Bunny-Star
01-28-2009, 10:28 AM
التعليق الوارد الى مجلة حمورابى من المستشار هشام البسطويسى نائب رئيس محكمة النقض حول الحكم المشار اليه من أجل إصلاح قضائي لسلطة القضائية والمحكمة الدستورية :
أثار مقال السيد المستشار شفيق إمام في جريدة الأهرام يوم 17 من مايو سنة 2004 العديد من الموضوعات ونكأ في براعة جراحا أهملت الدولة مداواتها مما سبب حالة من التربص والريبة في أحكام القضاء العادي والإداري بل والمحكمة الدستورية أيضا ، وأحسب أنه آن الأوان لمراجعة هذه الموضوعات بأسلوب ديمقراطي إذا كنا نرغب – حقا وصدقا – في إصلاح سياسي وقضائي ينبع من مصالح شعبنا ويتفق مع قيم هذه الأمة العظيمة ، وأشير – بداءة – إلى إتفاقي مع مجمل ما ورد بمقال المستشار شفيق إمام ، وأنضم إليه ، وسيكون حديثي من حيث انتهى ، عن اختصاص المحكمة الدستوربتفسير القوانين ، ولكني وجدت أن أقدم لحديثي بملاحظات أحسب أنها تكشف الجراح التي نكأها برفق في مقاله ، معتقدا أن مداواتها لابد أن تبدأ بكشفها : أولا : منذ نشأة القضاء في مصر كان سر عظمته التي نفاخر بها بين الأمم إدراكه أن مهمته الأساسية ليست في تطبيق النصوص التشريعية على الواقع المطروح عليه في الأقضية ، بقدر ما هي في تحقيق العدل بين الناس وحماية الحقوق والحريات والأموال والأعراض من أي عدوان عليها ومهما كان مصدره ، ولذلك تحرص الدساتير على وضع الضمانات والمبادئ التي تكفل تحقيق هذه الغايات السامية ، وأما النصوص التشريعية فلا تعدو أن تكون وسيلته في تحقيق مهمته الأساسية ، والمفترض أن النصوص التشريعية ترعى وتراعي هذه المبادئ ، ولكن ماذا يفعل القاضي عندما يتعارض النص التشريعي معها ؟ فضمير القاضي في مصر يتأبى على إعمال نص يخالف هذه المبادئ أو يغل يده عن تحقيق مهمته الأساسية . ولا يستطيع القاضي أن يقوم بمهمته هذه ، إلا بضمانات توفر له الحيدة والاستقلال ، حتى عن زميله في ذات المحكمة ، وبقدر حسن أداء القاضي لمهمته الأساسية تظله هذه الضمانات ، توصف الأحكام القضائية بأنها عنوان للحقيقة ، وبغيرها يكون هذا الوصف محل شك كبير . وفي أزمنة مختلفة دأبت بعض الحكومات على محاولة غل يد القاضي عن أداء مهمته بحجة أن القضاة لا يتفهمون دوافعها في تحقيق أمنها أو خطط التنمية فيها أو السياسة العامة لها فطالبتهم بدخول التنظيم السياسي والانخراط في تشكيلاته ، وعندما رفضوا الاشتغال بالسياسة وطلبوا النأي بهم عنها ، فصلتهم من عملهم القضائي بحجة أنهم يشتغلون بالسياسة ! وفي هذه الظروف ولدت المحكمة العليا ، التي أصبحت بعد ذلك المحكمة الدستورية العليا ، مثيرة الشكوك حولها وحول حقيقة المهمة الموكولة إليها . أرادت الدولة بإنشاء المحكمة العليا - في ذلك الزمان - أن تغل يد السلطة القضائية عن إعمال رقابتها على دستورية القوانين ، فهل ما زالت ترغب في ذلك في زماننا الحالي ؟ وهل تحقق لها ما تريد ؟ وهل يمكن لقاض جنائي في مصر أن يقبل إعمال نص يهدر قرينة البراءة المفترضة في الكافة مثلا ، هل من مصلحة أحد في مصر أن يحكم قاض بما يخالف ما وقر في ضميره واستقر في عقيدته نزولا على حكم نص جائر يخالف مبادئ الدستور والقيم العليا للأمة ؟ وهل يتحمل ضمير الأمة بقاء سيف الاتهام مسلط على شخص وقد يكون مقيد الحرية إلى أن تفصل المحكمة الدستورية في مدى دستورية نص مع العلم بأن هناك من الطعون بعدم الدستورية ما ينتظر الفصل فيه لسنوات طويلة لأسباب غير مبررة ؟ وهل يصح أن تكون أحكام أي محكمة مهما علا شأنها قيدا على حق القاضي الجنائي في الحكم بما استقر في يقينه من فهم لنص القانون وعقيدته عن واقع الدعوى المطروح عليه ويراه محققا للعدل بين الناس ؟ إن مصدر فخرنا بقضائنا لم يكن بسبب ما أصدره من أحكام طبق فيها نص القانون على الواقع المطروح عليه ، فهذا أمر عادي يمارسه كل قاض كل يوم في عشرات الأقضية ، ولكن بسبب فهمه وتفسيره للنص القانوني ليطوعه لمصلحة تحقيق العدل وحماية الحريات والحرمات في تلك الأقضية . ثانيا : إن المحكمة العليا ومن بعدها المحكمة الدستورية ، تقوم الحاجة لمثلها في الدول الكونفيدرالية ، للرقابة على مدى اتفاق القوانين التي تصدر عن السلطات التشريعية في الدول والمقاطعات المختلفة مع الدستور الاتحادي ، وتتضاءل الحاجة لها في دولة موحدة ، لأن الاختصاص بالفصل في دستورية القوانين هو اختصاص أصيل للمحاكم العادية ، وفي مصر ظلت محاكم السلطة القضائية ( بفرعيها العادي والإداري ) تقوم على هذا الواجب في كفاية ، بل إن الوحدة بين مصر وسوريا ، ولأنها كانت اتحادا فيدراليا كاملا ، لم تقتض إنشاء محكمة دستورية ، ولكن نشأت الحاجة إليها من رغبة الحكومة في حماية تشريعاتها – وإن شابها ما يعرف في الفقه الدستوري بعيب الانحراف التشريعي - من أحكام محاكم السلطة القضائية بفرعيها التي انتصرت فيها لأحكام الدستور ومبادئ العدالة ، وهو ما تصورته تلك الحكومات مروقا وانفلاتا من سياسات الدولة ، فأنشأت المحكمة العليا ضمن حزمة قوانين مذبحة العدالة والقضاء في سنة 1969 ، بهدف تحصين هذه التشريعات من رقابة السلطة القضائية ، ثم حولتها بعد ذلك إلى المحكمة الدستورية العليا ، وهو ما يدل على أن إنشاء هذه المحكمة لم يكن استجابة لحاجة البلاد أو حسن سير العدالة ، بل استجابة لوَهمُ خامر فكرها في فترة من الفترات ، فبدت وكأنها غرسا في أرض لا تصلح له . آية ذلك أن المشرع الدستوري ذاته وجد حرجا في أن يورد ذكرها في فصل السلطة القضائية ولم يعتبرها منها وأفرد لها فصلا أسماها فيه هيئة قضائية . والحق أنها ليست من السلطة القضائية لأن عملها ليس قضائيا صرفا بل هي في حقيقة الأمر وبحكم طبيعة اختصاصها محكمة قضائية سياسية على حد تعبير الفقيه العظيم الدكتور محمد عصفور . ثالثا : أما وقد أصبحت المحكمة الدستورية واقعا في دستور البلاد ، ولا مناص من بقائها ، فلا أقل من وضع الضوابط التي تكفل حسن أداء عملها ، بدءا من قاعدة تكفل رئاستها لمن تختاره جمعيتها العمومية من بين أعضائها وليس بإقحام من لم يمارس العمل فيها عليها ، وليس صحيحا أن ما نص عليه الدستور من دور لرئيسها في حالة فراغ منصب رئيس الجمهورية - في حالة فريدة هي أن يصادف هذا الفراغ فراغا مماثلا لمنصب رئيس مجلس الشعب – يبرر أن يكون تعيين رئيس المحكمة الدستورية بقرار من رئيس الجمهورية ( وهو في نظامنا الرئاسي رأس السلطة التنفيذية ) يختار فيه رئيس المحكمة الدستورية بدون ضوابط موضوعية مما يتعارض مع نص الدستور من أنها "مستقلة"، وغير ذلك كثير من القواعد التي يتعين مراجعتها لتضفي الثقة على عملها وتجعله بعيدا عن مظنة تدخل السلطة التنفيذية ، ويقترب بها من وصف السلطة القضائية وتقاليدها وقيمها . في الاختصاص بتفسير القانون: وبعد ، فإن ما أثاره المقال في نهايته عن اختصاص المحكمة الدستورية بتفسير القوانين ، يلزم فيه بعض التفصيل والإيضاح أوجزه في النقاط التالية : أولا : الأصل أن ولاية القضاء في جميع أنواع المنازعات تكون للقضاء العادي وحده ، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا ما أفرد له – بنص صريح - اختصاص يقصره على غير القضاء العادي ، وإلا كان الاختصاص مشتركا بينه وبين القضاء العادي ، فاختصاص القضاء الاداري بالفصل في المنازعات الإدارية هو - بنص خاص - مقصور عليه دون غيره ، وكذلك الحال في شأن اختصاص المحكمة الدستورية بالرقابة على دستورية القوانين وبفض تنازع الاختصاص بين جهات القضاء ايجابيا كان أو سلبيا ، فقد قصره المشرع عليها دون غيرها ، دون أن يسلب حق المحاكم كافة في عدم إعمال النص التشريعي المخالف للدستور ، ذلك أن المحكمة الدستورية لا تقضي بدستورية النص وإنما تقضي برفض الطعن فيه بعدم الدستورية مقيدة في ذلك بما أثاره الطاعن من حجج وأسباب لطعنه وما قدمه من دليل عليها ، فهي لا تبحث كل ما قد يثيره النص من أسباب عدم الدستورية ، وهو ما لا يصح أن يكون له من حجية أمام المحكمة الدستورية ذاتها ولا غيرها من المحاكم لو أثيرت أسباب أخرى أو مطاعن جديدة أو أدلة جديدة على عدم دستورية ذات النص ، ومن ثم يتعين أن تقتصر حجية الحكم الصادر منها برفض الدعوى بعدم دستورية نص على ما ناقشته في أسبابها من أوجه الطعن المثارة فيها وما قدم من أدلة عليها ، أما القول بأن رفض الدعوى بعدم دستورية نص يطهر النص من كل أسباب عدم دستوريته ولو لم تثر أمام المحكمة ولم تناقشها في أسبابها فهو أمر لا سند له من القانون أو المنطق القضائي ، ويفتح الباب أمام كل من له مصلحة في بقاء النص الغير دستوري إلى المسارعة في الطعن عليه والتقاعس عن إبداء أسباب حقيقية بما يؤدي إلى رفض الدعوى وإغلاق الباب أمام كافة الطعون الجدية على النص ، ولذلك فإن حكم المحكمة الدستورية تقوم حجيته على الكافة في حالة الحكم بعدم دستورية النص أما في حالة الحكم برفض الطعن فإن حجيته تقتصر على النطاق