Warning: Function get_magic_quotes_gpc() is deprecated in /home/forumbs/public_html/includes/class_core.php on line 1960
التشريع والقانون [الأرشيف] - منتديات بانى ستار

المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التشريع والقانون



Bunny-Star
01-28-2009, 10:35 AM
التشريع والقانون


تحكيم الشريعة يجسد أصالتنا وتحررنا

الشريعة بمعناها الواسع لا مذهب بعينه


لابد من اجتهاد معاصر منضبط

الإسلام ليس مادة هلامية

سنة التدرج

لا يطبق الشريعة حقاً إلا من يؤمن بها

الشريعة للشعوب كما هي للحكام

ضرورة التشريع الرباني للمجتمع


ليس التشريع محصوراً في الحدود

حرص الإسلام على الستر والعفو في قضايا الحدود

درء الحدود بالشبهات

لا يبنى المجتمع بالتشريع وحده

من حق المجتمع المسلم أن يحكم بشرع ربه


ومن مقومات المجتمع المسلم : التشريع , أو القانوني الذي يحتكم إلى الشريعة ويحكم بها . والشريعة هي المنهاج الذي وضعه الله تعالى لتنظيم الحياة الإسلامية على ضوء الكتاب المبين والسنة المطهرة، ولا يكون المجتمع مجتمعاً إسلامياً إلا بتطبيقها والرجوع إليها في حياته كلها، عبادات ومعاملات، فليس من المعقول آن يأخذ المسلم من كتاب ربه: (كتب عليكم الصيام)، ولا يأخذ منه: (كتب عليكم القصاص). ولا يتصور أن يقبل آيات إيجاب الصلاة، ويرفض آيات تحريم الربا.

وسنتحدث عن هذا الموضوع في النقاط التالية:

ضرورة التشريع الرباني للمجتمع

أولاً: إن التشريع مقوم أساسي من مقومات المجتمع، فلا بد لأي مجتمع من قانون يضبط علاقاته، ويعاقب من انحرف عن قواعده، سواء أكان هذا القانون مما نزل من السماء، أم مما خرج من الأرض، فالضمائر والدوافع الذاتية لا تكفى وحدها لعموم الخلق، والمحافظة على سلامة الجماعة، وصيانة كيانها المادي والمعنوي، وإقامة القسط بين الناس، ولهذا أرسل الله رسله وأنزل كتبه لضبط مسيرة الحياة بالحق كما قال تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) كذلك أنزل الله كتابه الخالد ليحكم بين الناس، لا ليتلى على الأموات، ولا لتزين به الجدران. قال تعالى: ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله). وآيات القرآن صريحة في وجوب الحكم بما أنزل الله. يقول تعلى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون، وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيراً من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)

ويلاحظ في هذه الآيات:

أولاً: أنها جاءت بع الآيات التي تحدثت عن أهل الكتابين: التوراة والإنجيل، وجاء فيها قوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ، وقوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) ، وقوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) ، وما كان الله تعالى ليحكم على أهل الكتاب بالكفر، أو الظلم، أو الفسق، أو بها جميعاً إذا لم يحكموا بما أنزل الله، ثم يعفي المسلمين من ذلك، فليس ما أنزل الله على المسلمين، دون ما أنزله على أهل الكتاب وعدل الله واحد. وقد جاء الحكم القرآني بلفظ عام. فلا مجال لمماحك يقول: إن الآيات جاءت في أهل الكتاب لا في المسلمين).

ثانياً: أنها لم تتسامح في ترك جزء مما أنزل الله إلى رسوله، بل حذرت من ذلك بصيغة قوية: ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) .

ثالثاً: أن الناس بين حكمين لا ثالث لهما: إما حكم الله، أو حكم الجاهلية .. فمن لم يرض بالأول وقع في الثاني لا محالة، وفى هذا يقول: (أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ).

إن التشريع هو الذي ينقل التوجيهات الدينية والأخلاقية إلى قوانين ملزمة، ويعاقب على تركها. وحاجة البشر إلى تشريع رباني - سالم من قصور البشر وأهوائهم - حاجة أساسية، لا يحققها للبشر إلا التشريع الإسلامي، فهو الذي يحمل هداية الله الأخيرة للبشر، ولا يوجد في الأرض تشريع رباني آخر، لأن كل المصادر السماوية قد أصابها التحريف والتبديل، كما أثبت ذلك الدارسون المحققون من القدماء والمحدثين والمعاصرين بالنسبة للتوراة والإنجيل. المصدر السماوي الوحيد الباقي بلا زيادة ولا نقص ولا تحريف ولا تغيير هو القرآن.
إن البشر في حاجة إلى توجيه إلهي يجنبهم الضلال في الفكر، والغي في السلوك. فكثيراً ما زينت للبشر عقولهم القاصرة: جرائم بشعة، وغوايات شنيعة، حتى وجدنا أهل اسبارطة قديماً يقتلون الأطفال الضعاف البنية، والعرب في الجاهلية يئدون البنات، والهنود والرومان والفرس وغيرهم يقسمون الناس إلى طبقات يجوز لطبقة ما لا يجوز للأخرى، ويقتل بعضها عمداً فلا يقتص منه، ويقتل بعضها لأدنى الأسباب، وربما بلا سبب. ووجدنا في عصرنا من يجيز زواج الرجال بالرجال ‍وتصدر بذلك قوانين، ويبارك ذلك بعض رجال الدين في الغرب المتحضر المتقدم.
ومع قصور العقل البشرى في مقابلة العلم الإلهي: نجد أن البشر كثيراً ما يتبين لهم الرشد من الغي، والنافع من الضار، ومع هذا تغلبهم أهواؤهم وشهواتهم، أو أهواء ذوى النفوذ وأصحاب المصالح الخاصة منهم، فيحلون ما يجب أن يحرم، ويحرمون ما ينبغي أن يباح.
ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك: موقف الولايات المتحدة من تحريم الخمر، وتراجعها عن التحريم، رغم ثبوت ضرره على الفرد والأسر والمجتمع، مادياً ومعنوياً، اتباعاً لشهوات هواة السكر، وتحقيقاً لمصالح المنتفعين من انتشار المسكرات.


