Bunny-Star
01-28-2009, 10:21 AM
بعد حكم محكمة النقض الرقابة علي دستورية القوانين.. إلي أين ؟
بقلم: مستشار/ شفيق إمام
نشر بجريدة الاهرام فى 17/5/2004
الحكم الذي أصدرته محكمة النقض أخيرا ببراءة محافظ الجيزة الأسبق عبدالحميد حسن, علي سند من قضائها الذي امتنعت فيه عن تطبيق قانون الكسب غير المشروع, لمخالفته للدستور, قد أثار ولايزال يثير جدلا حول انتزاع محكمة النقض لولاية تملكها المحكمة الدستورية دون غيرها وفقا للمادة(175) من الدستور.
وباديء ذي بدء, وقبل الخوض في هذا التحول الخطير في قضاء محكمة النقض بالنسبة الي قضائها بالامتناع عن تطبيق قانون لمخالفته الدستور, فإنه من المؤكد أن قضاءها الصادر ببراءة المتهم قد أملته عليها ما وقر في ضمائر قضاتها, واستقر في وجدانهم من أن الشك والتخمين هما اللذان يقوم عليهما الادانة في جرائم الكسب غير المشروع, بقرينة افترضها المشرع من واقعة زيادة ثروة الموظف العام, مع عجزه عن التدليل علي اسباب هذه الزيادة بما يخالف افتراض البراءة في الانسان الذي نص عليه الدستور.
ومن المؤكد أيضا, أن محكمة النقض فيما وصمت به قانون الكسب غير المشروع من عدم دستورية نصوص التجريم الواردة فيه, لم تذهب بعيدا عن قضاء مستقر للمحكمة الدستورية, وصمت فيه كثيرا من القوانين التي تنشئ قرائن قانونية يثبت بها أحد عناصر الجريمة, بأنها قوانين غير دستورية تأسيسا علي أن كل جريمة, لا يجوز اثباتها دون دليل جازم ينبسط علي عناصرها جميعا, ولا يجوز كذلك افتراض ثبوتها ـ ولو في أحد عناصرها ما كان ماديا أو معنويا ـ من خلال قرينة قانونية ينشئها المشرع اعتسافا, ودون ذلك لايكون أصل البراءة إلا وهما.
وقد يضاف الي ذلك ما اطمأن إليه ضمير المحكمة ووجدانها في الطعن المقدم من محافظ الجيزة الأسبق عبدالحميد حسن, انه قد مضي علي اتهام الرجل منذ أن بدأ التحقيق معه ستة عشر عاما, وان في وقف الدعوي واحالة المسألة الدستورية الي المحكمة الدستورية, ما يؤخر الفصل في الطعن المرفوع أمامها, بما يضير العدالة اذا ما بقي متهم بريء مصلتا عليه سيف الاتهام والادانة, في أمر شائن يهبط بقدره وكرامته في نظر الناس, ويوجب احتقار المتهم به عند اهله ومجتمعه, بما يزعزع قرينة البراءة في الانسان, وهي القرينة التي نصت عليها المادة(67) من الدستور, فيما قضت به من ان المتهم بريء حتي تثبت ادانته, والتي تؤسس, كما قضت المحكمة الدستورية علي الفطرة التي جبل عليها الانسان, عندما ولد حرا مبرءا من الخطيئة والمعصية. فضلا عن انه لا يجوز أن يضاف الي بطء العدالة الناتج عن الكم الهائل من القضايا, بطء آخر بسبب وقف السير في الدعوي لإحالتها الي المحكمة الدستورية, لبحث مسألة دستورية تري المحكمة ان عيب عدم الدستورية فيها مستعص علي الجدل, خاصة وقد طرح نقل عدد كبير من رجال محكمة النقض ذاتها الي المحكمة الدستورية علامة استفهام حول التخصص, الذي قد يقوم عليه وجود محكمة دستورية, وانه كان الأجدر, اذا كانت المحكمة في حاجة ملحة الي تدعيمها بأعضاء جدد يجلسون للحكم, ان تدعم ببعض اساتذة القانون الدستوري في الجامعات المصرية, وأن يكون