Bakenam
01-28-2009, 05:54 PM
علم النفس الشرعي وآثار الانفعالات النفسية
مجلة المحاماة - العدد الثاني
السنة السادسة - عدد نوفمبر
علم النفس الشرعي وآثار الانفعالات النفسية [(1)]
في عام سنة 1914 وقع حادث شروع في قتل في إحدى القرى التابعة لمركز السنبلاوين وملخصه أن شخصًا من الأهالي أُطلق عليه عيار ناري من يد مجهول حال خروجه من القرية قاصدًا غيطه وكان الوقت قبيل العشاء، وقد أُطلق العيار من مزرعة على جانب الطريق فأصيب المجني عليه في ساعده الأيسر ولما كنت وكيلاً لنيابة ذلك المركز وقتئذٍ قد قمت للتحقيق وفي خلاله حامت الشبهة حول شخص كان خطيبًا لزوجة المجني عليه ولكن والدها أبى أن يزوجها منه لسوء سلوكه وزوجها من المجني عليه.
أخذت في البحث عن هذا المتهم فوجدته في مكان يبعد عن مكان الحادث بمسيرة ربع ساعة وهو يروي زراعة كان معينًا خفيرًا عليها وكان بيده عصاه وقد شهد اثنان من أهالي القرية بأنهما رأياه عقب سماعهما العيار يسير على شاطئ الترعة متجهًا نحو المزرعة التي وجد فيها وكان مجدًا في السير قليلاً وبيده تلك العصا ولما كان المتهم خفيرًا خاصًا لزراعة بعض الأعيان ومرخصًا له بحمل السلاح فقد سئل بطبيعة الحال عن سلاحه فادعى فقده من عشرين يومًا غير أن الشهود شهدوا بأنهم رأوه يحملها قبل الحادث بيوم واحد ولكن نتيجة التحقيق لم تتقدم بعد ذلك خطوة في حين أن ما وصلت إليه من الأدلة لم يكن سوى مجرد شبهات لا تكفي لإدانة المتهم قانونًا غير أنها كونت عندي شبه عقيدة بأنه هو الفاعل ولذلك حصرت اهتمامي في البحث عن السلاح لأن ذلك هو الطريق الوحيد المفتوح أمامي للبحث، وبعد قليل من التأمل لاح لي أن السلاح لم يخبأ في القرية وأن البحث عنه فيها عقيم ولا بد أنه يكون خارجها لأن المتهم لم يكن لديه من الوقت ما يكفي للعودة إليها بعد الحادث كما هو ظاهر من الوقائع المتقدمة وبطبيعة الحال أرجأت التفتيش إلى الصباح لأن البحث عن السلاح في وسط المزارع والغيطان ليلاً ضرب من العبث فوضعت الحرس الكافي حول تلك المزارع لكي لا يقربها أحد.
ولما طلع النهار خرجت لإجراء البحث والتفتيش وبصحبتي المتهم كعادتي عند كل تفتيش لعلى أستفيد مما قد يبدو عليه من التأثيرات النفسانية حال إجراء البحث إذ كان ذلك يساعدني أحيانًا في الوصول إلى غايتي ولكني بمجرد أن خرجت من القرية وقفت برهة حائرًا لأني وجدت أمامي ميدانًا للتفتيش متسع الأرجاء مترامي الأطراف، وأني لي أن اهتدي إلى المكان الذي خبأ المتهم سلاحه فيه، وأن التفتيش في الخلاء يتطلب عناءً شديدًا ومجهودًا عظيمًا قد يستغرق كل نهاري ولا أصل إلى نتيجة ما، وبينما أنا مسترسل في أفكاري وحيرتي إذ تذكرت في الحال بعض تجارب العلامة منستربرج بشأن ضربات القلب وتأثير الانفعالات النفسانية فيها فوضعت يدي في يد المتهم وبينما كنت متمسكًا بمعصمه وضعت إبهامي خلسة على الشريان الكعبري (وهو الذي يجس منه الأطباء النبض عادةً) وبعد أن تملكت موضع النبض منه جيدًا وأصبحت دقات قلبه تحت إشرافي ومراقبتي ألقيت عليه عدة أسئلة متتابعة بشأن محل إخفاء السلاح وعددت له الأمكنة التي يحتمل أن يكون أخفاه فيها، فذكرت له بعض المزارع ثم ساقيته الخاصة ثم الترعة فالقناة فالمصرف وهكذا فلاحظت أن النبض عند ذكر المصرف كان يشتد ويسرع كثيرًا وإذا ما حولت الكلام عنه إلى أماكن أخرى كان النبض يهدأ ويكاد يعود إلى حالته الطبيعية وهكذا كلما ذكرت له المصرف يعود النبض فيقوى ويسرع وكان أثر الانفعال محسوسًا لدرجة أثارت دهشتي وكانت دقات قلبه قوية واضحة حتى خيل إلى أني أسمعها من صدره فترجح لدى أن المتهم ألقى سلاحه في ذلك المصرف ولكنه مصرف عميق متسع العرض ممتد الطول والبحث فيه شاق فضلاً عن أنه يستلزم مهارة في الغوص، ففي أي مكان منه ألقى المتهم سلاحه ؟ أن هذه لمعضلة ثانية، ولكن بعد أن قدحت زناد الفكر قليلاً أمكنني تعيين ذلك المكان وتحديده بوجه التقريب والفضل في هذا راجع إلى العصا التي كانت بيد المتهم فهي التي أشارت لي عليه ودلتني إلى موضعه، وتفسير ذلك أن للمتهم ساقية خاصة على مقربة من المصرف وقد اعتاد أن يترك عصاه فيها حينما كان يحمل بندقيته في أثناء الحراسة كما علمت ذلك اتفاقًا في أثناء التحقيق فالعصا كانت إذن عند ساقيته وقت ارتكابه الجريمة ولم تكن معه بطبيعة الحال لأنه كان يحمل سلاحه وبعد أن أطلق العيار فر هاربًا نحو الساقية وتناول عصاه منها كما هو ظاهر من وجودها معه عند ضبطه ولما كانت الساقية ملكه الخاص فهو لا يخاطر بإلقاء سلاحه فيها وإنما أول شيء يتبادر إلى ذهنه هو المصرف لقربه وصعوبة انتشال البندقية منه نظرًا لعمقه ولما كان الجاني شديد الرغبة عادةً في التخلص من سلاحه بأسرع ما يمكن فإن أقرب مكان من المصرف إليه وهو الواقع تجاه الساقية هو المكان الذي يتبادر إلى الذهن أنه ألقى سلاحه فيه حتى يصبح حرًا طليقًا من الدليل الخطير الذي يحمله بين يديه، وعلى أثر مرور هذه الخواطر ملت إلى مأمور المركز وعينت له المكان الذي يجب البحث فيه أولاً ولكن المتهم عند ما رأى الرجال المكلفين بهذا البحث متجهين نحو ذلك المكان بدت على وجهه دلائل الارتباك والحيرة وشحب لونه وجف لعابه ولكي يداري اضطرابه وقتئذٍ ويظهر عدم اكتراثه بما يجري حوله أخذ يولي وجهه شطر موضع آخر ويحوله عن مكان البحث من المصرف ولكن بالرغم من كونه أدار وجهه فإن كرتي عينيه كانتا لا تزالان في اتجاه نفس ذلك المكان فازداد اعتقادي بوجود السلاح فيه وقوى أملي في الحصول عليه وبالفعل لم تمضِ خمس دقائق في البحث حتى انتشلت البندقية من قاع المصرف.
إن هذه المشاهدة البسيطة أثارت اهتمامي بعلم النفس التجاربي وزادتني إيمانًا بجليل قدره ويقينًا بجزيل نفعه حيث رأيتني أجني ثمار تجربة من أسهل التجارب بغير الاستعانة بأي آلة أو جهاز خاص فلم أشأ أن أتركها تمر بدون أن يكون لها أثر رسمي ثابت فسجلتها في محضري الذي أخذت به محكمة الجنايات فيما بعد واعتمدت عليه في إدانة المتهم وكنت من ذلك الحين أجد لذة مضاعفة وشوقًا عظيمًا في مطالعة ما كتبه علماء النفس في هذا الصدد وتطبيق ما أقف عليه من المعلومات في الحياة العملية.
وأني لكي لا استأثر بهذه اللذة وحدي رأيت أن أنقل إلى حضرات زملائي رجال القانون وغيرهم من قراء المجلة بعض تلك المعلومات التي على ضآلتها أرجو أن لا تخلو من بعض الفائدة والنفع وإن لم يكن فيها أكثر من إلفات أنظارهم إلى أهمية هذا العلم الجليل وتوجيه عنايتهم إليه لكفى.