ليس التشريع محصوراً في الحدود

ثانيا: ليس التشريع في الإسلام محصوراً في الحدود والعقوبات كما يتصور بعض الناس أو يصوّرون. إن التشريع في الإسلام ينظم العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأسرته، وبين الإنسان ومجتمعه، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الأغنياء والفقراء، والملاك والمستأجرين، وبين الدولة الإسلامية وغيرها في حالة السلم وحالة الحرب. فهو قانون مدني و إداري، ودستوري ودولي …… إلخ إلى جانب أنه قانون ديني. ولهذا اشتمل الفقه الإسلامي على العبادات والعاملات، والأنكحة والمواريث، والأقضية والدعاوى، والحدود والقصاص والتعازير، والجهاد والمعاهدات، والحلال والحرام، والسف والآداب، فهو ينظم حياة الإنسان من أدب قضا ء الحاجة للفرد إلى إقامة الخلافة والإمامة العظمى للأمة. إن الحدود هي السياج، وهى الإعلان الناطق بأن المجتمع المسلم يرفض جرائم معينة، ولا يسمح بها بحال من الأحوال.
والحدود - كما شرعها الإسلام - ليست بالبشاعة التي يتصورها بعض الناس أو يصورها المبشرون والمستشرقون.
إن الغربيين يستبشعون هذه العقوبات لسببين ذكرهما العلامة المودودي في حديثه عن حد الزنا في كتابه (الحجاب)، قال رحمه الله: (إن الضمير الغربي يشمئز من عقوبة الجلدات المئة. والسبب في ذلك لا يرجع إلى كونه لا يحب إيذاء الإنسان في جسده. بل السبب الحقيقي أنه لم تكتمل بعد نشأة شعوره الخلقي، فهو بينما كان يعد الزنا من قبل عيباً وهجنة إذ به الآن لا يعتبره إلا لعباً وسلوة، يعلل به شخصان نفسيهما ساعة من الزمن! فهو يريد لذلك أن يسامح في هذا الفعل ولا يحاسب عليه، إلا إذا أخل الزنا بحرية رجل آخر أو بحق من حقوقه القانونية. وحتى عند حصول هذا الإخلال لا يكون الزنا عنده إلا من صغار الجرائم التي لا تتأثر بها إلا حقوق شخص واحد، فيكفى المعاقبة عليه بعقاب خفيف أو تغريم ! ( وبديهي أنه من كان هذا تصوره للزنا لا بد أن يرى حد المئة جلدة عقوبة ظالمة لهذا الفعل. ولكنه إذا ارتقى شعوره الخلقي والاجتماعي وعلم أن الزنا سواء كان بالرضا أو بالإكراه، وكان بامرأة متزوجة أو باكرة، جريمة اجتماعية في كل حال تعود مضارها على المجتمع بأسره، فإنه لا بد أن تتبدل نظرته في باب العقوبة، ويعترف بوجوب صون المجتمع من تلك المضار، وبما أن العوامل المحركة للمرء على الزنا متأصلة جدا في جبلته الحيوانية، وليس من الممكن قلع شأفتها بمجرد عقوبات الحبس والغرم، فلا مندوحة لقمعه من استخدام التدابير الشديدة. ومما لا شك فيه أن وقاية ملايين من الناس مما لا يحصى من المضار الحفيّة والعمرانية بإيذاء شخص أو شخصين إيذاءً شديداً خير من دفع الأذى عن الجناة، وتعريض الأمة كلها لمضار لا تنحصر فيها، بل تتوارثها أجيالها القادمة أيضاً بلا ذنب لها.
( وهناك سبب آخر لاعتبارهم حد المئة جلدة من العقوبات الظالمة، يفطن به المرء بسهولة إذا أنعم نظره في أسس الحضارة الغربية. وذلك أن حضارة الغرب - كما أسلفنا- قد قامت على إعانة ( الفرد ) على ( الجماعة) وتركبت عناصرها بتصور مغلو فيه للحقوق الفردية. لذلك مهما كان من ظلم الفرد واعتدائه على الجموع، فلا ينكره أهل الغرب، بل يحتملونه غالباً بطيبة نفس، ولكنه كلما امتدت إلى الفرد يد القانون حفظاً لحقوق الجماعة، اقشعرت منه جلودهم خوفاً وفزعاً، وأصبح كل نصحهم وتحمسهم بحق الفرد دون الجماعة.

( ثم إن ميزة أبناء الجاهلية الغربية - كأهل الجاهلية في كل زمان - أنهم يهتمون بالمحسوسات أكثر من اهتمامهم بالمعقولات. ولهذا يستفظعون الضر الذي ينال الفرد لكونه ماثلاً أمام أعينهم بصورة مرئية. ولكنهم لا يدركون خطورة الضرر العظيم الذي يلحق المجتمع وأجياله القادمة جميعاً، على نطاق واسع، لأنهم يكادون لا يحسون به لسعته وعمق آثاره ).

وأود أن أذكر هنا: أن الإسلام يشدد في إثبات الجريمة تشديداً غير عادي، وخصوصاً في جريمة الزنا، وهي لم تثبت في عهد النبوة والراشدين إلا بالإقرار، كما أنه يفتح الباب للتوبة، فمن صدقت توبتة سقط عنه الحد على الرأي الراجح. وسقوط الحد لا يعنى إسقاط العقوبة بالكلية، فقد ينتقل إلى التعزير المناسب.


حرص الإسلام على الستر والعفو في قضايا الحدود

ثالثاً: أود أن ألفت النظر هنا إلى حقيقة مهمة في أمر الحدود، وهو: أن الإسلام لا يركض وراء إقامة الحد، ولا يتشوف إلى تنفيذ العقوبة، فيمن اقترف ما يستحقها، ولا يضع أجهزة للتصنت على العصاة، أو ينصب لهم (كاميرات) خفية تصورهم حين ارتكاب جرائمهم، ولا يسلط الشرطة الجنائية أو (المباحثية) تتجسس على الناس المخالفين للشرع حتى تقبض عليهم متلبسين. بل نجد توجيهات الإسلام هنا حاسمة كل الحسم في صيانة حرمات الناس الخاصة، وتحريم التجسس عليهم، وتتبع عوراتهم، لا من قبل الأفراد، ولا من قبل السلطات الحاكمة. روى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف: أنه حرس ليلة مع عر بالمدينة، فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه ( أي يقصدونه ) حتى إذا دنوا منه، إذا باب مجاف ( أي مغلق ) على قوم، لهم فيه أصوات مرتفعة، فقال عمر - وأخذ بيد عبد لرحمن-: أتدري بيت من هذا؟ قال: لا، قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب ( أي يشربون الخمر ) فما ترى؟ قال عبد الرحمن: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه: نهانا الله عز وجل، فقال: ( ولا تجسسوا) ، فقد تحسسنا ! فانصرف عمر عنهم وتركهم ).
وروى أبو داود والحاكم أيضاً عن زيد بن وهب، قال: أتى رجل ابن مسعود، فقال: هل لك في الوليد بن عقبة، ولحيته تقطر خمراًٍ ؟! فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهانا من التجسس، إن يطهر لنا نأخذه. وروي أيضاً عن أربعة من الصحابة: جبير بن نفير، وكثير بن مرة، والمقدام بن معديكرب، وأبي أمامة الباهلي - رضي الله عنهم - عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم). بل نرى التعاليم النبوية الصريحة ترغب أبلغ الترغيب في ستر المسلم على نفسه، وعلى غيره.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد أن أقام الحد على ماعز الأسلمي، قام فقال: (اجتنبوا هذه القاذورة،التي نهى الله عنها، فمن ألمّ ( أي تورط في شيء منها) فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا منفعه ( أي يكشف عن جريمته ) نقم عليه كتاب الله) يعني: حكم الله. وكان الرسول الكريم قد أقام الحد على ماعز، بعد أن جاء إليه أربع مرات مقراً بجريمته، وبعد أن حاول النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يبعد عنه التهمة، ويلقنه ما يدل على عدم استيفاء أركان الجريمة، ولكنه أمر. ومثله المرأة الغامدية. وقد جاء عن أبى بردة عن أبيه قال: كنا أصحاب محمد نتحدث لو أن ماعزاً وهذه المرأة، لم يجيئا في الرابعة، لم يطلبهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقال لهزال - الذي دفع ماعزاً للاعتراف عند النبي (صلى الله عليه وسلم): لو سترته لكان خيراً لك). وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( من ستر أخاه المسلم في الدنيا، ستره الله في الدنيا والآخرة). وعنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة . فإذا كان الحديث السابق في مثوبة ستر ع المسلم، فهذا الحديث عام في ستر الإنسان على الإنسان: ستر أي عبد من عباد الله على آخر. وعن كثير مولى عقبة بن عامر: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( من رأى عورة فسترها، كان كمن استحيا موؤودة من قبرها). وكذلك نجد التوجيهات الإسلامية صريحة في التحريض على العفو والصفح فيما كان من الحدود متعلقاً بحقوق العباد، مثل السرقة، بشرط ألا تصل إلى سلطة القضاء. فهناك لا مجال لعفو ولا شفاعة. وفي هذا جاء حديث عبد الله بن عمر: ( تعافوا الحدود بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب).
وقال ابن مسعود: ( إني لأذكر أول رجل قطعه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أتى بسارق، فأمر بقطعه، وكأنما أسف وجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ( أي بدا عليه الأسى) فقالوا: يا رسول الله، كأنك كرهت قطعه؟ قال: ( وما يمنعني؟ لا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم! إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد إلا أن يقيمه، إن الله عفو يحب العفو: ( وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله غفور رحيم). وكان الرجل يأتي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فيعترف بأنه أتى ما يوجب الحد، فلا يسأله عن هذا الحد: ما هو؟ وكيف اقترفه؟ بل يعتبر اعترافه هذا - الذي قد يعرضه للعقوبة - توبة من ذنبه، وندماً على ما فرط منه، فهو كفارة له. ولا سيما إذا أقام الصلاة مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فقد روى أبو داود في باب ( في الرجل يعترف بحد ولا يسميه) عن أبي أمامة: أن رجلاً أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقمه علي. قال : ( توضأت حين أقبلت ) ؟ قال: نعم. قال: ( هل صليت معنا حين صلينا ) ؟ قال: نعم. قال : ( اذهب، فإن الله تعالى قد عفا عنك ). ومن ثم ذهب من ذهب من علماء السلف إلى أن من حق الإمام أو القاضي أن يسقط الحد بالتوبة إذا ظهرت أماراتها، وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية والمحقق ابن القيم. وهو ما أختاره حين (نقنن) عقوبات الحدود في عصرنا.