الأصل في الانخراط في سلك هذه المحكمة, هو التعيين في قسم المفوضين بها والتدرج في وظائفه. إلا أن التحول الجديد في أحكام محكمة النقض, يكشف عن رغبة في أن يعود للمحاكم اختصاصها الطبيعي ـ الذي كان لها قبل انشاء المحكمة العليا والمحكمة الدستورية ـ في الامتناع عن تطبيق القوانين التي تخالف الدستور, وهو توجه يعبر عن ضيق المحاكم وضيق رجال القضاء بسلب ولايتهم في الرقابة علي دستورية القوانين في المنازعات التي تطرح عليهم, احساسا منهم بأنهم منبع فرض هذه الولاية في الرقابة القضائية علي دستورية القوانين, وهو ما يستوجب وقفة علي فهم هذا التحول الخطير في قضاء محكمة النقض, من خلال عرض بعض الحقائق والوقائع التالية: أولا: انها ليست المرة الأولي التي تنتزع فيها محكمة النقض ولاية الرقابة علي دستورية القانون, في ظل المادة(175) من الدستور, التي تنص علي انفراد المحكمة الدستورية دون غيرها بالرقابة علي دستورية القوانين, بل ان محكمة النقض ذهبت عام1972 الي ابعد مدي من الامتناع عن تطبيق القانون غير الدستوري, عندما ألغت القانون رقم83 لسنة69 بإعادة تشكيل الهيئات القضائية, والذي كان قد عزل استنادا له169 قاضيا فيما يعرف بمذبحة القضاء. ثانيا: ان هذه الولاية التي كان القضاء قد انتزعها لنفسه مارستها جميع المحاكم, قبل صدور القانون81 لسنة1969 بانشاء المحكمة العليا, وقبل ان تنفرد الرقابة علي دستورية القوانين بنص المادة175 من الدستور, عندما اصدرت محكمة مصر الابتدائية حكمها الشهير في أول مايو سنة1941, الذي قضت فيه بأن للمحاكم جميعها حق الرقابة علي دستورية القوانين واللوائح, وهو حكم ألغته بعد ذلك محكمة الاستئناف, إلا أن القضاء ظل مصرا علي انتزاع هذه الولاية لأنه لا يجوز وفقا لقاعدة تدرج القوانين, وعند تعارض قانون عادي مع نص في الدستور إلا تغليب النص الدستوري, والامتناع عن تطبيق القانون العادي, وهو ما قضي به مجلس الدولة في مصر في حكم محكمة القضاء الادارية الصادر في10 فبراير سنة1948, وقد حذت المحاكم حذو هذا الحكم بعد ذلك, الي أن صدر القرار الجمهوري بقانون رقم81 لسنة1969 بإنشاء المحكمة العليا باعتبارها المحكمة الوحيدة المختصة بالرقابة علي دستورية القوانين. ثالثا: ان إنشاء المحكمة العليا في الظروف التي نشأت فيها, لم يكن خالصا لوجه الشرعية الدستورية, وقد أفصح قانون مذبحة القضاء الذي عاصر قانون انشاء المحكمة العليا, بل وصدرا معا في اليوم ذاته دون ان يفصلهما أي فاصل زمني, عن انتهاكه للدستور, بعد أن عز علي مراكز القوي في هذا الوقت بقاء صرح القضاء شامخا يطاول الزمن, حصنا حصينا للحقوق وملاذا أمينا للحريات. وكان رجال القضاء قد اصدروا في1968/3/28 بيانا حللوا فيه اسباب نكسة1967, وطالبوا بتأمين جميع المواطنين علي حرياتهم وحرماتهم, وقد خشيت مراكز القوي في هذا الوقت من أن تطبق المحاكم المباديء الواردة في هذا البيان علي القوانين الاستثنائية بالتأميم والمصادرة وفرض الحراسات لمخالفتها الدستور, وهي نظرة الارتياب من المحاكم التي كشفت عنها المذكرة الايضاحية لقانون انشاء المحكمة العليا, عندما قالت