علم النفس والجريمة
وأني قبل أن ألج باب الموضوع بالذات أنتهز هذه الفرصة السانحة لإسداء واجب الشكر إلى مجلة المحاماة الغراء التي أفسحت لمقالي صدرًا رحبًا على صفحاتها والفضل في ذلك راجع إلى رئيس تحريرها وعمادها المكين حضرة زميلي الفاضل عزيز خانكي بك فإن غيرته على القانون والعلم من أقوى العوامل التي شجعتني على نشره إذ أنه بمجرد أن علم بأني ألقيت في أول هذا العام محاضرة بهذا المعنى في نادي الحقوق طلب مني أن أبعث إليه بنصها لنشرها ولكن لما يكن لدي وقتئذٍ منها سوى مذكرة صغيرة برؤوس مواضيع لا تفي بالمرام وكان ضيق وقتي يحول دون وضعها في شكل محاضرة مكتوبة فلم استطع أن أوافيه بما طلب ولذلك فإني أعتذر لحضرته ولحضرات قراء المجلة عن هذا التأخير ولما كانت ثمرات العلم لا يتوقف جنيها على أوان أو مكان فإني أبر له الآن بوعدي واستعيض عن المحاضرة بهذا المقال الذي جعلته في مضمونه قريبًا منها بقدر ما تعي الذاكرة وحتى بذلك أكون قد قمت من جهة أخرى ببعض الواجب نحو إخواني الذين وقع تقصير في دعوتهم أو الذين تعذر عليهم سماعها لضيق المكان ولهذا فإني جعلت موضوع هذا المقال قاصرًا على (آثار الانفعالات النفسانية) التي كانت موضوع المحاضرة كما أنه ليس من المستطاع التكلم عن علم النفس والجريمة أو بعبارة أخرى (البسيكوجيا الشرعية) بصفة عامة في رسالة صغيرة كهذه من غير أن تبدو مخلة بعيدة عن الغرض المقصود لأن علمًا واسعًا متشبعًا كهذا لا يمكن حصره في مقال أو مقالين بل يتطلب سلسلة مقالات لا حد لها ولا حصر إذ أن ارتباط علم النفس بالقانون يشمل موضوعات شتى كدرس عقلية المجرم والأسباب التي يتولد عنها الميل للإجرام والعوامل التي تدفع الشخص إلى ارتكاب الجريمة وطرق الوقاية منها ومعالجة الأمراض والأدواء الخلقية وأساليب منع الجرائم والوسائل المؤدية إلى اكتشافها عند وقوعها والبحث في نفسية الشهود وذاكرتهم وانخداع حواسهم والتأثير بالإيجاد أو بالتنويم المغناطيسي والاعترافات الكاذبة وهلم جرا.
وإني وإن كنت اخترت من بينها موضوع (آثار الانفعالات النفسية) أولاً فما ذلك إلا لكونه على جانب من السهولة كما أنه لا يخلو من تسلية ولذة قد تنبه شوق القارئ إلى متابعة البحث والاطلاع.
تعريف علم النفس
قبل أن أبدأ الكلام على الانفعالات النفسية بوجه خاص أرى المقام يتطلب كلمة موجزة عن علم النفس بوجه عام، فعلم النفس وترجمته باللغة الإنجليزية (Psychologty)، وهي كلمة مركبة من عنصرين يونانيين (Psyche)، ومعناها اكسير الحياة أو الروح و (Logy)ومعناها علم وهي مشتقة من كلمة (Logos) وترجمتها بالعربية (لغة).
فعلم النفس كان معروفًا قديمًا بأنه العلم الذي يبحث في ماهية الروح ومظاهرها المختلفة إلا أنه كان معدودًا من علوم الفلسفة النظرية وكانت قواعده ونظرياته المرجع فيها إلى الحدس والتخمين فلم يكن معروفًا كعلم طبيعي بالمعنى المعروف الآن.
أما اليوم فإن علم النفس الحديث الذي بدأت نهضته العلمية من عهد قريب لا يتجاوز نصف قرن قد أصبح معدودًا من العلوم الطبيعية كعلوم الفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) والبيولوجيا (علم الحياة) والامبريولوجيا (علم تكوين الأجنة)، والبكتريولوجيا (علم المكروبات) والكيمياء والطبيعة وغيرها من العلوم الطبيعية المؤسسة على قواعد إيجابية صحيحة، وأني لأميل إلى اعتبار علم النفس فرعًا خاصًا مشتقًا من علم الفزيولوجيا وسواء كان رأيي هذا خطأ أو صوابًا فإنه مما لا جدال فيه أن لعلم النفس ارتباطًا شديدًا بفزيولوجيا المجموع العصبي وهو المركب من الأجهزة الرئيسية الثلاثة، الحس والإدراك والحركة في حين أن علم النفس يبحث في وظائف هذه الأجهزة بعينها وتعليل مظاهرها المختلفة كعلم الفزيولوجيا سواء بسواء.
فمما تقدم يمكننا أن نستخلص النتيجة الآتية وهي أن علم النفس القديم يصح تعريفه بأنه (علم دراسة الروح)، وعلم النفس الحديث (بعلم دراسة العقل)، ودراسة العقل تستدعي بطبيعة الحال دراسة الحس والإدراك والحركة بجميع مشتملاتها وفروعها كالرغبة والمعرفة والتعليل والقصد والتصميم والإرادة والتصور والتمييز وما شاكل ذلك.
فبعد أن كانت الظواهر الفكرية تفسر قديمًا تفسيرًا نظريًا بحتًا أو فلسفيًا أصبحت الآن تفسر تفسيرًا علميًا مؤسسًا على التجارب والمشاهدات الصحيحة المؤيدة بالحس والدليل المادي الملموس وأن الإنسان كما يستطيع أن يحلل مركبًا من المركبات الكيميائية كذلك يستطيع الآن بوسائل فنية مماثلة أن يحلل المظاهر العقلية وكما نجد أن معمل الفزيولوجي أو العالم الطبيعي أو الكيميائي عبارة عن معرض من الأنابيب والمعوجات والأحواض والبطاريات الكهربائية والأسلاك المتشابكة وغيرها من مختلف العدد والآلات كذلك نجد معمل الباحث النفساني في وقتنا الحاضر، وقد قطع علم النفس العملي أو التجاربي مرحلة واسعة في سبيل التقدم وبالأخص في ألمانيا والنمسا والولايات المتحدة وكندا.
ومتى علمنا أن علم النفس أصبح علمًا طبيعيًا اطمأنت نفوسنا إلى الأخذ به في التحقيقات الجنائية بنفس الطمأنينة التي تأخذ بها التقارير الطبية الشرعية لأن كلاً منها المرجع فيه إلى المشاهدة والخبرة الفنية المشفوعة بالمستند العلمي، كذلك يمكننا استخدام علم النفس كوسيلة لاكتشاف الجرائم أو منعها أي أنه يمكن الانتفاع به كعلاج ووقاية معًا.
آثار الانفعالات النفسية
عرفنا مما تقدم ما هو علم النفس الحديث ومركزه بين العلوم الطبيعية الأخرى وأصبحت لدينا الآن فكرة عامة من جهته فلنتكلم الآن عن آثار الانفعالات النفسية بوجه خاص وهي موضوع مقالنا الحالي.
فآثار الانفعالات النفسية يمكن تعريفها بأنها هي الأعراض التي تبدو على الأعضاء الظاهرة أو الباطنة للشخص بسبب عامل من العوامل التي تؤثر في تلك الأعضاء تأثيرًا خاصًا كالسرور والحزن والغضب والخوف والتهيج والهبوط وغيرها، فكل حالة من هذه الحالات لها تأثيرها الخاص في المجموع العصبي وبجملته جهاز الحركة وقد دلت الخبرة على أن حالتي السرور والحزن وهما إجمالاً الحالتان الرئيستان اللتان تتفرغ عنهما معظم الحالات الأخرى لهما نتيجتان عكسيتان من حيث التأثير في أعضاء الجسم وأعراضهما متضادة فحالة السرور تزيد في الحركات الخارجية وتجعلها مبالغًا فيها أي أكثر من المعتاد وتقلل من الحركات الداخلية وتجعلها أقل من المعتاد [(2)] وأما حالة الحزن فإنها تؤدي إلى عكس ذلك أي أنها تجعل الحركات الخارجية أقل والداخلية أكثر من المألوف بمعنى أن حركة البسط تقل والقبض تزيد.