الذي أشرنا إليه . ثانيا : أن تفسير النص التشريعي هو اختصاص لجميع جهات القضاء وبكافة درجاتها ، ولم يقصره المشرع ، وما كان له أن يقصره ، على المحكمة الدستورية ، بل أزعم أنها لا تختص أصلا بتفسير القوانين والنصوص التشريعية لأن تفسير النص هو مسألة متصلة بتطبيقه وهو الاختصاص الأصيل للمحاكم كافة ولا يمكن أن يسلب هذا الاختصاص منها ، ومن ثم فإن نطاق اختصاص المحكمة الدستورية بتفسير القوانين يجب أن يكون في الحدود التي لا تتعارض مع هذا الأصل ولا تنتقص من واجب المحاكم كافة في مباشرته ، وهو ما لا يتأتى إلا إذا كان اختصاصها في هذا الخصوص – وفقا لنص المادتين 26 ، 33 من قانونها – مقصور على حالة تنازع جهتي القضاء العادي ( ممثلة في محكمة النقض ) والإداري ( ممثلة في المحكمة الإدارية العليا ) بين تفسيرين لنص قانوني واحد وكان تفسير كل منهما يتعارض مع تفسير الجهة الأخرى ويستحيل التوفيق بينهما ، وهو ما عبر عنه المشرع بعبارة " الخلاف في التطبيق " ، الذي يأذن للمحكمة الدستورية حسمه بتفسير ملزم للنص محل الخلاف ، أي أن المحكمة الدستورية لا تختص بالتفسير ابتداء أو كلما رأت الحكومة أن تطلب إليها تفسيرا لنص ، بل هو اختصاص أشبه باختصاصها في حالتي تنازع الاختصاص الإيجابي والسلبي بين جهتي القضاء في مصر. ومن ثم ، يشترط لتصدي المحكمة الدستورية لتفسير النص عدة شروط أهمها أن تكون جهة القضاء العادي قد استقرت على تفسير وفهم وتطبيق لنص قانوني يتعارض مع ما استقر عليه القضاء الإداري من تفسير وفهم وتطبيق لذات النص على نحو يستحيل معه الجمع بين التفسيرين وأن تقدر إحدى الجهات الواردة بالمادة 33 أهمية توحيد تفسير النص ، مما يقطع بأن اختصاص المحكمة الدستورية في تفسير النصوص ليس من قبيل الاختصاص الولائي ولكنه اختصاص بفض تنازع جهتي القضاء في مصر حول تفسير وتطبيق النص في حالة قيام تعارض بينهما ، أما التفسير –إبتداء- فهو اختصاص أصيل ، كما أسلفنا القول ، لكل محاكم جهتي القضاء ، وهو ما خالفته المحكمة الدستورية فيما عرض عليها من طلبي تفسير في شأن تحديد الهيئات القضائية وفي شأن فتح باب الترشيح للكافة أو قصره على من كان مرشحا في الانتخاب الذي أسفر عن فوز مرشح لا تتوافر فيه شروط الترشيح لمجلس الشعب ، لأن التفسير الأول لم يكن محل تنازع بين جهتي القضاء ، وما أشارت إليه المحكمة الدستورية في قرارها التفسيري من وجود تفسير مخالف لتفسير محكمة النقض ينطوي على مغالطة في الواقع والقانون ، ذلك أن الحكم الذي أشارت إلى صدوره من جهة القضاء الإداري لم يكن إلا قضاء في شق مستعجل لا حجية له أمام ذات المحكمة التي أصدرته عند نظرها للموضوع وهو ما لم تفصل فيه حتى الآن ومازال معروضا عليها !!!! ولم يكن من الممكن القول بوجود تنازع في التفسير بين المحكمتين إلا بعد صدور الحكم في الموضوع وفوات مواعيد الطعن عليه ، أو أن يطعن عليه ويصدر حكم من المحكمة الإدارية العليا يؤيد اجتهاد محكمة القضاء الإداري في تفسيرها عند الفصل في الشق المستعجل ، وهو ما لم يحدث لأن الدعوى مازالت متداولة أمام محكمة أول درجة لنظر موضوعها ، بل أن تفسير المحكمة الدستورية فضلا عما يعيبه من غصب سلطة محكمة القضاء الإداري المطروح عليها النزاع لتفصل فيه وحقها في التفسير الذي تراه في النص ، فهو معيب – أيضا – بعيب محاولة إلزام محكمة القضاء الإداري بتفسير معين قد ترى غيره عند فصلها في موضوع الدعوى مما يصيبها بحرج في أن تقضي في الدعوى وفقا لتفسيرها وفهمها للنص ، وهو أمر مؤثم قانونا ، وهو نفس الخطأ الذي وقعت فيه المحكمة العليا في قضية المرحوم كمال الدين حسين وعابته عليها المحكمة الإدارية العليا وخالفت التفسير الصادر عن المحكمة العليا في ذلك الوقت ولم تلتزمه . وأخيرا ، فقد ورطت الحكومة – بتفسيرها المنعدم – في معاودة اسناد الإشراف على انتخابات الشورى إلى الهيئتين المقضي من محكمة النقض ببطلان إشرافهما على الانتخابات متكأة على تفسير تصورت أنه ملزم للمحاكم عملا بنص القانون وفاتها أن شرط ذلك - ككل عمل - أن يكون قد صدر مستوفيا لمشروعيته ، أما وقد صدر في غير ولاية لها ، منطويا على غصب لسلطة محاكم السلطة القضائية ، فإنه يكون هابط الأثر ومنعدم الحجية . وجدير بالذكر أن عدة جهات ومنظمات دولية رصدت هذا الخلاف المفتعل وأشارت إليه في تقاريرها عن حالة العدالة واستقلال القضاء في مصر مستنكرة إهدار ومخالفة