وبالحرف الواحد: غير انه قد بدا في كثير من الحالات, أن احكام القضاء لم تستطع اللحاق بركب التطور الذي طرأ علي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية, نتيجة قصور في التشريع أو نتيجة تفسير غير متلائم مع هذه العلاقات الجديدة. ثم تستطرد الي القول إن من اسباب انشاء هذه المحكمة, تحقيق اهداف الخطة الاقتصادية فيما جاء بهذه المذكرة, ومع احتمال أن يختلف تطبيق هذه المبادئ من هيئة الي أخري, واحتمال أن يصدر حكم فيها لا يتفق واهداف الخطة الاقتصادية. أي ان الخطة الاقتصادية في نظر واضعي القانون, كانت أسمي من الدستور ذاته, ويجب أن تخضع لها كل قوانين الدولة بل ودستورها, عند تفسيرها جميعا التفسير الذي يتلاءم مع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة ومع اهداف الخطة. رابعا: ان الحكومة قد انصفت الحقيقة عندما أصدرت قانون المحكمة العليا رقم81 لسنة1969, ضمن حزمة القوانين التي تعارف عليها الناس بمذبحة القضاء, وكان هو أول الحزمة وتلته سائر قوانين الحزمة, وهي القوانين أرقام82 و83 و84 و85 لسنة1969, وانها حرصت علي ألا يتأخر صدور هذا القانون عن تاريخ صدورها ولو بساعة واحدة, لتحصين هذه القوانين من أية رقابة لمحكمة النقض علي دستورية هذه القوانين, اذا لجأ رجال القضاء الي هذه المحكمة يطعنون علي قرارات عزلهم, وقد صدق حدس الحكومة في ذلك, فإنه بالرغم من انشاء هذه المحكمة فقد تصدت محكمة النقض للقانون رقم83 لسنة1969 وقضت بإلغائه, لمخالفته الدستور. خامسا: احتاط قانون المحكمة العليا للأمر, فجعل أمر اختيار اعضائها واستمرارهم في ولايتهم رهنا بارادة السلطة التنفيذية بتأقيت مدة ولايتهم بثلاث سنوات قابلة للتجديد, وبإجازة تعيين رئيس المحكمة دون التقيد بسن التقاعد, لكي يتاح اسناد رئاسة المحكمة الي وزير عدل سابق, وهو بشغله للمنصب الوزاري وهو منصب سياسي, قد فقد صلاحيته للعمل القضائي, وبهذا اصبح قضاة هذه المحكمة قابلين للعزل كل ثلاث سنوات, بما يفقدهم الاستقلال في ولاية القضاء, وهو الاستقلال الذي يتطلب عدم خضوع القاضي لسلطان أي جهة. سادسا: من الانصاف القول إن المحكمة العليا, ومن بعدها المحكمة الدستورية التي حلت محلها بعد صدور دستور سنة1971, قد تناست اصل نشأتها وانتصفت للشرعية الدستورية ولمبدأ سيادة القانون وللحرية الشخصية, ولحرمة الملكية الخاصة وللحريات العامة, ولحق التقاضي وللمبادئ الديمقراطية التي حفل بها السيل المنهمر للأحكام التي أصدرتها لتسجل فيها انصع الصفحات للحق والعدل والحرية والمساواة, لتملأ فم التاريخ وتدوي في سمع الزمن. سابعا: من الانصاف كذلك, أن نقول ان القرار الجمهوري بالقانون رقم168 لسنة1998 قد ترك بصماته علي استقلال المحكمة, عندما حد من أثر الرقابة القضائية علي دستورية القوانين, بتحصين الأعمال التشريعية من هذه الرقابة خلال الفترة السابقة علي صدور حكم المحكمة بعدم دستوريتها, بما اعتبر اهدارا لمبادئ الشرعية الدستورية واخلالا بمبدأ المساواة أمام القانون, تدخلا في سير العدالة في دعاوي منظورة أمام المحكمة الدستورية, وتجاوزا للخطاب الدستوري للمشرع