وأنه لما يوجب الحيرة معرفة العلة الأساسية لهذه الظواهر العضوية المتباينة فقد يسأل الإنسان نفسه لماذا تولد حالة السرور انتشارًا في عضلات الجسم وأعضائه وحالة الحزن والكآبة تولد فيه قبضًا وانكماشًا ؟ ولماذا لا يكون الأمر معكوسًا ؟ ولكن في اعتقادي أن هذا اللغز يسهل حله إذا كنا نسلم بصحة قانوني (الوراثة) و(النشوء والارتقاء) فإن هذه المظاهر المتباينة قد ورثناها عن جدتنا الأولى في عالم الأحياء وهي الخلية البسيطة منشأ الكائنات الحية وبجملتها الإنسان فهي صفات غريزية في الإنسان والحيوان من مبدأ خلقهما حتى الآن.
ولكن الاقتناع بذلك يقتضي منا تسليمًا بتوافر غريزة أودعها الله في نفس كل كائن حي منذ القدم وهي غريزة حب البقاء وأن جميع أعمال الإنسان والحيوان ومقاصده ترمي إلى هذه الغاية حتى أن الميل الجنسي وكل ما يتفرع عنه مرجعه إليها لأن القصد منه التناسل أي بقاء النوع، فغريزة حب البقاء قد يتولد عنها كثير من العوامل الفرعية التي ترمي إلى الغاية نفسها ومن بين هذه العوامل ميل الكائن الحي إلى السعي لتحصيل قوته ومن البديهي أن هذا السعي يتطلب منه البسط والانتشار بعكس عامل الخوف أو الفزع فإنه يدعوه إلى الانكماش والتقلص وهذه الظواهر التي تشاهد في الأحياء الراقية تشاهد كذلك في الأحياء الدنيئة حتى في أبسطها تركيبًا مثل الأميبا (Amoeba) [(3)] فبعمل التجارب على هذا الكائن الحي الدقيق بوضعه تحت عدسة المجهر (الميكروسكوب) يلاحظ أنه يتأثر بالمنبهات فإذا وخذ بسن حاد كسن الإبرة أو مس سطحه بسائل كاوٍ أو حريف أو سلط عليه تيار كهربائي شديد أو قرع بجسم صلب على اللوح الزجاجي الموضوع عليه الحيوان يتقلص وينكمش في الحال ويأخذ شكلاً كرويًا كمن يريد أن يجمع كل قواه المنتشرة ويلم شتات أطرافه في نقطة ارتكاز واحدة يتخذها مركزًا للدفاع أو لمواجهة الخطر المحدق به وبالعكس من ذلك إذا لامسه سائل مغذٍ فإنه ينبسط وتظهر أطرافه وتنتشر بقصد التهام العناصر المغذية التي بداخل ذلك السائل وهضمها ويسمى النوع الأول من المنبهات وهو الذي يدفع الخلية إلى التقلص أو التكور (بالمنبه المنفر)، والنوع الثاني الذي ينبهها إلى البسط والانتشار (بالمنبه الجذاب)، وهذه التجارب معروفة لكل باحث فزيولوجي وبيولوجي.
وقد تشاهد هذه الحالات بوضوح في بعض الحيوانات ذات الخلايا المتعددة ولو كانت من النوع المنحط كالديدان والحشرات والحيوانات ذات الأصداف والدروع الطبيعية كالمحار والقواقع فإنها بمجرد اللمس تتقلص وتنكمش أو تتكور أو تهرع إلى أصدافها ودروعها وبالعكس إذا صادفت ما تستطيبه أو تلتذ به فإنها تنفرد وتنتشر وتفتح أصدافها وتبرز منها.
وقد نفسر بهذا ما نسمعه أحيانًا ونعده من قبيل الأساطير والخرافات من أن زيدًا من الناس اجتذب إليه الوحوش بقيثارته أو الطيور بصفيره أو الثعابين بمزماره فإن السرور أو الطرب يجتذبها إلى مصدره في حين أنها تفر من الألم وتهرع إلى أوكارها وتنكمش فيها خوفًا ورعبًا.
وكما أن الكائنات الحية من أول الخلية البسيطة إلى أرقاها نوعًا وهو الإنسان يجذبها السرور إلى مصدره وينشرها وتنفر من الألم وتفر من وجهه كذلك عضلات الجسم وأنسجته وخلاياه خاضعة لنفس هذه المؤثرات فلو عرض سطح عضلة من العضلات لسائل حريف أو كاوٍ أو شديد البرودة أو الحرارة أوخذت بآلة مدببة أو سلط عليها تيار كهربائي قوي انكمشت العضلة وتقلصت حتى ولو بعد قطع (العصب المحرك) لكي لا يكون هناك شك في أن للفعل المنعكس دخلاً في تقلصها أما لو وضع عليها سائل مغذٍ لذيذ الطعم وعلى درجة من الحرارة معتدلة أو دلكت دلكًا لطيفًا انبسطت العضلة وانشرحت.
ولا أظن أني أكون مخطئًا إذا ما قلت إن كلمة (انبساط) التي يستعملها عامتنا للتعبير عن حالة السرور ما هي إلا كلمة بليغة المعنى منطبقة تمامًا على تلك الظاهرة الطبيعية التي أيدها العلم الصحيح حتى في أبسط الأحياء تركيبًا وأدقها حجمًا فلننظر كيف يفعل بنا السرور فإنه يحملنا على بسط أيدينا وأرجلنا وسائر أعضائنا وكثيرًا ما نشاهد الصبي عند الفرح يصفق بيديه مبسوطتين ويطوح برداء رأسه نحو السماء طربًا ويفتح شدقيه بالصياح والتهليل ولننظر كيف يفعل بنا الحزن أو الخوف من الانقباض والانكماش وتقلص العضلات.
أليست لكل منا خبرة بما يعتري الإنسان عند رؤية الأشباح المخيفة أو سماع الأصوات المزعجة أو لمس الأجسام الغريبة في الظلام من قشعريرة خاصة في البدن وانقباض في الجلد يقف معه الشعر أحيانًا وخفقان في القلب واضطراب في حركة التنفس وامتقاع في لون البشرة وبرودة في الأطراف وما ذلك إلا لكون رؤية الشبح المخيف وسماع الصوت المزعج ولمس الجسم الغريب كلها عوامل نفذت عن طريق الحواس (البصر أو السمع أو اللمس) إلى المخ فأيقظت فيه ذكرى مخيفة فتظهر في الحال آثار الانفعالات على الإنسان.
فإذا ما سلمنا بهذه النظرية التي تدل على صحتها وتؤيدها الشواهد الكثيرة في حياتنا اليومية أمكننا أن ندرك بدون صعوبة سر انكماش عضلات الجسم في حالة الخوف وانفرادها في حالة السرور فهي غريزة ورثناها عن جدتنا الخلية في بدء خلقها في العصور الأولى فحملتها إلينا سفينة الوراثة مع ما تزودته في مراحلها من ثمرات الأجيال الغابرة وهي تمخر عباب الدهر جريًا على سنة النشوء والارتقاء ولا زالت ممثلة في الخلايا الكثيرة التي تتألف منها مجموعة أجسامنا البشرية حتى الآن.
غير أن المؤثرات النفسية قد تكون مباشرة كوقوع حادث فجائي يصطدم بالحواس فينبه مركز الحركة من المجموع العصبي فتبدو آثار الانفعال الخاصة بكل حادث على حسب نوعه وقد يكون التنبيه بطريق غير مباشر بتنبيه مركز الحركة بواسطة الذاكرة أو المخيلة وعندئذٍ تظهر آثار الانفعال النفساني على أعضاء الحركة بنفس الصورة التي ألفها الإنسان واعتادها من قبل في مثل هذه الأحوال أو بعبارة أخرى أن الانفعالات قد يكون مصدر التنبيه فيها أما خارجيًا كأن يطرق عامل الخوف أو الحزن أو السرور أو الغضب باب الحواس فيوقظ مركز الحركة وهو يدفع الأعضاء إلى العمل وأما باطنيًا بأن يقع التنبيه على المركز العصبي للحركة من الداخل مباشرةً بوساطة عامل نفساني باطني كذكرى حادث مؤلم أو مخيف أو محزن أو سار فتظهر على الأعضاء نفس الأعراض الخاصة بكل عامل من هذه العوامل.
ولأجل تقريب ذلك من أذهان حضراتكم يمكن من قبيل الفرض تشبيه الحوادث بالتيارات الكهربائية وتشبيه الأعصاب بالأسلاك الموصلة للتيار ومركز الحركة سواء كان من المراكز الواقعة في المخ أو في الحبل الشوكي بالمحرك (الدينامو) والحافظة بوعاء تخزين فيه السيالات الكهربائية للحوادث عند وقوعها كما تحفظ القوى الكهربائية في البطاريات المعروفة بالمكثفات، فإذا وقع حادث ما واصطدم بإحدى الحواس الخمس كحاسة اللمس مثلاً التي تكون بمثابة أحد قصبي الاتصال فيمر السيال الكهربائي (بأعصاب الحس) ومنها إلى مركز الحركة (الدينامو) فيتنبه المركز المذكور ويقوم بأداء وظيفته وهي تحريك الأعضاء المسلط عليها ذلك المركز ويدفعها إلى الحركة بواسطة الأعصاب المحركة.