درء الحدود بالشبهات

رابعاً: إن مما يلحق بما ذكرناه من حرص الإسلام على الستر والعفو في قضايا الحدود: ما أصبح معروفا في الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه المتبوعة، وهو: درء الحدود بالشبهات. وقد جاء في ذلك حديث رواه الحاكم وصححه يقول: (ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم لمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ بالعقوبة). نعم إن الحافظ الذهبي اعترض على تصحيح الحاكم للحديث، ولكن الأحاديث التي سقناها من قبل تشد عضده. وكذلك ما صح عن الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه من قوله: ( ادرأوا الحدود بالشبهات). وما ثبت من فعله. من إيقاف حد السرقة عام المجاعة، لوجود شبهة الحاجة، وموافقة الصحابة - وفيهم الفقهاء وأهل العلم والفتوى - له في ذلك، ومثل هذا يعتبر نوعاً من الإجماع. فإنهم لا يسكتون جميعاً على باطل، ولا يجمعون على ضلالة. ولا يعتبر هذا إسقاطاً للحد كما يذكر بعض الكاتبين، بل إن الحد لم يجب أصلاً ! لعدم استفاء كل أركانه وشروطه.
ومثل ذلك: ما روى من عدم إقامته الحد على الغلامين اللذين سرقا من سيدهما؛ لأنه رأى أنهما لم يسرقا إلا لظلم السيد لهما، وعدم إعطائهما ما يكفيهما من الحاجات اللازمة لها. ولا عجب أن سامحهما مقدراً ظروفهما، ثم وجه تهديده إلى مخدومهما بأنه سيقطع يده هو، إذا اضطرا إلى السرقة مرة أخرى ! ومن قرأ كتب الفقه وجد فيه أشياء كثيرة ذكرها الفقهاء باعتبارها شبهات تمنع إقامة الحد. وبعضها يعتبر ضرباً من التمحل أو الادعاء، ولكنهم رأوا أن أدنى شك يفسر لصالح المتهم.


لا يبنى المجتمع بالتشريع وحده

خامساً: إن الإسلام ليس مجرد تشريع وقانون. إنه عقيدة تفسر الوجود، وعبادة تربي الروح، وأخلاق تزكى النفس، ومفاهيم تصحح التصور، وقيم تسمو بالإنسان، وآداب تجمل بها الحياة. وآمات الأحكام التشريعية لا تبلغ عشر آيات القرآن. وهي ممزوجة مزجاً بالعقيدة والضمير، مقرونة بالوعد والوعيد، مرتبطة ارتباطاً عضوياً بسائر توجيهات القرآن. إقرأ مثلاً في أحكام الأسرة قوله تعالى: (الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون). هذا ليس تشريعاً جافاً كمواد القانون، بل هو تشريع ودعوة وتوجيه وتربية وترغيب وترهيب. واقرأ في أحكام الحدود قوله جل شأنه: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله، والله عزيز حكيم، فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه، إن الله غفور رحيم، ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، والله على كل شيء قدير). هنا نجد كذلك التشريع الزاجر، مقروناً بالوعد والوعيد، حاملاً التخويف والترجية، والتوجيه والتربية، مرغباً في التوبة والإصلاح، مذكراً بأسماء الله الحسنى: العزيز إذا أمر ونهى، الحكيم فيما شرع، والغفور الرحيم لمن تاب وأصلح. مالك الكون، وصاحب الخلق والأمر، وهو على كل شئ قدير. هذا هو سياق التشريع في القرآن، ومثله في السنة.
فليس بالتشريع وحده يبنى المجتمع المسلم، بل لا بد من وسيلتين أخربين: الدعوة والتوعية، ثم التعليم والتربية، إلى جوار التشريع والقانون، بل قبل التشريع والتقنين.