بتنظيم الآثار التي تترتب علي احكام المحكمة الدستورية, وافراغا للرقابة القضائية الدستورية من مضمونها بالنسبة الي بعض القوانين التي تكون قد استنفدت تطبيقها واغراضها قبل صدور حكم المحكمة الدستورية بعدم دستوريتها, فلايكون ثمة أثر لهذا الحكم عليها. وهو مايمكن أن يكون قد أثر سلبا علي اطمئنان قضاة المحكمة الي استقلالهم, عندما تستطيع السلطة التشريعية في أي وقت ان تعصف بهذا الاستقلال, وان تحد من صلاحيات المحكمة, ومن الآثار التي تترتب علي احكامها, فضلا عما اثر علي هذا الاستقلال, بعد تقاعد ربانها العالم والفقيه الدستوري الفذ المرحوم الدكتور عوض المر, الذي كان قد أنشأ مدرسة من اعضاء هذه المحكمة, كان يمكن ان تترسم خطاه بما زودها به من علم وفقه وفن رفيع في القضاء, لولا ان التعيين في هذه المحكمة اصبح ـ بعد غيابه ـ لا يخضع لقواعد أو ضوابط أو معايير, علي عكس ما يجري عليه الاختيار المناصب القضائية الرفيعة في كل من القضاء العادي ومجلس الدولة. ولعل تبوؤ المرأة عضوية المحكمة الدستورية العليا, منذ ما يزيد علي العامين, وهي أعلي درجات السلم القضائي دون أن يتاح لامرأة غيرها حتي الآن التدرج ولو في أدني سلم الوظائف القضائية في النيابة العامة ومجلس الدولة, ما يؤكد أن التعيين في مناصب المحكمة الدستورية قد اصبح يخضع للقرار السياسي. وفي خاتمة هذا المقال, فإن الخطوة الضرورية الآن هي مسئولية كل من الحكومة ومجلس الشعب عن إجراء مراجعة سريعة لقانون المحكمة الدستورية, وللإجراءات التي اتخذتها الحكومة حيال هذه المحكمة منذ عام1998 والتي أثرت علي استقلال المحكمة وعلي اطمئنان قضاتها الي هذا الاستقلال, بل وربما كانت سببا في هذا التحول في قضاء محكمة النقض. ان الخطوة الثانية عندما يبدأ الإصلاح الدستوري, هي مراجعة للأحكام المتعلقة بالمحكمة الدستورية في الدستور وللضمانات المقررة لاستقلال هذه المحكمة, بأن يتضمن الدستور جميع هذه الضمانات وكيفية الفصل في الدعوى الدستورية, والآثار التي تترتب علي أحكامها, وألا يترك ذلك كله لقانون قد يعصف باستقلالها ويحد من ولايتها, وان تكون جزءا من الفصل الرابع الخاص بالسلطة القضائية, ذلك انه لا معني لإخراجها من هذه السلطة وإفرادها بفصل مستقل, وإعادة النظر فيما يناط بها من تفسير للقوانين تفسيرا تشريعيا ملزما, لأن مثل هذا التفسير قد يتعارض مع رقابتها الدستورية للقوانين, وقد يخلع علي القانون الذي تفسره عباءة اتفاقه مع أحكام الدستور, في الوقت الذي لو طعن أمامها بعدم دستوريته لقضت بذلك, وهو ما صرح لي به أحد أعضائها عندما ناقشته في تفسير أصدرته المحكمة لقانون من القوانين, فقال لي: ولو كان أمامنا طعن بعدم دستوريته لقضينا بذلك
بقلم: مستشار/ شفيق إمام
نشر بجريدة الاهرام فى 17/5/2004
الحكم الذي أصدرته محكمة النقض أخيرا ببراءة محافظ الجيزة الأسبق عبدالحميد حسن, علي سند من قضائها الذي امتنعت فيه عن تطبيق قانون الكسب غير المشروع, لمخالفته للدستور, قد أثار ولايزال يثير جدلا حول انتزاع محكمة النقض لولاية تملكها المحكمة الدستورية دون غيرها وفقا للمادة(175) من الدستور.