فإن كان الحادث مزعجًا أو منفرًا قامت الأعضاء المخصصة للدفاع عن الجسم بواجبها وإن كان جذابًا أو محرضًا تولدت فيها الحركات الخاصة بالتعدي أو الهجوم وإن كان سارًا بدت على الكائن الحي علامات السرور والانشراح وإن كان محزنًا بدت عليه آثار الكآبة والانقباض وهلم جرا.
ولكن مثل هذه الحوادث لا تمر عادةً من غير أن تترك صورة خالدة من الذاكرة وهي حكمة أودعها الخالق سبحانه وتعالى في نفس المخلوق لكي يتخذ له منها عبرة وموعظة ولكي تكسبه في مستقبل حياته خبرة تقيه شر الوقوع في الخطأ أو الاندفاع إلى مواضع الخطر مرة أخرى، فإذا ما لمس الطفل النار مرة ولذعته رسخت هذه الذكرى المؤلمة في ذهنه لكي لا يلمس النار مرة أخرى فإذا وقع بصره عليها ثانيًا ولو عن بعد تنبهت لديه ذكرى الألم بل ربما تقلصت عضلات جسمه في موضعه فلا يقربها ولعل الكثير منا لاحظ كيف تتقلص عضلات المعدة ويعترينا تهوع وغثيان وقد يعقبهما قيء أحيانًا بمجرد وقوع بصرنا على دواء أو شراب علمنا بالخبرة أنه كريه الطعم أو الرائحة بل ربما كان مجرد تذكرة كافٍ لدى البعض منا لإحداث هذه الأعراض.
فمما تقدم يتبين لنا كيف أن صور الحوادث تحفظ في المخ وفوق ذلك فإن الشواهد كلها تؤيد أنها لا تحفظ فيه فقط لمجرد الحفظ بل تحفظ فيه بترتيب ونظام كما لو كان لكل نوع منها مستودع خاص به يشحن بجانب من السيال الكهربائي لكل حادث حال مروره بالأعصاب واشتغال المحرك وذلك حتى يسهل الرجوع إليها إذا دعت الحاجة إلى الحكم على أمر من الأمور عن طريق الموازنة أو القياس.
فإذا أوقظ في الذهن نوع من الحوادث اندفع السيال الكهربائي من المستودع الخاص بذلك النوع إلى مركز الحركة فيقوم هذا بتنبيه أعضاء الحركة الخاضعة له وهذا ما يعبر عنه بحسب الاصطلاح العلمي أو الفني بالدافع الذاتي.
إنما لا يفهم من ذلك أن هناك اتصالاً دائمًا بين مستودعات الحوادث وبين المحرك لكي لا يكون التنبيه واقعًا باستمرار على مركز الحركة بل هذا الاتصال مقطوع كما لو كان في طريق الأعصاب الموصلة بينهما زر كهربائي قاطع للتيار لا يتصل إلا إذا عمدت يد عامل من العوامل المنبهة إلى وصله حتى لا يتحمل الإنسان في حياته أوجاع مصائبه الماضية بغير ضرورة أو مقتضٍ ولا ينوء تحت عبء ما يحمله في ذاكرته من مجموعة آلامه وأوصابه التي انتابته في ماضي حياته.
فإذا ما ضغطت يد العامل المنبه على (زر) الاتصال اتصل التيار وانطلق من المستودع بعض الشحنة إلى مركز الحركة وعندئذٍ تتكرر الانفعالات الخاصة بهذا النوع من الحوادث في صورة قد تكون مخففة نوعًا مما لو كان الحادث محققًا أو حالاً كما لو كانت المكثفات فقدت بمرور الزمن جزءًا من قوة كهربائيتها.
وإني لا أبغي أن أبتعد بالقارئ كثيرًا عن جوهر الموضوع وهو ما للانفعالات النفسية من الارتباط بالجرائم فلم يحملني على هذا الإسهاب الذي أخشى أن يكون مملاً إلا الرغبة في تعليل آثار تلك الانفعالات وردها إلى أسبابها الطبيعية حتى يمكننا فهمها علميًا والاستفادة منها عمليًا ولكني قبل أن أنتقل إلى جوهر الموضوع أريد أن أدفع مقدمًا اعتراضًا طالما سمعته من الكثيرين وهو أن المجرم الماهر المدرب الذي ماتت من قلبه كل عاطفة قد يستطيع استخدام كل ما أوتي من قوة إرادة وعزم في أن يخفي عواطفه فلا تبدو عليه آثار الانفعال.
أجل قد يكون من الهين عليه أن يخفي الآثار الظاهرة لحركاته وإشاراته الخارجية أو يلطف كثيرًا من حدتها بحيث لا تبدو محسوسة كما أنه ليس من المحتم أن يبكي المرء عند الحزن أو يضحك عند السرور ولكن ليست الأعين والشفاه والأيدي والأرجل هي التي تشهد علينا دون غيرها فإن هذه التزمت الصمت وقويت على الكتمان فهناك أعضاء أخرى لا سلطان لإرادتنا عليها قد تكشف الستار بالرغم منا عن الرواية التي تمثل في مسرح المخيلة وتنم عن تفاصيل المعركة التي تدور رحاها في ميدان الضمير، وكيفية ذلك أن في الجسم نوعين من الأعضاء من حيث الحركة فالنوع الأول تتألف منه الأعضاء ذات الحركة الإرادية أي الخاضعة في حركاتها لمركز الإرادة في المخ كالأيدي والأرجل والشفاه والجفون والعيون وغيرها من سائر الأعضاء التي يمكننا تحريكها أو إيقاف حركتها كلما أردنا، والنوع الثاني يتألف من الأعضاء ذات الحركة غير الإرادية كعضلات القلب والعضلات المبطنة لجدران الأوعية الدموية والعضلات والأنسجة الأخرى لبعض الأحشاء الصدرية والبطنية والحوضية وكذلك غدد العرق والدمع واللعاب وغيرها من الغدد ذات الإفرازات المختلفة.
فالنوع الأول من الأعضاء خاضع في حركته لجهاز عصبي يختلف في نوعه عن الجهاز العصبي للأعضاء ذات الحركة غير الإرادية ويسمى الأول (بالجهاز العصبي الإرادي)، والثاني (بالجهاز العصبي الذاتي) والأول مراكزه العصبية خاضعة لمركز الإرادة في المخ، والثاني مراكزه العصبية بعيدة عن مركز الإرادة مقطوع الاتصال به ومعظم هذا الجهاز الأخير مؤلف من سلسلة عقد عصبية على جانبي العمود الفقري ومعروفة باسم العظيم السنبتوى وبعض عقد أخرى كائنة في الدماغ والبعض الآخر في جدران نفس الأعضاء المسلطة عليها هذه المراكز كما في القلب.
فالفرق بين هذين الجهازين جلي واضح من حيث التأثير في حركات الأعضاء فإن كان في وسعنا أن نمنع أيدينا وأرجلنا عن الحركة أو إبداء أي إشارة تنم عما نبطن في نفوسنا فمن الذي يستطيع منا أن يغير بإرادته دقات قلبه وسرعة نبضه ودرجة امتلائه وقوة ضغط دمه وكمية إفراز غدة من غدد جسمه أو حركات أمعائه وأحشائه الباطنية أو درجة حرارة جسمه ؟ فإذا كان ليس في وسعنا ذلك وعلمنا بالتجربة والمشاهدات الدقيقة أن لكل انفعال نفساني آثارًا خاصة به ومميزات تسجلها علينا أعضاؤنا المتمتعة بالحركة الذاتية كما يسجل الترمومتر والبارومتر درجات الحرارة والرطوبة وأمر أمهر ممثلي العالم مهما بلغ من الدربة والحنكة لا يقوى على سترها وإخفائها.
فإذا ما تقرر ذلك ألسنا نجني من وراء دراسة هذه الآثار وكشفها أجل فائدة عملية وأنه بقدر ما يوجد لدينا من الآلات المتقنة الصنع التي بها يمكننا رصد حركات الأعضاء الباطنية بدقة بقدر ما يسهل علينا كشف ما يجول بخاطر المتهم الموضوع تحت الاختبار واستخراج مكنون أسراره، وأن آلات كهذه يكون مثلها كمثل المجهر الذي يكشف لنا أنواع الجراثيم ودقائق الأنسجة المختلفة للجسم في تشخيص الحالات المرضية.