حكم محكمة النقض وما تضمنه من مبادئ دستورية وقانونية منها على سبيل المثال تقرير الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان الذي اعتبر مسلك الحكومة المصرية في إضفاء صفة الهيئة القضائية على هيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية دليل على إهدار مصر لمبدأ استقلال القضاء ، وتقرير عن وضع القضاء في مصر أعده أحد المراكز العربية في لبنان في إطار البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ومنشور على الإنترنت وتضمن في القسم الرابع منه بعنوان نظرة عامة تحليلية حول أهم الاعتداءات على مبادئ النزاهة القضائية ضمن مثالب عديدة أخرى سيكون مجال الحديث عنها في مقالات لاحقة بإذن الله ، انتقادا واضحا لمسلك كل من الحكومة المصرية والمحكمة الدستورية فيما ذهبا إليه من اعتبار الهيئتين المذكورتين من الهيئة القضائية واسناد الاشراف على الانتخابات لهما ، فضلا عن عدد من البيانات الصادرة من عدة جهات منها المنظمة المصرية لحقوق الانسان والمركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة ، وهو ما يعتبر انتكاسة لما شيده القضاء المصري على مر التاريخ من سمعة عن استقلاله وتمسكه بالمعايير الدولية لاستقلال القضاء . أما التفسير الآخر فانعدامه أظهر وغصب سلطة التفسير فيه أوضح ، ذلك بأن الخلاف الذي استندت إليه المحكمة الدستورية في التفسير وأباحت لنفسها ما هو محرم عليها ، كان بين محكمة أول درجة ومحكمة ثاني درجة في القضاء الإداري ، أي في نفس جهة القضاء ، وأحسب أن هذا لا يحتاج إلى تعليق أو شرح ، فالعامة يمكنهم إدراك العوار في مسلك المحكمة الدستورية دون جهد يذكر ، فالخلاف بين درجات التقاضي يحدث كل يوم وفي مئات القضايا الهامة وغير الهامة ، ولذلك وجدت درجات التقاضي ، وتوحيد التفسير والتطبيق هو المهمة الأساسية لمحكمة النقض في القضاء العادي ومهمة المحكمة الإدارية العليا في القضاء الإداري ، وهو لا يبيح – بغير خلاف بين رجال القانون كافة– للمحكمة الدستورية أي اختصاص أو حق في تفسير النص القانوني ، وتدخلها هو غصب لسلطة ليست لها بل هي لجهتي القضاء وحدهما كل في اختصاصه ، ومحاولة فرض تفسير معين أو تطبيق معين دون سند من القانون ، والأغرب أن تنتصر المحكمة الدستورية لتفسير محكمة أول درجة مهدرة تفسير محكمة ثاني درجة ، وهو ما يلغي وظيفتها تماما ، ويهدم النظام القضائي من أساسه ، ويجعل المحكمة الدستورية جهة طعن على أحكام محكمة الدرجة الأخيرة وهي محكمة القانون دون سند من القانون ، بل وبالمخالفة لأحكام القانون ، رغم ما حرصت المذكرة الإيضاحية لقانونها على تأكيده من أن اختصاص المحكمة الدستورية بالتفسير لا يحول دون مباشرة السلطة التشريعية حقها في إصدار التشريعات التفسيرية ابتداء أو بالمخالفة لما انتهت إليه المحكمة الدستورية العليا من تفسير وأن هذا الاختصاص لا يصادر حق جهات القضاء الأخرى جميعا في تفسير القوانين وإنزال تفسيرها على الواقعة المعروضة عليها ما لم يصدر بشأن النص المطروح أمامها تفسير ملزم سواء من السلطة التشريعية أو من المحكمة الدستورية ، وأن تخويلها حق التفسير التشريعي لا يقصد به تقييد اختصاص المحاكم ولا فرض رقابة أو وصاية على أحكامها وإنما فض التنازع بين جهات القضاء عند اختلافها في تفسير نص تشريعي ، ومن البديهي أنه يتعين أن يكون القرار التفسيري الصادر من المحكمة الدستورية قد صدر في الحالة التي خولها المشرع فيها التصدي للتفسير ، ليكون ملزما ، وإلا فهو والعدم سواء بسواء ، ويكون غير ملزم لأحد . ومن المفارقات التي يلزم التذكير بها أن الراحل العظيم المستشار ممتاز نصار حذر من المشاكل التي سيثيرها هذا النص الغريب الذي يعطي المحكمة الدستورية حق تفسير النصوص وتنبأ بما يحدث حاليا من سؤ استعمال هذا الحق ، في مناقشات مجلس الشعب ، ولكن رد عليه بأن ما يخشاه غير وارد مادام أن اختصاصها بالتفسير مقصور على حالة تنازع التفسير بين جهتي القضاء ولا يسلب حق المحاكم كافة في تفسير النص القانوني . والقول بغير ذلك يتهادم به النظام القضائي الذي نفاخر به ، وأحسب أن أحدا في مصر يسعى لذلك أو يرضى به . وأخيرا ، يجب التأكيد على أن كل ما تقدم من ملاحظات لا ينال من تقديرنا الكامل لقضاة المحكمة الدستورية ورئيسها ، ولدورها بما صدر عنها من أحكام ناصعة خاصة في عهد الراحل العظيم المستشار عوض المر ، انتصرت فيها للدستور وقيمه السامية ، ولكنه واجب النقد البناء الذي يهدف إلى إصلاح أظهر العمل الحاجة إليه .