وباديء ذي بدء, وقبل الخوض في هذا التحول الخطير في قضاء محكمة النقض بالنسبة الي قضائها بالامتناع عن تطبيق قانون لمخالفته الدستور, فإنه من المؤكد أن قضاءها الصادر ببراءة المتهم قد أملته عليها ما وقر في ضمائر قضاتها, واستقر في وجدانهم من أن الشك والتخمين هما اللذان يقوم عليهما الادانة في جرائم الكسب غير المشروع, بقرينة افترضها المشرع من واقعة زيادة ثروة الموظف العام, مع عجزه عن التدليل علي اسباب هذه الزيادة بما يخالف افتراض البراءة في الانسان الذي نص عليه الدستور.
ومن المؤكد أيضا, أن محكمة النقض فيما وصمت به قانون الكسب غير المشروع من عدم دستورية نصوص التجريم الواردة فيه, لم تذهب بعيدا عن قضاء مستقر للمحكمة الدستورية, وصمت فيه كثيرا من القوانين التي تنشئ قرائن قانونية يثبت بها أحد عناصر الجريمة, بأنها قوانين غير دستورية تأسيسا علي أن كل جريمة, لا يجوز اثباتها دون دليل جازم ينبسط علي عناصرها جميعا, ولا يجوز كذلك افتراض ثبوتها ـ ولو في أحد عناصرها ما كان ماديا أو معنويا ـ من خلال قرينة قانونية ينشئها المشرع اعتسافا, ودون ذلك لايكون أصل البراءة إلا وهما.
وقد يضاف الي ذلك ما اطمأن إليه ضمير المحكمة ووجدانها في الطعن المقدم من محافظ الجيزة الأسبق عبدالحميد حسن, انه قد مضي علي اتهام الرجل منذ أن بدأ التحقيق معه ستة عشر عاما, وان في وقف الدعوي واحالة المسألة الدستورية الي المحكمة الدستورية, ما يؤخر الفصل في الطعن المرفوع أمامها, بما يضير العدالة اذا ما بقي متهم بريء مصلتا عليه سيف الاتهام والادانة, في أمر شائن يهبط بقدره وكرامته في نظر الناس, ويوجب احتقار المتهم به عند اهله ومجتمعه, بما يزعزع قرينة البراءة في الانسان, وهي القرينة التي نصت عليها المادة(67) من الدستور, فيما قضت به من ان المتهم بريء حتي تثبت ادانته, والتي تؤسس, كما قضت المحكمة الدستورية علي الفطرة التي جبل عليها الانسان, عندما ولد حرا مبرءا من الخطيئة والمعصية. فضلا عن انه لا يجوز أن يضاف الي بطء العدالة الناتج عن الكم الهائل من القضايا, بطء آخر بسبب وقف السير في الدعوي لإحالتها الي المحكمة الدستورية, لبحث مسألة دستورية تري المحكمة ان عيب عدم الدستورية فيها مستعص علي الجدل, خاصة وقد طرح نقل عدد كبير من رجال محكمة النقض ذاتها الي المحكمة الدستورية علامة استفهام حول التخصص, الذي قد يقوم عليه وجود محكمة دستورية, وانه كان الأجدر, اذا كانت المحكمة في حاجة ملحة الي تدعيمها بأعضاء جدد يجلسون للحكم, ان تدعم ببعض اساتذة القانون الدستوري في الجامعات المصرية, وأن يكون الأصل في الانخراط في سلك هذه المحكمة, هو التعيين في قسم المفوضين بها والتدرج في وظائفه. إلا أن التحول الجديد في أحكام محكمة النقض, يكشف عن رغبة في أن يعود للمحاكم اختصاصها الطبيعي ـ الذي كان لها قبل انشاء المحكمة العليا والمحكمة الدستورية ـ في الامتناع عن تطبيق القوانين التي تخالف الدستور, وهو توجه يعبر عن ضيق المحاكم وضيق رجال القضاء بسلب ولايتهم في الرقابة علي دستورية القوانين في المنازعات التي تطرح عليهم, احساسا منهم بأنهم منبع فرض هذه