ولهذا بدأ الإسلام بالمرحلة المكية - مرحلة الدعوة والتربية - قبل المرحلة المدنية، مرحلة التشريع والتنظيم، وفى هذه المرحلة نرى التشريع يمتزج بالتربية أيضاً امتزاج الجسم بالروح. إن مجرد تغيير القوانين وحده لا يصنع المجتمع المسلم. إن تغيير ما بالأنفس هو الأساس. وأعظم ما يعين على تغيير ما بالأنفس هو الإيمان الذي ينشئ الإنسان خلقاً آخر، بما يضع له من أهداف، وما يمنحه من حوافز وضوابط، وما يرتبه على عمله من جزاء في الدنيا والآخرة. والإسلام كل لا يتجزأ. فإذا أردنا أن نحارب جريمة مما شرعت له الحدود، فليست محاربتها بإقامة الحد فقط، ولا بالتشريع فقط، بل الحد هو آخر الخطوات في طريق الإصلاح. إن العقاب إنما هو للمنحرفين من الناس، وهؤلاء ليسوا هم ألا كثرين، وليسوا هم القاعدة، بل هم الشواذ عن القاعدة. والإسلام لم يجئ فقط لعلاج المنحرفين، بل لتوجيه الأسوياء ووقايتهم أن ينحرفوا. والعقوبة ليست هي العامل الأكبر في معالجة الجريمة في نظر الإسلام، بل الوقاية منها بمنع أسبابها هو العامل الأكبر، فالوقاية دائما خير من العلاج. فإذا نظرنا إلى جريمة كالزنى نجد أن القرآن الكريم ذكر في شأن عقوبة الحد فيها آية واحدة في مطلع سورة النور، وهى قوله تعالى: ( الزانية والزاني، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، وتأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) ، ولكن السورة نفسها اشتملت على عشرات الآيات الأخرى التي توجه إلى الوقاية من الجريمة. وحسبنا قوله تعالى: ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة). وقوله سبحانه في تنظيم التزاور وآدابه، واحترام البيوت ورعاية حرماتها: ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون). ويدخل فيها آداب الاستئذان للخدم والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم: ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات، من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم). وأهم من ذلك تربية المؤمنين والمؤمنات على خلق العفاف والإحصان، بغض البصر وحفظ الفروج، وذلك في قوله جل شأنه: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن …الآية ). وهنا برز عنصر جديد في الوقاية من الزنا وجرائم الجنس، وهو منع النساء من الظهور بمظهر الإغراء والفتنة للرجال، وإثارة غرائزهم وأخيلتهم، حتى جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) ، ثم تختم الآية بقوله سبحانه: ( وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ).

ومعنى هذا: وجوب تطهير المجتمع من أسباب الإغراء والفتنة، وسد الذرائع إلى الفساد. وأهم من ذلك كله الأمر بتزويج الأيامى من الرجال والنساء، ومخاطبة المجتمع كله بذلك، باعتباره مسؤولاً مسؤولية تضامنية: ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم ). ومسؤولية المجتمع هنا -وعلى رأسه الحكام - تتمثل في تيسير أسباب الارتباط الحلال، إلى جوار سد أبواب الحرام، وذلك بإزاحة العوائق المادية والاجتماعيه أمام راغبي الزواج، من غلاء المهور، والإسراف في الهداايا والدعوات والولائم والتأثيث، وما يتصل بذلك من شؤون، ومساعدتهم- مادياً وأدبياً - على تكوين بيوت مسلمة. فليست إقامة الحد إذن هي التي تحل المشكلة، والواقع أن الحد هنا لا يمكن أن يقام بشروطه الشرعية إلا في حالة الإقرار في مجلس القضاء، أربع مرات، على ما يراه عدد من الأئمة، أو شهادة أربعة شهود عدول برؤية الجريمة رؤية مباشرة أثناء وقوعها، ومن الصعب أن يتاح ذلك. فكأن القصد هنا هو منع المجاهرة بالجريمة. أما من ابتلى بها مستتراً فلا يقع تحت طائلة العقاب الدنيوي وأمره في الآخرة إلى الله سبحانه.


من حق المجتمع المسلم أن يحكم بشرع ربه

سادساً: مما لا نزاع فيه، أن من حق كل مجتمع أن يحكم بالتشريع الذي يؤمن بعدالته وتفوقه وسموه على غيره من التشريعات. وبالنسبة للمجتمع المسلم يعتبر ذلك واجباً وفرضاً عليه، وليس مجرد حق له. ولهذا لا ينبغي أن ينكر أحد على المجتمعات المسلمة اليوم تناديها بتحكيم التشريع الإسلامي. فهو التشريع الفذ الذي يعبر عن عقائدها وقيمها وآدابها وعن نظرتها إلى الكون وخالقه، والإنسان ومصيره، والحياة ورسالتها، بخلاف القوانين الوضعية الأخرى، التي قد تحل ما يحرمه الإسلام مثل الخمر والفجور والربا، أو تحرم ما يحله مثل الطلاق وتعدد الزوجات، أو تلغي ما يوجبه ويفرضه مثل إيتاء الزكاة، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أو تبدل بأحكام الله ورسوله أحكاماً أخرى مستوردة من الغرب أو الشرق. صحيح أن التشريعات الوضعية الحالية - في كثير من بلاد المسلمين ليست كلها منافية للشريعة الإسلامية، بل إن كثيراً منها - كما يعرف الدارسون - اقتبس أساساً من الفقه الإسلامي، ولا سيما الفقه المالكي. ولكن يجدر في أن أنبه هنا على أمور أساسية :

أولها: أن الأشياء التي تخالف فيها القوانين الوضعية الأحكام الشرعية وان لم تكن كبيرة في مساحتها وكمها - هي في غاية الأهمية بالنظر إلى نوعها وكيفها ووظيفتها. مثل تحريم الربا - في القانون المدني - الذي شدد القرآن وشددت السنة في وعيد من ارتكبه، ومثل إقامة الحدود على جرائم معينة قدر لها الشرع عقوبات منصوصا عليها حقا له تعالى. وذلك لأن هذه الأحكام وأشباهها هي التي تميز حضارة عن حضارة وأمة عن أمة. فتحريم الربا - كإيتاء الزكاة - من أبرز ما يميز نظاما اقتصاديا عن آخر، وهما بالفعل من أخص خصائص الاقتصاد الإسلامي. وتحريم الزنا والفاحشة ما ظهر منها وما بطن، وكل ما يؤدى إلى ذلك، وتقرير العقوبة عليه، ومثله تحريم المسكرات: تعاطياً واتحاراً وصنعاً، وإيجاب العقوبة عليها … إلى غير ذلك مما جاءت الحدود عقاباً عليه مما يميز الحضارة الإسلامية عن غيرها من الحضارات التي لا ترى بأساً في إباحة الزنا ما دام بالتراضي وإباحة الشذوذ الجنسي، برغم منافاته للفطرة السوية، وللرجولة الكريمة، وجوره على الجنس الآخر. وكذلك إباحة الخمور والمسكرات، مع ما ثبت بالقطع من أضرارها المادية والمعنوية على الفرد وعلى الأسرة وعلى المجتمع.

