبير عن هذه الظاهرة المزدوجة التركيب ليست دقيقة المعنى، لأن مدلولها قاصر على عملية الترافق أو الارتباط، وليس فيها معنى التنبيه أو التفاعل مع وضوح الفرق بين الأمرين ولذلك سأطلق على العملية الأولى (القران العقلي) [(1)] أو (الارتباط العقلي) تمييزًا لها عن عملية التنبيه نفسها التي سأدعوها (بالتفاعل العقلي) أو (تداعي الخواطر) [(2)] ولما كانت عملية التفاعل هذه تستلزم وجود خاطرين يحصل بينهما التفاعل فيؤثر أحدهما في الثاني وينبهه فسأطلق على التأثير الصادر من أولهما (التنبيه) أما الأثر المترتب عليه وهو تنبيه الخاطر الثاني وإيقاظه في الذاكرة فسأطلق عليه (رد الفعل) أو (التلبية).
ولأجل إيضاح ما تقدم أضرب لذلك مثلاً، وهو أن كلمة جمل التي تدل على ذلك الحيوان المعروف لنا بهذا الاسم، قد تبعث عند ذكرها صورته في المخيلة، غير أن معرفتنا لمدلول كلمة جمل تقتضي ممارسة العقل سابقًا سماع كلمة جمل عند رؤيته منذ عهد الطفولة، وذلك هو دور التكوين، فمن ذلك العهد ارتبطت كلمة جمل في العقل بمنظره وصورته وصوته وظلت هذه الصلة كامنة في العقل حتى إذا رأينا الجمل فيما بعد تذكرنا اسمه أو إذا سمعنا اسمه تذكرنا شكل أو صوته، وهذا هو دور التنبيه، والذي دعاني إلى اختيار التمثيل بالجمل هو أني وقت كتابة هذه السطور كنت اسمع رغاء جمل خارج المنزل، فذلك الصوت أيقظ في ذهني صورة الجمل، وصورة الجمل أيقظت اسمه، لأن كلاً منهما ارتبط في ذهني قديمًا بالآخر، فالخبرة القديمة تمثل عملية القران (أو الارتباط العقلي) أما تنبيه ذكرى الجمل في ذهني عند سماعي صوته، فتمثل ظاهرة (التفاعل العقلي) الناشئ عن صوت الجمل، والوظيفة التي قام بها ذلك الصوت من حيث تذكيري بالجمل هي (التنبيه)، والأثر المترتب عليها وهو ظهور صورة الجمل في مخيلتي أو تنبيه اسمه في ذاكرتي هو (رد الفعل) أو (التلبية).
ومما تقدم يتضح صعوبة إيجاد كلمة واحدة أو عبارة واحدة تشمل عمليتي (القران) (والتفاعل) معًا، وبما أنه جرى العرف والاصطلاح قديمًا على التعبير عنها (بارتباط الأفكار - Association of Ideas.) لتمثل كلتا الظاهرتين بصفة عامة، فلست أرى موجبًا للعدول هنا عن المألوف، وسأستخدمها كلما أردت التعميم بما أن مدلولها سيكون مفهومًا بالقرينة، وإذا اقتضى الحال التخصيص في بعض المواضع أشير إلى ذلك في سياق الكلام بما يدل عليه بإحدى الاصطلاحات الخاصة المتقدمة الذكر.

أسباب ظاهرة ارتباط الأفكار وتعليلها

لقد حار العلماء في كيفية تولد ظاهرة ارتباط الأفكار، وفي علة وجودها، فبعضهم شبهها بالجاذبية، ومن بين هؤلاء العالمان ريبو وهيوم، وبعضهم كالعلامة وليم جيمس أرجعها إلى (قانون الاعتياد العصبي - The Law of neural habit) أي أن المرجع فيها إلى العادة التي ألفها العقل عن طريق الممارسة والخبرة، وقد وضع لها القاعدة الآتية:

When two elementary brain - processes have been active together or in immediate succession, one of them, on recurring, tends to propagate its excite - ment into the other

ومعنى ذلك:
إذا قام العقل بعمليتين عقليتين في وقت واحد أو على التعاقب فإن تنبيه إحداهما في العقل ثانيًا من شأنه أن يؤدي إلى تنبيه العملية الأخرى معها.
والعادة (في نظره) من شأنها أن تجعل انتقال التيار العصبي بين مركزين عقليين سهلاً والطريق بينهما ممهدًا، وعلى ذلك فالتنبيه الذي يقع على أحد هذين المركزين فيما بعد يمتد منه إلى المركز الآخر.
وقد حاول بعض العلماء رد هذه الظاهرة إلى وظيفة عضوية أو أسباب فيزيولوجية ترجع إلى كيفية تركيب الخلايا العصبية في المخ مستندين في ذلك على ما أظهره أخيرًا علم التشريح الدقيق من وجود ألياف عصبية تصل المراكز العصبية المختلفة بعضها ببعضها الآخر سميت (ألياف الاتصال - Association fibers) وقالوا إن التيارات العصبية تنتقل من مركز إلى مركز عن طريقها، وإن الخبرة أو الممارسة من شأنها أن تمهد ذلك الطريق وتجعله أكثر صلاحية وأعظم قابلية لنقل التيارات، ومما يزيد هذا التعليل وجاهة كشف مراكز عصبية تصل بينها ألياف من هذا القبيل في المنطقة المعروفة باسم المنطقة الصامتة Silent region، وهي إحدى مناطق اللحاء أي القشرة (Cortex) (وهي الطبقة العليا السنجابية للمخ)، ومركزها المساحة التالية للالتصاق المعروف باسم التصاق رولاندو Fissure of Rolando في الجزء المقدم للفص الجبهي، وقد سميت بالصامتة لخلوها من مراكز الحس والحركة، ويعتقد بعضهم أنها موطن التفكير ووكر المواهب العقلية وفي مقدمة القائلين بهذا الرأي العلامة (فلشسج Flechsig) أول كاشف لتلك المراكز التي سماها (مراكز الاتصال - Association centres)، وكان يظن في بادئ الأمر أن هذه المنطقة ليست لها وظيفة حيوية مع أن نسبة مساحتها في مخ الإنسان أكبر منها في القرد والحيوانات الأدنى مرتبة من الإنسان، وذلك نظرًا لأن تلف جزء منها أو إصابته لا يترتب عليه أحداث أعراض ظاهرة في وظائف الحس أو الحركة، ولكن ظهر بالتجربة العلمية أن الإنسان مع ذلك يفقد مجموعة من مواهبه الفكرية الراقية ومعلوماته المكتسبة بالخبرة والمران تختلف باختلاف موضع الإصابة، فقد روي العلامة (هليبرتون - Huliburton) في كتابه علم وظائف الأعضاء صفحة 732 أنه حدث مرة انفجار في منجم فأصيب أحد العمال بكشط جزء من المنطقة الصامتة للّحاء، ولما شفي من إصابته لم تظهر عليه أي أعراض تستحق الذكر وعاد إلى عمله، ولكنه لم يلبث طويلاً حتى اتضح أنه غير أهل له، إذ تبين أن الوظائف العليا للمخ والمواهب الفكرية الراقية قد تأثرت بسبب الإصابة.