مجلة المحاماة - العدد الثاني
السنة السادسة - عدد نوفمبر
علم النفس الشرعي وآثار الانفعالات النفسية [(1)]
في عام سنة 1914 وقع حادث شروع في قتل في إحدى القرى التابعة لمركز السنبلاوين وملخصه أن شخصًا من الأهالي أُطلق عليه عيار ناري من يد مجهول حال خروجه من القرية قاصدًا غيطه وكان الوقت قبيل العشاء، وقد أُطلق العيار من مزرعة على جانب الطريق فأصيب المجني عليه في ساعده الأيسر ولما كنت وكيلاً لنيابة ذلك المركز وقتئذٍ قد قمت للتحقيق وفي خلاله حامت الشبهة حول شخص كان خطيبًا لزوجة المجني عليه ولكن والدها أبى أن يزوجها منه لسوء سلوكه وزوجها من المجني عليه.
أخذت في البحث عن هذا المتهم فوجدته في مكان يبعد عن مكان الحادث بمسيرة ربع ساعة وهو يروي زراعة كان معينًا خفيرًا عليها وكان بيده عصاه وقد شهد اثنان من أهالي القرية بأنهما رأياه عقب سماعهما العيار يسير على شاطئ الترعة متجهًا نحو المزرعة التي وجد فيها وكان مجدًا في السير قليلاً وبيده تلك العصا ولما كان المتهم خفيرًا خاصًا لزراعة بعض الأعيان ومرخصًا له بحمل السلاح فقد سئل بطبيعة الحال عن سلاحه فادعى فقده من عشرين يومًا غير أن الشهود شهدوا بأنهم رأوه يحملها قبل الحادث بيوم واحد ولكن نتيجة التحقيق لم تتقدم بعد ذلك خطوة في حين أن ما وصلت إليه من الأدلة لم يكن سوى مجرد شبهات لا تكفي لإدانة المتهم قانونًا غير أنها كونت عندي شبه عقيدة بأنه هو الفاعل ولذلك حصرت اهتمامي في البحث عن السلاح لأن ذلك هو الطريق الوحيد المفتوح أمامي للبحث، وبعد قليل من التأمل لاح لي أن السلاح لم يخبأ في القرية وأن البحث عنه فيها عقيم ولا بد أنه يكون خارجها لأن المتهم لم يكن لديه من الوقت ما يكفي للعودة إليها بعد الحادث كما هو ظاهر من الوقائع المتقدمة وبطبيعة الحال أرجأت التفتيش إلى الصباح لأن البحث عن السلاح في وسط المزارع والغيطان ليلاً ضرب من العبث فوضعت الحرس الكافي حول تلك المزارع لكي لا يقربها أحد.
ولما طلع النهار خرجت لإجراء البحث والتفتيش وبصحبتي المتهم كعادتي عند كل تفتيش لعلى أستفيد مما قد يبدو عليه من التأثيرات النفسانية حال إجراء البحث إذ كان ذلك يساعدني أحيانًا في الوصول إلى غايتي ولكني بمجرد أن خرجت من القرية وقفت برهة حائرًا لأني وجدت أمامي ميدانًا للتفتيش متسع الأرجاء مترامي الأطراف، وأني لي أن اهتدي إلى المكان الذي خبأ المتهم سلاحه فيه، وأن التفتيش في الخلاء يتطلب عناءً شديدًا ومجهودًا عظيمًا قد يستغرق كل نهاري ولا أصل إلى نتيجة ما، وبينما أنا مسترسل في أفكاري وحيرتي إذ تذكرت في الحال بعض تجارب العلامة منستربرج بشأن ضربات القلب وتأثير الانفعالات النفسانية فيها فوضعت يدي في يد المتهم وبينما كنت متمسكًا بمعصمه وضعت إبهامي خلسة على الشريان الكعبري (وهو الذي يجس منه الأطباء النبض عادةً) وبعد أن تملكت موضع النبض منه جيدًا وأصبحت دقات قلبه تحت إشرافي ومراقبتي ألقيت عليه عدة أسئلة متتابعة بشأن محل إخفاء السلاح وعددت له الأمكنة التي يحتمل أن يكون أخفاه فيها، فذكرت له بعض المزارع ثم ساقيته الخاصة ثم الترعة فالقناة فالمصرف وهكذا فلاحظت أن النبض عند ذكر المصرف كان يشتد ويسرع كثيرًا وإذا ما حولت الكلام عنه إلى أماكن أخرى كان النبض يهدأ ويكاد يعود إلى حالته الطبيعية وهكذا كلما ذكرت له المصرف يعود النبض فيقوى ويسرع وكان أثر الانفعال محسوسًا لدرجة أثارت دهشتي وكانت دقات قلبه قوية واضحة حتى خيل إلى أني أسمعها من صدره فترجح لدى أن المتهم ألقى سلاحه في ذلك المصرف ولكنه مصرف عميق متسع العرض ممتد الطول والبحث فيه شاق فضلاً عن أنه يستلزم مهارة في الغوص، ففي أي مكان منه ألقى المتهم سلاحه ؟ أن هذه لمعضلة ثانية، ولكن بعد أن قدحت زناد الفكر قليلاً أمكنني تعيين ذلك المكان وتحديده بوجه التقريب والفضل في هذا راجع إلى العصا التي كانت بيد المتهم فهي التي أشارت لي عليه ودلتني إلى موضعه، وتفسير ذلك أن للمتهم ساقية خاصة على مقربة من المصرف وقد اعتاد أن يترك عصاه فيها حينما كان يحمل بندقيته في أثناء الحراسة كما علمت ذلك اتفاقًا في أثناء التحقيق فالعصا كانت إذن عند ساقيته وقت ارتكابه الجريمة ولم تكن معه بطبيعة الحال لأنه كان يحمل سلاحه وبعد أن أطلق العيار فر هاربًا نحو الساقية وتناول عصاه منها كما هو ظاهر من وجودها معه عند ضبطه ولما كانت الساقية ملكه الخاص فهو لا يخاطر بإلقاء سلاحه فيها وإنما أول شيء يتبادر إلى ذهنه هو المصرف لقربه وصعوبة انتشال البندقية منه نظرًا لعمقه ولما كان الجاني شديد الرغبة عادةً في التخلص من سلاحه بأسرع ما يمكن فإن أقرب مكان من المصرف إليه وهو الواقع تجاه الساقية هو المكان الذي يتبادر إلى الذهن أنه ألقى سلاحه فيه حتى يصبح حرًا طليقًا من الدليل الخطير الذي يحمله بين يديه، وعلى أثر مرور هذه الخواطر ملت إلى مأمور المركز وعينت له المكان الذي يجب البحث فيه أولاً ولكن المتهم عند ما رأى الرجال المكلفين بهذا البحث متجهين نحو ذلك المكان بدت على وجهه دلائل الارتباك والحيرة وشحب لونه وجف لعابه ولكي يداري اضطرابه وقتئذٍ ويظهر عدم اكتراثه بما يجري حوله أخذ يولي وجهه شطر موضع آخر ويحوله عن مكان البحث من المصرف ولكن بالرغم من كونه أدار وجهه فإن كرتي عينيه كانتا لا تزالان في اتجاه نفس ذلك المكان فازداد اعتقادي بوجود السلاح فيه وقوى أملي في الحصول عليه وبالفعل لم تمضِ خمس دقائق في البحث حتى انتشلت البندقية من قاع المصرف.
إن هذه المشاهدة البسيطة أثارت اهتمامي بعلم النفس التجاربي وزادتني إيمانًا بجليل قدره ويقينًا بجزيل نفعه حيث رأيتني أجني ثمار تجربة من أسهل التجارب بغير الاستعانة بأي آلة أو جهاز خاص فلم أشأ أن أتركها تمر بدون أن يكون لها أثر رسمي ثابت فسجلتها في محضري الذي أخذت به محكمة الجنايات فيما بعد واعتمدت عليه في إدانة المتهم وكنت من ذلك الحين أجد لذة مضاعفة وشوقًا عظيمًا في مطالعة ما كتبه علماء النفس في هذا الصدد وتطبيق ما أقف عليه من المعلومات في الحياة العملية.
وأني لكي لا استأثر بهذه اللذة وحدي رأيت أن أنقل إلى حضرات زملائي رجال القانون وغيرهم من قراء المجلة بعض تلك المعلومات التي على ضآلتها أرجو أن لا تخلو من بعض الفائدة والنفع وإن لم يكن فيها أكثر من إلفات أنظارهم إلى أهمية هذا العلم الجليل وتوجيه عنايتهم إليه لكفى.