ثانيها: أنه لا يكفى أن تكون القوانين الوضعية متفقة مع أحكام الشريعة الإسلامية. لأن مجرد هذا الاتفاق - بالمصادفة - لا يمنحها الصبغة الإسلامية، لا يضفي عليها الشريعة الإسلامية. إنما الواجب أن ترد إلى الشريعة، وتنطلق منها، بحيث ترتبط بالفلسفة العامة للإسلام، وبالمقاصد الكلية للشريعة، وتستند إلى الأدلة الشرعية الجزئية في مختلف مواد الأحكام في شتى القوانين، وفق الأصول المرعية عند فقهاء المسلمين جميعاً. وبهذا يكون لهذه القوانين شرعيتها وقدسيتها لدى الفرد المسلم، والمجتمع المسلم، وينقاد لها طواعية واختياراً، لأنه يتعبد له تبارك وتعالى بقبولها والخضوع لها. فخضوعه لها ليس خضوعاً لبرلمان وضعها، ولا لحكومة قررتها، بل هو طاعة لله الذي شرعها لخير عباده، وانقياده لها تجسيد لإيمانه ورضاه بحكم الله ورسوله: ( إنما كان قول المؤمنين منين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون) وفرق كبير بين التزام المسلم بموجب العقد بناء على النظرية الفلانية أو أن الفيلسوف الفلاني يقول: إن العقد شريعة المتعاقدين، وبين التزامه بذلك لأن الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).(وافوا بالعهد، إن العهد كان مسؤولاً) ولقد قيل للأستاذ حسن الهضيبى المرشد الثاني للإخوان المسلمين يوماً: لماذا تشددون النكير على القوانين الوضعية، مع أنها - في معظمها - شبيهة بالأحكام الشرعية ؟ فكان جوابه: لأننا مطالبون بالأحكام الشرعية لا بما يشهها، وقد قال تعالى: ( وأن احكم بما أنزل الله).

ثالثها: أن الشريعة الإسلامية كل لا يتجزأ، ولا يجوز أخذ بعضها وترك بعضها، ولو كان هذا المتروك 0ا% أو 5% أو حتى1% أو واحدا في الألف.
فقد قال الله تعالى لرسوله: ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )، وذلك لأن الذي يتنازل عن البعض القليل يوشك أن يتنازل عن الجل، بل عن الكل ! ومن تم أنكر القرآن أبلغ الإنكار على بنى إسرائيل في تجزئتهم للدين، وأخذهم لبعض أحكام كتابهم وإعراضهم عن البعض الآخر، فقال تعالى مقرعاً لهم: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض،فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذب، وما الله بغافل عما تعملون). وكما لا يقبل من مسلم أن يرفض شيئا - مهما قلّ - من القرآن الكريم، ويعتبر بذلك كافراً، فكذلك لا يقبل منه أن يرفض أي حكم قطعي ثابت من أحكام الشريعة مما علم من الدين بالضرورة، ورفضه لهذا يعتبر كفراً بالإسلام يخرجه من الملة، ويعزله عن الأمة، ويستحق به عقوبة الردة، لأنه يتضمن استدراكاً على الله تعالى وتعالماً من العبد على ربه، واتهاماً له سبحانه بقصور علمه وحكمته أو بقصور جوده رحمته، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

رابعها: أن البلاد الإسلامية تتفاوت تفاوتاً بعيداً في موقفها من التشريع الإسلامي. فهناك من يلتزم بتحكيم الشريعة من ناحية المبدأ، وإن كان عليه مآخذ تكثر أو تقل من ناحية التطبيق. وهناك من حاول أن يستمد قانونه المدني من رحاب الشريعة وفقهها الرحب، ولكن بقي قانونه الجزائي غربياً وضعياً. وهناك من اجترأوا على قوانين الأسرة أو الأحوال الشخصية، وهى المنطقة التي بقيت خالصة للشريعة في أكثر الأقطار المسلمة، حتى وجدنا بلداً عربياً يبيح الزنى ولا يعاقب عليه ما دام بالتراض، فى حين يعتبر الزواج من أخرى جريمة تستحق العقاب. وهذا ما جعل أحد الأذكياء في ذلك البلد العربي في شمال إفريقية - وقد تزوج امرأة ثانية زواجاً شرعياً، غير موثق قانونياً بطبيعة الحال، حين ضبط في بيت تلك الزوجة: أن يقول: إنها عشيقتي ! فلم يسعهم إلا أن يطلقوا سراحه متأسفين، فقد كانوا يظنونها زوجة له !
وقد جعل ذلك البلد الطلاق بيد المرأة، وغيّر قانون العقوبات، في شأن من وجد امرأته تخونه في بيت الزوجية، ووجد معها رجلاً أجنبياً في فراشه، فأخذته الغيرة وقتله. فقد كان يحكم عليه قديماً بخمس سنوات، مراعاة لظروفه، فغيرت العقوبة إلى الحكم بالإعدام.


تحكيم الشريعة يجسد أصالتنا وتحررنا

سابعاً: إذا كان التشريع عندنا نحن المسلمين جزءاً لا يتجزأ من ديننا، فلا يتم إيماننا إلا بالحكم به والاحتكام إليه، ولا خيار لنا في ذلك بعد التزامنا بالإسلام، والرضا به ديناً وشرعة ومنهاجاً: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً. فإن تحكيم الشريعة فيه معنى آخر يتصل بأصالتنا وقوميتنا، فالقوانين الوضعية التي نحكم بمقتضاها في بلادنا العربية والإسلامية، قوانين أجنبية عنا دخيلة علينا، لم تنبت في أرضنا، ولم تستمد أحكامها من عقائدنا وقيمنا وأعرافنا ومسلماتنا. ولهذا أحلت ما نعتقده حراماً، وحرمت ما نعتقده حلالاً، وأسقطت ما نعتقده واجباً. والعودة إلى أحكام الشريعة تعني التحرر من بقايا الاستعمار في المجال التشريعي، والرجوع إلى منابعنا الأصيلة، نستقي منها ما لا نصلح بغيره، لأن فيه هداية ربنا، وأصالة تراثنا، المتجاوب مع أنفسنا وتطلعاتنا، والمعبر عن حقيقة اتجاهنا، والمحقق لأهدافنا وحاجتنا. لقد كان دخول القوانين الوضعية إلى بلادنا، أشبه بدخول اليهود إلى فلسطيننا، بدأ تسللاً خفياً، ثم انتهى اغتصاباً علنياً. إن الذي يقرأ كيف دخل القانون الوضعي إلى بلد كمصر، سبق غيره في ذلك ليأخذه العجب كل العجب. كيف تم ذلك العدوان في بساطة تثير غضب الحليم. وحسبك أن هذا القانون وضعه شخص لا تتعدى ثقافته العلمية أو المهنية درجة المتوسط. وهو محام أرمني أتمه في وقت أقل مما يستغرقه وضع كتاب صغير جداً. والحقيقة أنه لم يضع قانوناً، بل نقله بجملته نقلاً حرفياً، كما قال الأستاذ ( مسينا ) أحد المستشارين الإيطاليين في المحاكم المختلطة في مصر. وقد وصف هذه القوانين بأنها: (مجمعة من هنا وهناك على غير أصول وضع القوانين وفقاً لحاجات الجماعة ومصالحها).
ويقول (مسينا): ( وإن شبح زعيم المدرسة التاريخية ( سافيني ) لترتعد فرائصه من تصور استيراد أو اقتراض أمة لتشريعاتها ). ولكن هذه القوانين استوردت أو اقترضت دون حاجة إليها، ولا طلب لها، ولا رغبة فيها، ودون أن تستشار الأمة في شأنها، كأن الأمر لا يخصها ولا يتعلق بحياتها. وما كان لهذه القوانين أن تدخل وتبقى، لولا أن الاحتلال هو الذي أدخلها وحماها، بأسنة رماحه. واليوم تطالب الشعوب العربية والإسلامية بإكمال استقلالها بالعودة إلى أحكام شريعتها، وهو أمر نادى به كبار رجال القانون الوضعي نفسه، الذين أتيح لهم أن يدرسوا فقه الشريعة، ويطلعوا على بعض كنوزه وأسراره.
ومن أبرز هؤلاء علامة القانونيين العرب الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الذي أشاد بقيمة الفقه الإسلامي وأصالته وغناه في أكثر من كتاب وأكثر من مناسبة، وخصوصاً في المراحل الأخيرة من عمره، بعد أن تعمق أكثر في قراءة مصادر الفقه، و كتابه الشهير (مصادر الحق في الفقه الإسلامي) ففي محاضرة له نشرتها الأهرام في (1/1/1937 ) يقول. ( وإني زعيم لكم بأن تجدوا في ذخائر الشريعة الإسلامية من المبادئ والنظريات ما لا يقل في رقى الصياغة وفي إحكام المصنعة، عن أحدث المبادئ والنظريات وأكثرها تقدماً في الفقه العالمي).