أثار مقال السيد المستشار شفيق إمام في جريدة الأهرام يوم 17 من مايو سنة 2004 العديد من الموضوعات ونكأ في براعة جراحا أهملت الدولة مداواتها مما سبب حالة من التربص والريبة في أحكام القضاء العادي والإداري بل والمحكمة الدستورية أيضا ، وأحسب أنه آن الأوان لمراجعة هذه الموضوعات بأسلوب ديمقراطي إذا كنا نرغب – حقا وصدقا – في إصلاح سياسي وقضائي ينبع من مصالح شعبنا ويتفق مع قيم هذه الأمة العظيمة ، وأشير – بداءة – إلى إتفاقي مع مجمل ما ورد بمقال المستشار شفيق إمام ، وأنضم إليه ، وسيكون حديثي من حيث انتهى ، عن اختصاص المحكمة الدستوربتفسير القوانين ، ولكني وجدت أن أقدم لحديثي بملاحظات أحسب أنها تكشف الجراح التي نكأها برفق في مقاله ، معتقدا أن مداواتها لابد أن تبدأ بكشفها : أولا : منذ نشأة القضاء في مصر كان سر عظمته التي نفاخر بها بين الأمم إدراكه أن مهمته الأساسية ليست في تطبيق النصوص التشريعية على الواقع المطروح عليه في الأقضية ، بقدر ما هي في تحقيق العدل بين الناس وحماية الحقوق والحريات والأموال والأعراض من أي عدوان عليها ومهما كان مصدره ، ولذلك تحرص الدساتير على وضع الضمانات والمبادئ التي تكفل تحقيق هذه الغايات السامية ، وأما النصوص التشريعية فلا تعدو أن تكون وسيلته في تحقيق مهمته الأساسية ، والمفترض أن النصوص التشريعية ترعى وتراعي هذه المبادئ ، ولكن ماذا يفعل القاضي عندما يتعارض النص التشريعي معها ؟ فضمير القاضي في مصر يتأبى على إعمال نص يخالف هذه المبادئ أو يغل يده عن تحقيق مهمته الأساسية . ولا يستطيع القاضي أن يقوم بمهمته هذه ، إلا بضمانات توفر له الحيدة والاستقلال ، حتى عن زميله في ذات المحكمة ، وبقدر حسن أداء القاضي لمهمته الأساسية تظله هذه الضمانات ، توصف الأحكام القضائية بأنها عنوان للحقيقة ، وبغيرها يكون هذا الوصف محل شك كبير . وفي أزمنة مختلفة دأبت بعض الحكومات على محاولة غل يد القاضي عن أداء مهمته بحجة أن القضاة لا يتفهمون دوافعها في تحقيق أمنها أو خطط التنمية فيها أو السياسة العامة لها فطالبتهم بدخول التنظيم السياسي والانخراط في تشكيلاته ، وعندما رفضوا الاشتغال بالسياسة وطلبوا النأي بهم عنها ، فصلتهم من عملهم القضائي بحجة أنهم يشتغلون بالسياسة ! وفي هذه الظروف ولدت المحكمة العليا ، التي أصبحت بعد ذلك المحكمة الدستورية العليا ، مثيرة الشكوك حولها وحول حقيقة المهمة الموكولة إليها . أرادت الدولة بإنشاء المحكمة العليا - في ذلك الزمان - أن تغل يد السلطة القضائية عن إعمال رقابتها على دستورية القوانين ، فهل ما زالت ترغب في ذلك في زماننا الحالي ؟ وهل تحقق لها ما تريد ؟ وهل يمكن لقاض جنائي في مصر أن يقبل إعمال نص يهدر قرينة البراءة المفترضة في الكافة مثلا ، هل من مصلحة أحد في مصر أن يحكم قاض بما يخالف ما وقر في ضميره واستقر في عقيدته نزولا على حكم نص جائر يخالف مبادئ الدستور والقيم العليا للأمة ؟ وهل يتحمل ضمير الأمة بقاء سيف الاتهام مسلط على شخص وقد يكون مقيد الحرية إلى أن تفصل المحكمة الدستورية في مدى دستورية نص مع العلم بأن هناك من الطعون بعدم الدستورية ما ينتظر الفصل فيه لسنوات طويلة لأسباب غير مبررة ؟ وهل يصح أن تكون أحكام أي محكمة مهما علا شأنها قيدا على حق القاضي الجنائي في الحكم بما استقر في يقينه من فهم لنص القانون وعقيدته عن واقع الدعوى المطروح عليه ويراه محققا للعدل بين الناس ؟ إن مصدر فخرنا بقضائنا لم يكن بسبب ما أصدره من أحكام طبق فيها نص القانون على الواقع المطروح عليه ، فهذا أمر عادي يمارسه كل قاض كل يوم في عشرات الأقضية ، ولكن بسبب فهمه وتفسيره للنص القانوني ليطوعه لمصلحة تحقيق العدل وحماية الحريات والحرمات في تلك الأقضية . ثانيا : إن المحكمة العليا ومن بعدها المحكمة الدستورية ، تقوم الحاجة لمثلها في الدول الكونفيدرالية ، للرقابة على مدى اتفاق القوانين التي تصدر عن السلطات التشريعية في الدول والمقاطعات المختلفة مع الدستور الاتحادي ، وتتضاءل الحاجة لها في دولة موحدة ، لأن الاختصاص بالفصل في دستورية القوانين هو اختصاص أصيل للمحاكم العادية ، وفي مصر ظلت محاكم السلطة القضائية ( بفرعيها العادي والإداري ) تقوم على هذا الواجب في كفاية ، بل إن الوحدة بين مصر وسوريا ، ولأنها