علم النفس والجريمة
وأني قبل أن ألج باب الموضوع بالذات أنتهز هذه الفرصة السانحة لإسداء واجب الشكر إلى مجلة المحاماة الغراء التي أفسحت لمقالي صدرًا رحبًا على صفحاتها والفضل في ذلك راجع إلى رئيس تحريرها وعمادها المكين حضرة زميلي الفاضل عزيز خانكي بك فإن غيرته على القانون والعلم من أقوى العوامل التي شجعتني على نشره إذ أنه بمجرد أن علم بأني ألقيت في أول هذا العام محاضرة بهذا المعنى في نادي الحقوق طلب مني أن أبعث إليه بنصها لنشرها ولكن لما يكن لدي وقتئذٍ منها سوى مذكرة صغيرة برؤوس مواضيع لا تفي بالمرام وكان ضيق وقتي يحول دون وضعها في شكل محاضرة مكتوبة فلم استطع أن أوافيه بما طلب ولذلك فإني أعتذر لحضرته ولحضرات قراء المجلة عن هذا التأخير ولما كانت ثمرات العلم لا يتوقف جنيها على أوان أو مكان فإني أبر له الآن بوعدي واستعيض عن المحاضرة بهذا المقال الذي جعلته في مضمونه قريبًا منها بقدر ما تعي الذاكرة وحتى بذلك أكون قد قمت من جهة أخرى ببعض الواجب نحو إخواني الذين وقع تقصير في دعوتهم أو الذين تعذر عليهم سماعها لضيق المكان ولهذا فإني جعلت موضوع هذا المقال قاصرًا على (آثار الانفعالات النفسانية) التي كانت موضوع المحاضرة كما أنه ليس من المستطاع التكلم عن علم النفس والجريمة أو بعبارة أخرى (البسيكوجيا الشرعية) بصفة عامة في رسالة صغيرة كهذه من غير أن تبدو مخلة بعيدة عن الغرض المقصود لأن علمًا واسعًا متشبعًا كهذا لا يمكن حصره في مقال أو مقالين بل يتطلب سلسلة مقالات لا حد لها ولا حصر إذ أن ارتباط علم النفس بالقانون يشمل موضوعات شتى كدرس عقلية المجرم والأسباب التي يتولد عنها الميل للإجرام والعوامل التي تدفع الشخص إلى ارتكاب الجريمة وطرق الوقاية منها ومعالجة الأمراض والأدواء الخلقية وأساليب منع الجرائم والوسائل المؤدية إلى اكتشافها عند وقوعها والبحث في نفسية الشهود وذاكرتهم وانخداع حواسهم والتأثير بالإيجاد أو بالتنويم المغناطيسي والاعترافات الكاذبة وهلم جرا.
وإني وإن كنت اخترت من بينها موضوع (آثار الانفعالات النفسية) أولاً فما ذلك إلا لكونه على جانب من السهولة كما أنه لا يخلو من تسلية ولذة قد تنبه شوق القارئ إلى متابعة البحث والاطلاع.
تعريف علم النفس
قبل أن أبدأ الكلام على الانفعالات النفسية بوجه خاص أرى المقام يتطلب كلمة موجزة عن علم النفس بوجه عام، فعلم النفس وترجمته باللغة الإنجليزية (Psychologty)، وهي كلمة مركبة من عنصرين يونانيين (Psyche)، ومعناها اكسير الحياة أو الروح و (Logy)ومعناها علم وهي مشتقة من كلمة (Logos) وترجمتها بالعربية (لغة).
فعلم النفس كان معروفًا قديمًا بأنه العلم الذي يبحث في ماهية الروح ومظاهرها المختلفة إلا أنه كان معدودًا من علوم الفلسفة النظرية وكانت قواعده ونظرياته المرجع فيها إلى الحدس والتخمين فلم يكن معروفًا كعلم طبيعي بالمعنى المعروف الآن.
أما اليوم فإن علم النفس الحديث الذي بدأت نهضته العلمية من عهد قريب لا يتجاوز نصف قرن قد أصبح معدودًا من العلوم الطبيعية كعلوم الفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) والبيولوجيا (علم الحياة) والامبريولوجيا (علم تكوين الأجنة)، والبكتريولوجيا (علم المكروبات) والكيمياء والطبيعة وغيرها من العلوم الطبيعية المؤسسة على قواعد إيجابية صحيحة، وأني لأميل إلى اعتبار علم النفس فرعًا خاصًا مشتقًا من علم الفزيولوجيا وسواء كان رأيي هذا خطأ أو صوابًا فإنه مما لا جدال فيه أن لعلم النفس ارتباطًا شديدًا بفزيولوجيا المجموع العصبي وهو المركب من الأجهزة الرئيسية الثلاثة، الحس والإدراك والحركة في حين أن علم النفس يبحث في وظائف هذه الأجهزة بعينها وتعليل مظاهرها المختلفة كعلم الفزيولوجيا سواء بسواء.
فمما تقدم يمكننا أن نستخلص النتيجة الآتية وهي أن علم النفس القديم يصح تعريفه بأنه (علم دراسة الروح)، وعلم النفس الحديث (بعلم دراسة العقل)، ودراسة العقل تستدعي بطبيعة الحال دراسة الحس والإدراك والحركة بجميع مشتملاتها وفروعها كالرغبة والمعرفة والتعليل والقصد والتصميم والإرادة والتصور والتمييز وما شاكل ذلك.
فبعد أن كانت الظواهر الفكرية تفسر قديمًا تفسيرًا نظريًا بحتًا أو فلسفيًا أصبحت الآن تفسر تفسيرًا علميًا مؤسسًا على التجارب والمشاهدات الصحيحة المؤيدة بالحس والدليل المادي الملموس وأن الإنسان كما يستطيع أن يحلل مركبًا من المركبات الكيميائية كذلك يستطيع الآن بوسائل فنية مماثلة أن يحلل المظاهر العقلية وكما نجد أن معمل الفزيولوجي أو العالم الطبيعي أو الكيميائي عبارة عن معرض من الأنابيب والمعوجات والأحواض والبطاريات الكهربائية والأسلاك المتشابكة وغيرها من مختلف العدد والآلات كذلك نجد معمل الباحث النفساني في وقتنا الحاضر، وقد قطع علم النفس العملي أو التجاربي مرحلة واسعة في سبيل التقدم وبالأخص في ألمانيا والنمسا والولايات المتحدة وكندا.
ومتى علمنا أن علم النفس أصبح علمًا طبيعيًا اطمأنت نفوسنا إلى الأخذ به في التحقيقات الجنائية بنفس الطمأنينة التي تأخذ بها التقارير الطبية الشرعية لأن كلاً منها المرجع فيه إلى المشاهدة والخبرة الفنية المشفوعة بالمستند العلمي، كذلك يمكننا استخدام علم النفس كوسيلة لاكتشاف الجرائم أو منعها أي أنه يمكن الانتفاع به كعلاج ووقاية معًا.
آثار الانفعالات النفسية
عرفنا مما تقدم ما هو علم النفس الحديث ومركزه بين العلوم الطبيعية الأخرى وأصبحت لدينا الآن فكرة عامة من جهته فلنتكلم الآن عن آثار الانفعالات النفسية بوجه خاص وهي موضوع مقالنا الحالي.
فآثار الانفعالات النفسية يمكن تعريفها بأنها هي الأعراض التي تبدو على الأعضاء الظاهرة أو الباطنة للشخص بسبب عامل من العوامل التي تؤثر في تلك الأعضاء تأثيرًا خاصًا كالسرور والحزن والغضب والخوف والتهيج والهبوط وغيرها، فكل حالة من هذه الحالات لها تأثيرها الخاص في المجموع العصبي وبجملته جهاز الحركة وقد دلت الخبرة على أن حالتي السرور والحزن وهما إجمالاً الحالتان الرئيستان اللتان تتفرغ عنهما معظم الحالات الأخرى لهما نتيجتان عكسيتان من حيث التأثير في أعضاء الجسم وأعراضهما متضادة فحالة السرور تزيد في الحركات الخارجية وتجعلها مبالغًا فيها أي أكثر من المعتاد وتقلل من الحركات الداخلية وتجعلها أقل من المعتاد [(2)] وأما حالة الحزن فإنها تؤدي إلى عكس ذلك أي أنها تجعل الحركات الخارجية أقل والداخلية أكثر من المألوف بمعنى أن حركة البسط تقل والقبض تزيد.