الشريعة بمعناها الواسع لا مذهب بعينه

ثامناً : إن التشريع الإسلامي المنشود، لا يعنيفقه مذهب من المذاهب في عصر من العصور، إنما يعني القواعد والأحكام الأساسية التي قررها القرآن والسنة، ونشأ في رحابها فقه خصب، منذ عهد الصحابة فمن بعدهم، سجلته كتب المذاهب المختلفة، وكتب السنن والآثار والفقه المقارن.
وهذه الثروة الهائلة من الاجتهادات أساس قوي لا يستهان به، ولا يستغنى عنه لأي اجتهاد معاصر قويم، ولا يقبل أن يبدأ اجتهاد جديد من المصفر، ودون أن يبنى اللاحق على السابق، ولكن جزئيات هذا الفقه ليست ملزمة لنا إلا بمقدار ما يسندها من أدلة الشرع المحكمة، نصوصاً وقواعد. ومن القواعد المقررة التي لم تعد موضع خلاف - من الناحية النظرية على الأقل - أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف، كما أكد ذلك _عدد من المحققين من علماء المذاهب المتبوعة، من أمثال: القرافي وابن القيم وابن عابدين. ولهذه القاعدة أدلتها من القرآن والسنة وهدى الصحابة وعمل السلف ولها تطبيقاتها الكثيرة في عصرنا، كما في مسألة أقصى مدة الحمل، واختلاف الفقهاء فيه، حتى أوصلها بعضهم إلى أربع سنوات، بل خمس، بل سبع ! وذلك أنهم لم يكونوا يعرفون عن ( الحمل الكاذب ) الذي له أعراض الحمل الصحيح. ومن ثم لا يجوز أن نحجر على أنفسنا واسعاً، فنلتزم بمذهب واحد في كل شؤونا. وقد يكون هذا المذهب ضعيف الحجة في بعض القضايا، أو لا يحقق مقاصد الشرع ومصالح الخلق. فلا جناح علينا أن ندعه إلى ساحة المذاهب الأخرى، وساحة الشريعة الكبرى. كما في قضايا مثل: الإلزام بالوعد، بيع المرابحة، زكاة الخارج من الأرض، زكاة المستغلات، الحلف بالطلاق، طلاق السكران والغضبان، طلاق الثلاث في لفظة واحدة. أقصى مدة الحمل.


لابد من اجتهاد معاصر منضبط

تاسعاً: إن التشريع الإسلامي المنشود هو الذي يقوم على أساس اجتهاد عصري سليم، سواء أكان اجتهاداً انتقائياً أم إنشائياً. وقد تحدثت عن معالم هذا الاجتهاد وضوابطه في مجال آخر. ولكن لا بد لي أن أحذر ها من فئتين من الناس: فئة الذين يريدون أن يطوعوا الإسلام للعصر، ويجعلوه عجنية لينة قابلة للتشكيل في أي صورة، ولا يريدون أن يتفقوا عند قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، كالذين يحاولون اليوم تحليل فوائد البنوك مع اتفاق كل المجامع والمؤتمرات العلمية الإسلامية على تحريمها. وفئة الذين يريدون أن يجمدوا الإسلام في قوالب حجرية، صنعتها عقول من قبلنا مناسبة لزمانهم، ولم تعد مناسبة لزماننا. وهؤلاء نوعان:

مذهبيون مقلدون متعصبون لمذاهبهم لا يرون الخروج منها قيد شعرة، وخصوصاً أقوال المتأخرين.
لا مذهبيون حرفيون، ممن اسميهم ( الظاهرية الجدد ).
وهؤلاء وأولئك هم الذين يشهرون سيف الإرهاب على كل عالم رأى رأيا جدياً أو مخالفاً لمن كان قبله، وان كان من كبار العلماء، وأساطين الشيوخ، الذين قضوا أعمارهم سباحين وغواصين في بحار العلوم الإسلامية، وكان لهم إنتاجهم وشهرتهم التي طبقت الآفاق.
وأذكر أن فقيهاً مثل الشيخ الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله وقف في إحدى الندوات يعلن عن رأى فقهي جديد له، قال: إني كتمته منذ عشرين عاماً أو أكثر، والآن أبرئ ذمتي، وأبوح به. وليس المهم أن يكون رأيه هذا صواباً أو خطأً، إنما المهم هنا والمؤلم حقاً: أن يكتم هذا العالم الكبير رأيه، ويخفي اجتهاده عشرين عاماً، ولا يجد الفرصة أو الجرأة، ليكتبه تحريراً، أو يلقيه شفاهاً، خشية من هياج الهائجين، وتطاول المتطاولين، الذين يملكون النصال الحادة، والسهام الجارحة، ويصوبونها بسرعة البرق إلى كل ذي رأي يخالف ما ألغوه ! وبهذا تموت الآراء في صدور أصحابها، ولا تعرف إلى الظهور سبيلاً.