كانت اتحادا فيدراليا كاملا ، لم تقتض إنشاء محكمة دستورية ، ولكن نشأت الحاجة إليها من رغبة الحكومة في حماية تشريعاتها – وإن شابها ما يعرف في الفقه الدستوري بعيب الانحراف التشريعي - من أحكام محاكم السلطة القضائية بفرعيها التي انتصرت فيها لأحكام الدستور ومبادئ العدالة ، وهو ما تصورته تلك الحكومات مروقا وانفلاتا من سياسات الدولة ، فأنشأت المحكمة العليا ضمن حزمة قوانين مذبحة العدالة والقضاء في سنة 1969 ، بهدف تحصين هذه التشريعات من رقابة السلطة القضائية ، ثم حولتها بعد ذلك إلى المحكمة الدستورية العليا ، وهو ما يدل على أن إنشاء هذه المحكمة لم يكن استجابة لحاجة البلاد أو حسن سير العدالة ، بل استجابة لوَهمُ خامر فكرها في فترة من الفترات ، فبدت وكأنها غرسا في أرض لا تصلح له . آية ذلك أن المشرع الدستوري ذاته وجد حرجا في أن يورد ذكرها في فصل السلطة القضائية ولم يعتبرها منها وأفرد لها فصلا أسماها فيه هيئة قضائية . والحق أنها ليست من السلطة القضائية لأن عملها ليس قضائيا صرفا بل هي في حقيقة الأمر وبحكم طبيعة اختصاصها محكمة قضائية سياسية على حد تعبير الفقيه العظيم الدكتور محمد عصفور . ثالثا : أما وقد أصبحت المحكمة الدستورية واقعا في دستور البلاد ، ولا مناص من بقائها ، فلا أقل من وضع الضوابط التي تكفل حسن أداء عملها ، بدءا من قاعدة تكفل رئاستها لمن تختاره جمعيتها العمومية من بين أعضائها وليس بإقحام من لم يمارس العمل فيها عليها ، وليس صحيحا أن ما نص عليه الدستور من دور لرئيسها في حالة فراغ منصب رئيس الجمهورية - في حالة فريدة هي أن يصادف هذا الفراغ فراغا مماثلا لمنصب رئيس مجلس الشعب – يبرر أن يكون تعيين رئيس المحكمة الدستورية بقرار من رئيس الجمهورية ( وهو في نظامنا الرئاسي رأس السلطة التنفيذية ) يختار فيه رئيس المحكمة الدستورية بدون ضوابط موضوعية مما يتعارض مع نص الدستور من أنها "مستقلة"، وغير ذلك كثير من القواعد التي يتعين مراجعتها لتضفي الثقة على عملها وتجعله بعيدا عن مظنة تدخل السلطة التنفيذية ، ويقترب بها من وصف السلطة القضائية وتقاليدها وقيمها . في الاختصاص بتفسير القانون: وبعد ، فإن ما أثاره المقال في نهايته عن اختصاص المحكمة الدستورية بتفسير القوانين ، يلزم فيه بعض التفصيل والإيضاح أوجزه في النقاط التالية : أولا : الأصل أن ولاية القضاء في جميع أنواع المنازعات تكون للقضاء العادي وحده ، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا ما أفرد له – بنص صريح - اختصاص يقصره على غير القضاء العادي ، وإلا كان الاختصاص مشتركا بينه وبين القضاء العادي ، فاختصاص القضاء الاداري بالفصل في المنازعات الإدارية هو - بنص خاص - مقصور عليه دون غيره ، وكذلك الحال في شأن اختصاص المحكمة الدستورية بالرقابة على دستورية القوانين وبفض تنازع الاختصاص بين جهات القضاء ايجابيا كان أو سلبيا ، فقد قصره المشرع عليها دون غيرها ، دون أن يسلب حق المحاكم كافة في عدم إعمال النص التشريعي المخالف للدستور ، ذلك أن المحكمة الدستورية لا تقضي بدستورية النص وإنما تقضي برفض الطعن فيه بعدم الدستورية مقيدة في ذلك بما أثاره الطاعن من حجج وأسباب لطعنه وما قدمه من دليل عليها ، فهي لا تبحث كل ما قد يثيره النص من أسباب عدم الدستورية ، وهو ما لا يصح أن يكون له من حجية أمام المحكمة الدستورية ذاتها ولا غيرها من المحاكم لو أثيرت أسباب أخرى أو مطاعن جديدة أو أدلة جديدة على عدم دستورية ذات النص ، ومن ثم يتعين أن تقتصر حجية الحكم الصادر منها برفض الدعوى بعدم دستورية نص على ما ناقشته في أسبابها من أوجه الطعن المثارة فيها وما قدم من أدلة عليها ، أما القول بأن رفض الدعوى بعدم دستورية نص يطهر النص من كل أسباب عدم دستوريته ولو لم تثر أمام المحكمة ولم تناقشها في أسبابها فهو أمر لا سند له من القانون أو المنطق القضائي ، ويفتح الباب أمام كل من له مصلحة في بقاء النص الغير دستوري إلى المسارعة في الطعن عليه والتقاعس عن إبداء أسباب حقيقية بما يؤدي إلى رفض الدعوى وإغلاق الباب أمام كافة الطعون الجدية على النص ، ولذلك فإن حكم المحكمة الدستورية تقوم حجيته على الكافة في حالة الحكم بعدم دستورية النص أما في حالة الحكم برفض الطعن فإن حجيته تقتصر على النطاق الذي أشرنا إليه . ثانيا : أن تفسير النص التشريعي هو اختصاص لجميع جهات القضاء وبكافة درجاتها ، ولم يقصره المشرع ، وما كان له أن يقصره ، على المحكمة الدستورية ، بل أزعم أنها لا تختص أصلا بتفسير القوانين والنصوص التشريعية لأن تفسير النص هو مسألة متصلة بتطبيقه وهو الاختصاص الأصيل للمحاكم كافة ولا يمكن أن يسلب هذا الاختصاص منها ، ومن ثم فإن نطاق اختصاص المحكمة الدستورية بتفسير القوانين يجب أن يكون في الحدود التي لا تتعارض مع هذا الأصل ولا تنتقص من واجب المحاكم كافة في مباشرته ، وهو ما لا يتأتى إلا إذا كان اختصاصها في هذا الخصوص – وفقا لنص المادتين 26 ، 33 من قانونها – مقصور على حالة تنازع جهتي القضاء العادي ( ممثلة في محكمة النقض ) والإداري ( ممثلة في المحكمة الإدارية العليا ) بين تفسيرين لنص قانوني واحد وكان تفسير كل منهما يتعارض مع تفسير الجهة الأخرى ويستحيل التوفيق بينهما ، وهو ما عبر عنه المشرع بعبارة " الخلاف في التطبيق " ، الذي يأذن للمحكمة الدستورية حسمه بتفسير ملزم للنص محل الخلاف ، أي أن المحكمة الدستورية لا تختص بالتفسير ابتداء أو كلما رأت الحكومة أن تطلب إليها تفسيرا لنص ، بل هو اختصاص أشبه باختصاصها في حالتي تنازع الاختصاص الإيجابي والسلبي بين جهتي القضاء في مصر. ومن ثم ، يشترط لتصدي المحكمة الدستورية لتفسير النص عدة شروط أهمها أن تكون جهة القضاء العادي قد استقرت على تفسير وفهم وتطبيق لنص قانوني يتعارض مع ما استقر عليه القضاء الإداري من تفسير وفهم وتطبيق لذات النص على نحو يستحيل معه الجمع بين التفسيرين وأن تقدر إحدى الجهات الواردة بالمادة 33 أهمية توحيد تفسير النص ، مما يقطع بأن اختصاص المحكمة الدستورية في تفسير النصوص ليس من قبيل الاختصاص الولائي ولكنه اختصاص بفض تنازع جهتي القضاء في مصر حول تفسير وتطبيق النص في حالة قيام تعارض بينهما ، أما التفسير –إبتداء- فهو اختصاص أصيل ، كما أسلفنا القول ، لكل محاكم جهتي القضاء ، وهو ما خالفته المحكمة الدستورية فيما عرض عليها من طلبي تفسير في شأن تحديد الهيئات القضائية وفي شأن فتح باب الترشيح للكافة أو قصره على من كان مرشحا في الانتخاب الذي أسفر عن فوز مرشح لا تتوافر فيه شروط الترشيح لمجلس الشعب ، لأن التفسير الأول لم يكن محل تنازع بين جهتي القضاء ، وما أشارت إليه المحكمة الدستورية في قرارها التفسيري من وجود تفسير مخالف لتفسير محكمة النقض ينطوي على مغالطة في الواقع والقانون ، ذلك أن الحكم الذي أشارت إلى صدوره من جهة القضاء الإداري لم يكن إلا قضاء في شق مستعجل لا حجية له أمام ذات المحكمة التي أصدرته عند نظرها للموضوع وهو ما لم تفصل فيه حتى الآن ومازال معروضا عليها !!!! ولم يكن من الممكن القول بوجود تنازع في التفسير بين المحكمتين إلا بعد صدور الحكم في الموضوع وفوات مواعيد الطعن عليه ، أو أن يطعن عليه ويصدر حكم من المحكمة الإدارية العليا يؤيد اجتهاد محكمة القضاء الإداري في تفسيرها عند الفصل في الشق المستعجل ، وهو ما لم يحدث لأن الدعوى مازالت متداولة أمام محكمة أول درجة لنظر موضوعها ، بل أن تفسير المحكمة الدستورية فضلا عما يعيبه من غصب سلطة محكمة القضاء الإداري المطروح عليها النزاع لتفصل فيه وحقها في التفسير الذي تراه في النص ، فهو معيب – أيضا – بعيب محاولة إلزام محكمة القضاء الإداري بتفسير معين قد ترى غيره عند فصلها في موضوع الدعوى مما يصيبها بحرج في أن تقضي في الدعوى وفقا لتفسيرها وفهمها للنص ، وهو أمر مؤثم قانونا ، وهو نفس الخطأ الذي وقعت فيه المحكمة العليا في قضية المرحوم كمال الدين حسين وعابته عليها المحكمة الإدارية العليا وخالفت التفسير الصادر عن المحكمة العليا في ذلك الوقت ولم تلتزمه . وأخيرا ، فقد ورطت الحكومة – بتفسيرها المنعدم – في معاودة اسناد الإشراف على انتخابات الشورى إلى الهيئتين المقضي من محكمة النقض ببطلان إشرافهما على الانتخابات متكأة على تفسير تصورت أنه ملزم للمحاكم عملا بنص القانون وفاتها أن شرط ذلك - ككل عمل - أن يكون قد صدر مستوفيا لمشروعيته ، أما وقد صدر في غير ولاية لها ، منطويا على غصب لسلطة محاكم السلطة القضائية ، فإنه يكون هابط الأثر ومنعدم الحجية . وجدير بالذكر أن عدة جهات ومنظمات دولية رصدت هذا الخلاف المفتعل وأشارت إليه في تقاريرها عن حالة العدالة واستقلال القضاء في مصر مستنكرة إهدار ومخالفة حكم محكمة النقض وما تضمنه من مبادئ دستورية وقانونية منها على سبيل المثال تقرير الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان الذي اعتبر مسلك الحكومة المصرية في إضفاء صفة الهيئة القضائية على هيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية دليل على إهدار مصر لمبدأ استقلال القضاء ، وتقرير عن وضع القضاء في مصر أعده أحد المراكز العربية في لبنان في إطار البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ومنشور على الإنترنت وتضمن في القسم الرابع منه بعنوان نظرة عامة تحليلية حول أهم الاعتداءات على مبادئ النزاهة القضائية ضمن مثالب عديدة أخرى سيكون مجال الحديث عنها في مقالات لاحقة بإذن الله ، انتقادا واضحا لمسلك كل من الحكومة المصرية والمحكمة الدستورية فيما ذهبا إليه من اعتبار الهيئتين المذكورتين من الهيئة القضائية واسناد الاشراف على الانتخابات لهما ، فضلا عن عدد من البيانات الصادرة من عدة جهات منها المنظمة المصرية لحقوق الانسان والمركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة ، وهو ما يعتبر انتكاسة لما شيده القضاء المصري على مر التاريخ من سمعة عن استقلاله وتمسكه بالمعايير الدولية لاستقلال القضاء . أما التفسير الآخر فانعدامه أظهر وغصب سلطة التفسير فيه أوضح ، ذلك بأن الخلاف الذي استندت إليه المحكمة الدستورية في التفسير وأباحت لنفسها ما هو محرم عليها ، كان بين محكمة أول درجة ومحكمة ثاني درجة في القضاء الإداري ، أي في نفس جهة القضاء ، وأحسب أن هذا لا يحتاج إلى تعليق أو شرح ، فالعامة يمكنهم إدراك العوار في مسلك المحكمة الدستورية دون جهد يذكر ، فالخلاف بين درجات التقاضي يحدث كل يوم وفي مئات القضايا الهامة وغير الهامة ، ولذلك وجدت درجات التقاضي ، وتوحيد التفسير والتطبيق هو المهمة الأساسية لمحكمة النقض في القضاء العادي ومهمة المحكمة الإدارية العليا في القضاء الإداري ، وهو لا يبيح – بغير خلاف بين رجال القانون كافة– للمحكمة الدستورية أي اختصاص أو حق في تفسير النص القانوني ، وتدخلها هو غصب لسلطة ليست لها بل هي لجهتي القضاء وحدهما كل في اختصاصه ، ومحاولة فرض تفسير معين أو تطبيق معين دون سند من القانون ، والأغرب أن تنتصر المحكمة الدستورية لتفسير محكمة أول درجة مهدرة تفسير محكمة ثاني درجة ، وهو ما يلغي وظيفتها تماما ، ويهدم النظام القضائي من أساسه ، ويجعل المحكمة الدستورية جهة طعن على أحكام محكمة الدرجة الأخيرة وهي محكمة القانون دون سند من القانون ، بل وبالمخالفة لأحكام القانون ، رغم ما حرصت المذكرة الإيضاحية لقانونها على تأكيده من أن اختصاص المحكمة الدستورية بالتفسير لا يحول دون مباشرة السلطة التشريعية حقها في إصدار التشريعات التفسيرية ابتداء أو بالمخالفة لما انتهت إليه المحكمة الدستورية العليا من تفسير وأن هذا الاختصاص لا يصادر حق جهات القضاء الأخرى جميعا في تفسير القوانين وإنزال تفسيرها على الواقعة المعروضة عليها ما لم يصدر بشأن النص المطروح أمامها تفسير ملزم سواء من السلطة التشريعية أو من المحكمة الدستورية ، وأن تخويلها حق التفسير التشريعي لا يقصد به تقييد اختصاص المحاكم ولا فرض رقابة أو وصاية على أحكامها وإنما فض التنازع بين جهات القضاء عند اختلافها في تفسير نص تشريعي ، ومن البديهي أنه يتعين أن يكون القرار التفسيري الصادر من المحكمة الدستورية قد صدر في الحالة التي خولها المشرع فيها التصدي للتفسير ، ليكون ملزما ، وإلا فهو والعدم سواء بسواء ، ويكون غير ملزم لأحد . ومن المفارقات التي يلزم التذكير بها أن الراحل العظيم المستشار ممتاز نصار حذر من المشاكل التي سيثيرها هذا النص الغريب الذي يعطي المحكمة الدستورية حق تفسير النصوص وتنبأ بما يحدث حاليا من سؤ استعمال هذا الحق ، في مناقشات مجلس الشعب ، ولكن رد عليه بأن ما يخشاه غير وارد مادام أن اختصاصها بالتفسير مقصور على حالة تنازع التفسير بين جهتي القضاء ولا يسلب حق المحاكم كافة في تفسير النص القانوني . والقول بغير ذلك يتهادم به النظام القضائي الذي نفاخر به ، وأحسب أن أحدا في مصر يسعى لذلك أو يرضى به . وأخيرا ، يجب التأكيد على أن كل ما تقدم من ملاحظات لا ينال من تقديرنا الكامل لقضاة المحكمة الدستورية ورئيسها ، ولدورها بما صدر عنها من أحكام ناصعة خاصة في عهد الراحل العظيم المستشار عوض المر ، انتصرت فيها للدستور وقيمه السامية ، ولكنه واجب النقد البناء الذي يهدف إلى إصلاح أظهر العمل الحاجة إليه .