وأنه لما يوجب الحيرة معرفة العلة الأساسية لهذه الظواهر العضوية المتباينة فقد يسأل الإنسان نفسه لماذا تولد حالة السرور انتشارًا في عضلات الجسم وأعضائه وحالة الحزن والكآبة تولد فيه قبضًا وانكماشًا ؟ ولماذا لا يكون الأمر معكوسًا ؟ ولكن في اعتقادي أن هذا اللغز يسهل حله إذا كنا نسلم بصحة قانوني (الوراثة) و(النشوء والارتقاء) فإن هذه المظاهر المتباينة قد ورثناها عن جدتنا الأولى في عالم الأحياء وهي الخلية البسيطة منشأ الكائنات الحية وبجملتها الإنسان فهي صفات غريزية في الإنسان والحيوان من مبدأ خلقهما حتى الآن.
ولكن الاقتناع بذلك يقتضي منا تسليمًا بتوافر غريزة أودعها الله في نفس كل كائن حي منذ القدم وهي غريزة حب البقاء وأن جميع أعمال الإنسان والحيوان ومقاصده ترمي إلى هذه الغاية حتى أن الميل الجنسي وكل ما يتفرع عنه مرجعه إليها لأن القصد منه التناسل أي بقاء النوع، فغريزة حب البقاء قد يتولد عنها كثير من العوامل الفرعية التي ترمي إلى الغاية نفسها ومن بين هذه العوامل ميل الكائن الحي إلى السعي لتحصيل قوته ومن البديهي أن هذا السعي يتطلب منه البسط والانتشار بعكس عامل الخوف أو الفزع فإنه يدعوه إلى الانكماش والتقلص وهذه الظواهر التي تشاهد في الأحياء الراقية تشاهد كذلك في الأحياء الدنيئة حتى في أبسطها تركيبًا مثل الأميبا (Amoeba) [(3)] فبعمل التجارب على هذا الكائن الحي الدقيق بوضعه تحت عدسة المجهر (الميكروسكوب) يلاحظ أنه يتأثر بالمنبهات فإذا وخذ بسن حاد كسن الإبرة أو مس سطحه بسائل كاوٍ أو حريف أو سلط عليه تيار كهربائي شديد أو قرع بجسم صلب على اللوح الزجاجي الموضوع عليه الحيوان يتقلص وينكمش في الحال ويأخذ شكلاً كرويًا كمن يريد أن يجمع كل قواه المنتشرة ويلم شتات أطرافه في نقطة ارتكاز واحدة يتخذها مركزًا للدفاع أو لمواجهة الخطر المحدق به وبالعكس من ذلك إذا لامسه سائل مغذٍ فإنه ينبسط وتظهر أطرافه وتنتشر بقصد التهام العناصر المغذية التي بداخل ذلك السائل وهضمها ويسمى النوع الأول من المنبهات وهو الذي يدفع الخلية إلى التقلص أو التكور (بالمنبه المنفر)، والنوع الثاني الذي ينبهها إلى البسط والانتشار (بالمنبه الجذاب)، وهذه التجارب معروفة لكل باحث فزيولوجي وبيولوجي.
وقد تشاهد هذه الحالات بوضوح في بعض الحيوانات ذات الخلايا المتعددة ولو كانت من النوع المنحط كالديدان والحشرات والحيوانات ذات الأصداف والدروع الطبيعية كالمحار والقواقع فإنها بمجرد اللمس تتقلص وتنكمش أو تتكور أو تهرع إلى أصدافها ودروعها وبالعكس إذا صادفت ما تستطيبه أو تلتذ به فإنها تنفرد وتنتشر وتفتح أصدافها وتبرز منها.
وقد نفسر بهذا ما نسمعه أحيانًا ونعده من قبيل الأساطير والخرافات من أن زيدًا من الناس اجتذب إليه الوحوش بقيثارته أو الطيور بصفيره أو الثعابين بمزماره فإن السرور أو الطرب يجتذبها إلى مصدره في حين أنها تفر من الألم وتهرع إلى أوكارها وتنكمش فيها خوفًا ورعبًا.
وكما أن الكائنات الحية من أول الخلية البسيطة إلى أرقاها نوعًا وهو الإنسان يجذبها السرور إلى مصدره وينشرها وتنفر من الألم وتفر من وجهه كذلك عضلات الجسم وأنسجته وخلاياه خاضعة لنفس هذه المؤثرات فلو عرض سطح عضلة من العضلات لسائل حريف أو كاوٍ أو شديد البرودة أو الحرارة أوخذت بآلة مدببة أو سلط عليها تيار كهربائي قوي انكمشت العضلة وتقلصت حتى ولو بعد قطع (العصب المحرك) لكي لا يكون هناك شك في أن للفعل المنعكس دخلاً في تقلصها أما لو وضع عليها سائل مغذٍ لذيذ الطعم وعلى درجة من الحرارة معتدلة أو دلكت دلكًا لطيفًا انبسطت العضلة وانشرحت.
ولا أظن أني أكون مخطئًا إذا ما قلت إن كلمة (انبساط) التي يستعملها عامتنا للتعبير عن حالة السرور ما هي إلا كلمة بليغة المعنى منطبقة تمامًا على تلك الظاهرة الطبيعية التي أيدها العلم الصحيح حتى في أبسط الأحياء تركيبًا وأدقها حجمًا فلننظر كيف يفعل بنا السرور فإنه يحملنا على بسط أيدينا وأرجلنا وسائر أعضائنا وكثيرًا ما نشاهد الصبي عند الفرح يصفق بيديه مبسوطتين ويطوح برداء رأسه نحو السماء طربًا ويفتح شدقيه بالصياح والتهليل ولننظر كيف يفعل بنا الحزن أو الخوف من الانقباض والانكماش وتقلص العضلات.
أليست لكل منا خبرة بما يعتري الإنسان عند رؤية الأشباح المخيفة أو سماع الأصوات المزعجة أو لمس الأجسام الغريبة في الظلام من قشعريرة خاصة في البدن وانقباض في الجلد يقف معه الشعر أحيانًا وخفقان في القلب واضطراب في حركة التنفس وامتقاع في لون البشرة وبرودة في الأطراف وما ذلك إلا لكون رؤية الشبح المخيف وسماع الصوت المزعج ولمس الجسم الغريب كلها عوامل نفذت عن طريق الحواس (البصر أو السمع أو اللمس) إلى المخ فأيقظت فيه ذكرى مخيفة فتظهر في الحال آثار الانفعالات على الإنسان.
فإذا ما سلمنا بهذه النظرية التي تدل على صحتها وتؤيدها الشواهد الكثيرة في حياتنا اليومية أمكننا أن ندرك بدون صعوبة سر انكماش عضلات الجسم في حالة الخوف وانفرادها في حالة السرور فهي غريزة ورثناها عن جدتنا الخلية في بدء خلقها في العصور الأولى فحملتها إلينا سفينة الوراثة مع ما تزودته في مراحلها من ثمرات الأجيال الغابرة وهي تمخر عباب الدهر جريًا على سنة النشوء والارتقاء ولا زالت ممثلة في الخلايا الكثيرة التي تتألف منها مجموعة أجسامنا البشرية حتى الآن.
غير أن المؤثرات النفسية قد تكون مباشرة كوقوع حادث فجائي يصطدم بالحواس فينبه مركز الحركة من المجموع العصبي فتبدو آثار الانفعال الخاصة بكل حادث على حسب نوعه وقد يكون التنبيه بطريق غير مباشر بتنبيه مركز الحركة بواسطة الذاكرة أو المخيلة وعندئذٍ تظهر آثار الانفعال النفساني على أعضاء الحركة بنفس الصورة التي ألفها الإنسان واعتادها من قبل في مثل هذه الأحوال أو بعبارة أخرى أن الانفعالات قد يكون مصدر التنبيه فيها أما خارجيًا كأن يطرق عامل الخوف أو الحزن أو السرور أو الغضب باب الحواس فيوقظ مركز الحركة وهو يدفع الأعضاء إلى العمل وأما باطنيًا بأن يقع التنبيه على المركز العصبي للحركة من الداخل مباشرةً بوساطة عامل نفساني باطني كذكرى حادث مؤلم أو مخيف أو محزن أو سار فتظهر على الأعضاء نفس الأعراض الخاصة بكل عامل من هذه العوامل.
ولأجل تقريب ذلك من أذهان حضراتكم يمكن من قبيل الفرض تشبيه الحوادث بالتيارات الكهربائية وتشبيه الأعصاب بالأسلاك الموصلة للتيار ومركز الحركة سواء كان من المراكز الواقعة في المخ أو في الحبل الشوكي بالمحرك (الدينامو) والحافظة بوعاء تخزين فيه السيالات الكهربائية للحوادث عند وقوعها كما تحفظ القوى الكهربائية في البطاريات المعروفة بالمكثفات، فإذا وقع حادث ما واصطدم بإحدى الحواس الخمس كحاسة اللمس مثلاً التي تكون بمثابة أحد قصبي الاتصال فيمر السيال الكهربائي (بأعصاب الحس) ومنها إلى مركز الحركة (الدينامو) فيتنبه المركز المذكور ويقوم بأداء وظيفته وهي تحريك الأعضاء المسلط عليها ذلك المركز ويدفعها إلى الحركة بواسطة الأعصاب المحركة.