اجتهاد لا فوضى، وتجديد لا تبديد:
إن الدعوة إلى الاجتهاد لعصرنا لا تعني الفوضى، وفتح الباب على مصراعيه لكل مدع متطاول، وإن لم يحصل شروط الاجتهاد الأساسية. إن بعض دعاة (التجديد) أو (التطور)، يريدون أن يطوروا الإسلام ذاته حتى يوافق أهواءهم (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن) ، وأهواؤهم إنما كونتها المعارف التي تسولوها من موائد الثقافة الغربية، مع معرفة ضحلة أو مشوشة بالإسلام، أو جهل مطبق به في بعض الأحيان. فهم لهذا لا يفرقون بين الجانب الذي له صفة الثبات والخلود في أحكام الإسلام وتوجيهاته، والجانب المرن المتطور الذي يتغير بتغير الزمان والمكان والحال. فهم ينقدون الفقه ويعتبرونه مجرد وجهة نظر تمثل رأى شخص معين في بيئة معينة في عصر معين. فإذا تغير العصر، وتغيرت البيئة، وتغيرت الأشخاص كان الواجب عليهم أن ينشئوا فقهاً جديدا يمثلهم وبعبر عنهم زماناً ومكاناً وحالاً.
وهذا صحيح بالنظر إلى جزئيات الأقوال والآراء التي قال بها الفقهاء في شتى مجالات الاجتهاد. ولكنه ليس صحيحاً بالنسبة إلى مجموع الفقه، الذي يمثل ثروة تشريعية ضخمة شاركت في إنشائها وتنميتها شوامخ العقول الإسلامية، ابتداء من الصحابة فمن بعدهم على توالى القرون، مهتدين بالقرآن الكريم والسنة المطهرة.
ولا أعرف - ولا أحسب أحداً يعرف - أمة من الأمم طرحت تراثها القانوني الوضعي وراءها ظهرياً، وبدأت من الصفر تشرع ليومها وغدها، دون أن تستفيد من روائع أمسها، فكيف بتراث فقهي أساسه رباني ؟: ولو أننا سلمنا لهؤلاء، فيما يتعلق بالفقه والفقهاء،وجدناهم يقفزون قفزة أخرى، يردون بها رفض السنة النبوية، التي هي بيان القرآن النظري وشرحه العملي، وقد أوجب الله طاعته وطاعة رسوله جميعاً: ( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول )،وجعل طاعة رسوله من طاعته: (من يطع الرسول فقد أطاع الله). ولا عجب أن نجد فيهم من يدعو إلى الاكتفاء بالقرآن، وإلغاء السنة كلها ! أو من يدعو إلى الأخذ بالسنة المتواترة، ويلغي سنن الآحاد، وهي جمهرة السنة. أو من يدعو إلى الأخذ بالسنة العملية، وإخراج الأحاديث القولية، وعليها مدار السنة . وجهل هؤلاء أنهم بهذا يخالفون القرآن نفسه، ويخرجون عن إجماع الأمة، وينكرون العلوم من الدين بالضرورة. فإذا تنازلنا لهؤلاء - على سبيل الافتراض - وقبلنا كلامهم المردود عن السنة، فسرعان ما نجدهم يخطون خطوة أخرى أجرأ وأوقح، وهي التطاول على القرآن نفسه، وعلى أحكام القرآن الثابتة القطعية.
ولا غرو أن نجد منهم من يكتب - بلا وجل ولا خجل - يريد أن يعطل الحدود ويعطل الأوامر، ويحل الحرام، ويحرم الحلال، كل ذلك بدعوى التطور والتجديد والمحافظة على روح الإسلام لا شكله !. إن واحداً من هؤلاء القوالين المتقولين - ممن فتحت لهم بعض الصحف والمجلات ذراعيها ليكتب ما يشاء - يقول في تبجح: ( إن القرآن لم ينزل لتنظيم عصر الفضاء ! بل لتنظيم مجتمع بدائي جاهلي ) إنه يتهم الله الجليل بقصور العلم، وإنه لم يكن يعلم ماذا تكون عليه مخلوقاته بعد مدة من الزمن. وآخر يقول: (إن آية: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) إنما نزلت لردع من يسرق ناقة العربي في صحراء الجزيرة، وفيها كل متاعه وحياته !! ولو كان عند هذا المدعى شئ من المعرفة بتاريخ العرب في عصر النبوة لعلم أن النوق لم تكن تسرق في ذلك العهد، بل كانت تترك ولا تلتقط إذا وجدت في البرية، فمعها حذاؤها وسقاؤها. وحوادث السرقة التي ثبتت في ذلك العصر لم يكن واحد منها متعلقاً بسرقة ناقة أو جمل ! نحن ندعو إلى الاجتهاد لا الفوضى، وإلى التجديد لا التبديد ! إلى فقه الأصلاء، لا تطاول الأدعياء.


الإسلام ليس مادة هلامية

عاشراً: إن الأصول العامة التي ندعو إليها واضحة بينة، حددنا معالمها في مباحث وكتب أخرى. ولقد أوهم بعض الذين كتبوا مشككين أو معارضين للدعوة إلى تطبيق الشريعة، أوهموا أن الشريعة المدعو إلى تطبيقها مادة ( هلامية ) رجراجة غير محددة ولا منضبطة، يستطيع كل حاكم أو كل فريق أن يفسرها كما يشاء. حتى وجدنا من يقول: أي إسلام تدعوننا إليه، وتطالبوننا بتحكيمه ؟ فقد رأينا الإسلام الذي ادعى بعض الحكام تطبيقه اليوم يختلف من بلد إلى آخر. فهناك إسلام السودان، وإسلام إيران، وإسلام باكستان، وإسلام ليبيا !! أو كما عبر أحدهم بصراحة: إسلام النميري، أم إسلام الخميني، أم إسلام ضياء الحق، أم إسلام القذافي؟ ونقول لهؤلاء: إن الإسلام هو الإسلام، غير مضاف إلى أحد إلا إلى من شرعه أو من بلغه. فهو إسلام القرآن والسنة، ولا يرتبط باسم شخص إلا باسم محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي بعثه الله بشيرً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. ومهما اختلفت التفسيرات، أو اختلفت التطبيقات لشريعة الإسلام، فستظل هناك دائرة غير ضيقة ولا هينة، تمثل الوحدة الاعتقادية والفكرية والشعورية والسلوكية للأمة. تلك هي دائرة ( القطعيات ) التي أجمعت عليها الأمة فكراً وعملاً، ورسخت في عقولها وقلوبها وحياتها على امتداد القرون الأربعة عشر، التي قطعتها هذه الأمة. هناك قطعيات في العقيدة والفكر .. وقطعيات في العبادة والشعائر، وقطعيات في الشريعة والنظم، وقطعيات في الأخلاق والآداب .. وكلها مما لا يختلف فيه اثنان، ولا ينتطح فيها عنزان، كما يقولون. وهذه القطعيات وحدها هي أساس التشريع، ومحوره، وهى التي تحدد الاتجاه والأهداف، وترسم النهج والطريق، وتميز الملامح والقسمات. وأما ما عدا القطعيات من أحكام وأنظمة، فهو لم يترك لعبث الأهواء المتسلطة، أو شطحات الأفكار الجامحة، أو لاستبداد السلطات المتحكمة، تفهمه كما تريد، وتفسره كما يحلو لها، دون أصل تستند إليه، ولا برهان تعول عليه. كلا .. بل هناك ( أصول ) و ( قواعد ) وضعها أئمة الإسلام، للاستيثاق من ثبوت النص الشرعي أولاً، ثم لفهم دلالته ثانياً، ثم للاستنباط فيما لا نص فيه ثالثاً.

ومن ثم وجد علم أصول الفقه، وقواعد الفقه، وأصول الحديث، وأصول التفسير، ونحوها من المعينات اللازمة للفهم والاستنباط. ولا بأس أن تتعدد المدارس في الفهم والاستنباط، على أن يقوم ذلك على أصول منهجية علمية مبنية على الدليل، لا على الهوى أو التقليد. وربما كان هذا الخلاف مصدر إثراء للفكر الإسلامي، والعمل الإسلامي، إذا وضع في إطاره الصحيح.


سنة التدرج

حادي عشر: إن التدرج سنة من سنن الله في خلقه، وشرعه، فقد خلق الإنسان أطواراً: علقة، فمضغة، فعظاماً …. إلخ , وخلق الدنيا في ستة أيام، الله أعلم بكل يوم منها كم هو؟ كما أنه فرض الفرائض وحرم المحرمات على مراحل، وفق سنة التدرج، مراعاة لضعف البشر ورحمة بهم. والشريعة قد اكتملت بلا شك، ولكن تطبيقها في عصرنا يحتاج إلى تهيئة وإعداد لتحويل المجتمع إلى الالتزام الإسلامي الصحيح، بعد عصر الاغتراب والتغريب. وقد تم بعض هذا في بعض البلاد، وبقي بعض، وهو يحتاج إلى بذل الجهود، لإزالة العوائق، ومنع الهزات، وإيجاد البدائل، وتربية طلائع المنفذين الثقات، الذين يجمعون بين القوة والأمانة، واجتماعهما في الناس قليل، طالما شكا منه الأقدمون حتى قال عمر: ( اللهم إني أشكو إليك عجز الثقة وجلد الفاجر). ولهذا لا مانع من التدرج في التطبيق، رعاية لحال الناس، واتباعاً للتوجيه النبوي الكريم: ( إن الله يحب الرفق في الأمر كله ) ، وكما نهج ذلك الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. فقد روى المؤرخون عن عمر بن عبد العزيز: أن ابنه عبد الملك - وكان أفضل أبنائه - قال له يوماً: يا أبت: مالك لا تنفذ الأمور ؟! فوالله ما أبالي لو أن القدور فلت بي وبك في الحق. يريد الشاب التقي المتحمس من أبيه - وقد ولاه الله إمارة المؤمنين - أن يقضي على المظالم وآثار الفساد دفعة واحدة، دون تريث ولا أناة، وليكن بعد ذلك ما يكون ! فماذا كان جواب الأب الصالح، والخليفة الراشد، والفقيه المجتهد ؟ قال عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتة. يعني أنه يريد أن يسقيهم الحق جرعة جرعة، ويحملهم على طريقه خطوة خطوة. ومرة أخرى، يدخل عليه ابنه المؤمن المتوقد حماسة وغيرة، ويقول عاتباً أو غاضباً: ( يا أمير المؤمنين: ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو سنة فلم تحيها ؟ فقال أبوه: رحمك الله وجزاك من ولد خيراً ! يا بنى: إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً يكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يراق في سببي محجمة من دم ! أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا، إلا وهو يميت بدعة، ويحي فيه سنه ؟. فالتدرج بهذا المعنى مقبول، وهو سنة كونية، وسنة شرعية. كل ما نؤكده هنا: ألا يكون هذا مجرد تكأة لتأجيل العمل بالشريعة، وتمويت الموضوع بمرور الزمن، باسم التدرج والتهيئة ! إنما الواجب اتباع سياسة ابن عبد العزيز: ألا يمر يوم إلا وتموت فيهبدعة، وتحي سنة، وبهذا يتحقق التدرج المطلوب. فالتدرج يعنى: تحديد الهدف، وتهيئة الخطة، وتعيين المراحل، وحشد الطاقات في خدمة الغرض المنشود. ولهذا نطالب بوضع الخطة للإمداد والتغيير، تعليمياً وإعلامياً، وثقافياً واجتماعياً، بادئين بما لا يحتاج إلى تدرج ولا تهيئة، وإنما يحتاج إلى صدق التوجه، ومعه العزيمة، وإذا صدق العزم وضح السبيل.


لا يطبق الشريعة حقاً إلا من يؤمن بها

ثاني عشر: إن الشريعة لا يمكن أن تطبق تطيقاً حقيقياً إلا إذا قام على تطبيقها أناس يؤمنون بقدسيتها، وربانية مصدرها، وعدالة أحكامها، وسمو أهدافها، ويتعبدون لله بتنفيذها، وهذا يجعلهم يحرصون على فهمها فهماً دقيقاً، وعلى فقه أحكامها ومقاصدها فقهاً عميقاً، ويتفانون في تذليل العقبات أمامها، كما يحرصون على أن يكونوا صورة طيبة لمبادئها، وأسوة حسنة لغير المقتنعين بها، يراهم الآخرون في إيمانهم وأخلاقهم وسلوكهم، فيحبون الشريعة لا يرون من أثرها في حياتهم. وهكذا كان الصحابة والمسلمون الأوائل - رضي الله عنهم - أحب الناس الإسلام بحبهم، ودخلوا فيه أفواجاً، متأثرين بأخلاقهم وإخلاصهم، فقد كان كل منهم قرآناً حياً يسعى بين الناس على قدمين. إن عيب كثير من التجارب العامرة لتطبيق الشريعة الإسلامية، التي كانت موضع المؤاخذة والتنديد من الناقدين والمراقبين: أنها نفذت بأيدي غير أهلها، أعني غير دعاتها ورعاتها. أي على أيدي أناس كانوا من قبل في صف المناوئين لها، أو على الأقل، من الغافلين عنها، غير المتحمسين لها، والملتزمين بها. إن الرسالات الكبيرة تحتاج إلى حراس أقويا , من رجالها وأنصارها يكونوا هم المسئولين الأوائل عن وضع قيمها وتعاليمها النظرية موضع التنفيذ. وبغير هذا يكون التطبيق أمراً صورياً لا يغير الحياة من جذورها، ولا ينفذ بالإصلاح إلى أعماقها.


الشريعة للشعوب كما هي للحكام

ثالث عشر: إن تطبيق الشريعة ليس عمل الحكام وحدهم، وإن كانوا هم أول من يطالب بها، باعتبار ما في أيديهم من سلطات تمكنهم من عمل الكثير من الأشياء التي لا يقدر عليها غيرهم، وقد كان بعض السلف يقولون: لو كانت لنا دعوة مستجابة لدعوناها للسلطان، فإن الله يصلح بصلاحه خلقاً كثيراً. وهذا كان في عصر لم يكن زمام التعليم، والإعلام، والتثقيف، والتوجيه، والترفيه بيد السلطان كما هو اليوم. ومع هذا نقول: إن على الشعب مسؤولية تطبيق الشريعة في كثير من الأمور التي لا تحتاج إلى سلطان الدولة وتدخل الحكام. إن كثيراً من أحكام الحلال والحرام، والأحكام التي تضبط علاقة الفرد بالفرد، والفرد بالأسرة، والفرد بالمجتمع، قد أهملها المسلمون أو خالفوا فيها من أمر الله، وتعدوا حدود الله، ولن يملح حالهم إلا إذا وقفوا فيها عند حدود الله تعالى، والتزموا بأمره ونهيه بوازع من أنفسهم، وشعورهم برقابة ربهم علبهم. ويجب على الدعاة والمفكرين والمربين أن يبذلوا جهودهم لتقوم الشعوب بواجبها في تطبيق ما يخصها من شرع الله، ولا يكون كل همها مطالبة الحكام بتطبيق الشريعة، وكأنهم بمجرد أن يرفعوا أصواتهم بهذه المطالبة قد أدوا كل ما عليهم.