فإن كان الحادث مزعجًا أو منفرًا قامت الأعضاء المخصصة للدفاع عن الجسم بواجبها وإن كان جذابًا أو محرضًا تولدت فيها الحركات الخاصة بالتعدي أو الهجوم وإن كان سارًا بدت على الكائن الحي علامات السرور والانشراح وإن كان محزنًا بدت عليه آثار الكآبة والانقباض وهلم جرا.
ولكن مثل هذه الحوادث لا تمر عادةً من غير أن تترك صورة خالدة من الذاكرة وهي حكمة أودعها الخالق سبحانه وتعالى في نفس المخلوق لكي يتخذ له منها عبرة وموعظة ولكي تكسبه في مستقبل حياته خبرة تقيه شر الوقوع في الخطأ أو الاندفاع إلى مواضع الخطر مرة أخرى، فإذا ما لمس الطفل النار مرة ولذعته رسخت هذه الذكرى المؤلمة في ذهنه لكي لا يلمس النار مرة أخرى فإذا وقع بصره عليها ثانيًا ولو عن بعد تنبهت لديه ذكرى الألم بل ربما تقلصت عضلات جسمه في موضعه فلا يقربها ولعل الكثير منا لاحظ كيف تتقلص عضلات المعدة ويعترينا تهوع وغثيان وقد يعقبهما قيء أحيانًا بمجرد وقوع بصرنا على دواء أو شراب علمنا بالخبرة أنه كريه الطعم أو الرائحة بل ربما كان مجرد تذكرة كافٍ لدى البعض منا لإحداث هذه الأعراض.
فمما تقدم يتبين لنا كيف أن صور الحوادث تحفظ في المخ وفوق ذلك فإن الشواهد كلها تؤيد أنها لا تحفظ فيه فقط لمجرد الحفظ بل تحفظ فيه بترتيب ونظام كما لو كان لكل نوع منها مستودع خاص به يشحن بجانب من السيال الكهربائي لكل حادث حال مروره بالأعصاب واشتغال المحرك وذلك حتى يسهل الرجوع إليها إذا دعت الحاجة إلى الحكم على أمر من الأمور عن طريق الموازنة أو القياس.
فإذا أوقظ في الذهن نوع من الحوادث اندفع السيال الكهربائي من المستودع الخاص بذلك النوع إلى مركز الحركة فيقوم هذا بتنبيه أعضاء الحركة الخاضعة له وهذا ما يعبر عنه بحسب الاصطلاح العلمي أو الفني بالدافع الذاتي.
إنما لا يفهم من ذلك أن هناك اتصالاً دائمًا بين مستودعات الحوادث وبين المحرك لكي لا يكون التنبيه واقعًا باستمرار على مركز الحركة بل هذا الاتصال مقطوع كما لو كان في طريق الأعصاب الموصلة بينهما زر كهربائي قاطع للتيار لا يتصل إلا إذا عمدت يد عامل من العوامل المنبهة إلى وصله حتى لا يتحمل الإنسان في حياته أوجاع مصائبه الماضية بغير ضرورة أو مقتضٍ ولا ينوء تحت عبء ما يحمله في ذاكرته من مجموعة آلامه وأوصابه التي انتابته في ماضي حياته.
فإذا ما ضغطت يد العامل المنبه على (زر) الاتصال اتصل التيار وانطلق من المستودع بعض الشحنة إلى مركز الحركة وعندئذٍ تتكرر الانفعالات الخاصة بهذا النوع من الحوادث في صورة قد تكون مخففة نوعًا مما لو كان الحادث محققًا أو حالاً كما لو كانت المكثفات فقدت بمرور الزمن جزءًا من قوة كهربائيتها.
وإني لا أبغي أن أبتعد بالقارئ كثيرًا عن جوهر الموضوع وهو ما للانفعالات النفسية من الارتباط بالجرائم فلم يحملني على هذا الإسهاب الذي أخشى أن يكون مملاً إلا الرغبة في تعليل آثار تلك الانفعالات وردها إلى أسبابها الطبيعية حتى يمكننا فهمها علميًا والاستفادة منها عمليًا ولكني قبل أن أنتقل إلى جوهر الموضوع أريد أن أدفع مقدمًا اعتراضًا طالما سمعته من الكثيرين وهو أن المجرم الماهر المدرب الذي ماتت من قلبه كل عاطفة قد يستطيع استخدام كل ما أوتي من قوة إرادة وعزم في أن يخفي عواطفه فلا تبدو عليه آثار الانفعال.
أجل قد يكون من الهين عليه أن يخفي الآثار الظاهرة لحركاته وإشاراته الخارجية أو يلطف كثيرًا من حدتها بحيث لا تبدو محسوسة كما أنه ليس من المحتم أن يبكي المرء عند الحزن أو يضحك عند السرور ولكن ليست الأعين والشفاه والأيدي والأرجل هي التي تشهد علينا دون غيرها فإن هذه التزمت الصمت وقويت على الكتمان فهناك أعضاء أخرى لا سلطان لإرادتنا عليها قد تكشف الستار بالرغم منا عن الرواية التي تمثل في مسرح المخيلة وتنم عن تفاصيل المعركة التي تدور رحاها في ميدان الضمير، وكيفية ذلك أن في الجسم نوعين من الأعضاء من حيث الحركة فالنوع الأول تتألف منه الأعضاء ذات الحركة الإرادية أي الخاضعة في حركاتها لمركز الإرادة في المخ كالأيدي والأرجل والشفاه والجفون والعيون وغيرها من سائر الأعضاء التي يمكننا تحريكها أو إيقاف حركتها كلما أردنا، والنوع الثاني يتألف من الأعضاء ذات الحركة غير الإرادية كعضلات القلب والعضلات المبطنة لجدران الأوعية الدموية والعضلات والأنسجة الأخرى لبعض الأحشاء الصدرية والبطنية والحوضية وكذلك غدد العرق والدمع واللعاب وغيرها من الغدد ذات الإفرازات المختلفة.
فالنوع الأول من الأعضاء خاضع في حركته لجهاز عصبي يختلف في نوعه عن الجهاز العصبي للأعضاء ذات الحركة غير الإرادية ويسمى الأول (بالجهاز العصبي الإرادي)، والثاني (بالجهاز العصبي الذاتي) والأول مراكزه العصبية خاضعة لمركز الإرادة في المخ، والثاني مراكزه العصبية بعيدة عن مركز الإرادة مقطوع الاتصال به ومعظم هذا الجهاز الأخير مؤلف من سلسلة عقد عصبية على جانبي العمود الفقري ومعروفة باسم العظيم السنبتوى وبعض عقد أخرى كائنة في الدماغ والبعض الآخر في جدران نفس الأعضاء المسلطة عليها هذه المراكز كما في القلب.
فالفرق بين هذين الجهازين جلي واضح من حيث التأثير في حركات الأعضاء فإن كان في وسعنا أن نمنع أيدينا وأرجلنا عن الحركة أو إبداء أي إشارة تنم عما نبطن في نفوسنا فمن الذي يستطيع منا أن يغير بإرادته دقات قلبه وسرعة نبضه ودرجة امتلائه وقوة ضغط دمه وكمية إفراز غدة من غدد جسمه أو حركات أمعائه وأحشائه الباطنية أو درجة حرارة جسمه ؟ فإذا كان ليس في وسعنا ذلك وعلمنا بالتجربة والمشاهدات الدقيقة أن لكل انفعال نفساني آثارًا خاصة به ومميزات تسجلها علينا أعضاؤنا المتمتعة بالحركة الذاتية كما يسجل الترمومتر والبارومتر درجات الحرارة والرطوبة وأمر أمهر ممثلي العالم مهما بلغ من الدربة والحنكة لا يقوى على سترها وإخفائها.
فإذا ما تقرر ذلك ألسنا نجني من وراء دراسة هذه الآثار وكشفها أجل فائدة عملية وأنه بقدر ما يوجد لدينا من الآلات المتقنة الصنع التي بها يمكننا رصد حركات الأعضاء الباطنية بدقة بقدر ما يسهل علينا كشف ما يجول بخاطر المتهم الموضوع تحت الاختبار واستخراج مكنون أسراره، وأن آلات كهذه يكون مثلها كمثل المجهر الذي يكشف لنا أنواع الجراثيم ودقائق الأنسجة المختلفة للجسم في تشخيص الحالات المرضية.