الولاية في الرقابة القضائية علي دستورية القوانين, وهو ما يستوجب وقفة علي فهم هذا التحول الخطير في قضاء محكمة النقض, من خلال عرض بعض الحقائق والوقائع التالية: أولا: انها ليست المرة الأولي التي تنتزع فيها محكمة النقض ولاية الرقابة علي دستورية القانون, في ظل المادة(175) من الدستور, التي تنص علي انفراد المحكمة الدستورية دون غيرها بالرقابة علي دستورية القوانين, بل ان محكمة النقض ذهبت عام1972 الي ابعد مدي من الامتناع عن تطبيق القانون غير الدستوري, عندما ألغت القانون رقم83 لسنة69 بإعادة تشكيل الهيئات القضائية, والذي كان قد عزل استنادا له169 قاضيا فيما يعرف بمذبحة القضاء. ثانيا: ان هذه الولاية التي كان القضاء قد انتزعها لنفسه مارستها جميع المحاكم, قبل صدور القانون81 لسنة1969 بانشاء المحكمة العليا, وقبل ان تنفرد الرقابة علي دستورية القوانين بنص المادة175 من الدستور, عندما اصدرت محكمة مصر الابتدائية حكمها الشهير في أول مايو سنة1941, الذي قضت فيه بأن للمحاكم جميعها حق الرقابة علي دستورية القوانين واللوائح, وهو حكم ألغته بعد ذلك محكمة الاستئناف, إلا أن القضاء ظل مصرا علي انتزاع هذه الولاية لأنه لا يجوز وفقا لقاعدة تدرج القوانين, وعند تعارض قانون عادي مع نص في الدستور إلا تغليب النص الدستوري, والامتناع عن تطبيق القانون العادي, وهو ما قضي به مجلس الدولة في مصر في حكم محكمة القضاء الادارية الصادر في10 فبراير سنة1948, وقد حذت المحاكم حذو هذا الحكم بعد ذلك, الي أن صدر القرار الجمهوري بقانون رقم81 لسنة1969 بإنشاء المحكمة العليا باعتبارها المحكمة الوحيدة المختصة بالرقابة علي دستورية القوانين. ثالثا: ان إنشاء المحكمة العليا في الظروف التي نشأت فيها, لم يكن خالصا لوجه الشرعية الدستورية, وقد أفصح قانون مذبحة القضاء الذي عاصر قانون انشاء المحكمة العليا, بل وصدرا معا في اليوم ذاته دون ان يفصلهما أي فاصل زمني, عن انتهاكه للدستور, بعد أن عز علي مراكز القوي في هذا الوقت بقاء صرح القضاء شامخا يطاول الزمن, حصنا حصينا للحقوق وملاذا أمينا للحريات. وكان رجال القضاء قد اصدروا في1968/3/28 بيانا حللوا فيه اسباب نكسة1967, وطالبوا بتأمين جميع المواطنين علي حرياتهم وحرماتهم, وقد خشيت مراكز القوي في هذا الوقت من أن تطبق المحاكم المباديء الواردة في هذا البيان علي القوانين الاستثنائية بالتأميم والمصادرة وفرض الحراسات لمخالفتها الدستور, وهي نظرة الارتياب من المحاكم التي كشفت عنها المذكرة الايضاحية لقانون انشاء المحكمة العليا, عندما قالت وبالحرف الواحد: غير انه قد بدا في كثير من الحالات, أن احكام القضاء لم تستطع اللحاق بركب التطور الذي طرأ علي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية, نتيجة قصور في التشريع أو نتيجة تفسير غير متلائم مع هذه العلاقات الجديدة. ثم تستطرد الي القول إن من اسباب انشاء هذه المحكمة, تحقيق اهداف الخطة الاقتصادية فيما جاء بهذه المذكرة, ومع احتمال أن يختلف تطبيق هذه المبادئ من هيئة الي أخري, واحتمال أن يصدر حكم فيها لا يتفق واهداف الخطة الاقتصادية. أي ان الخطة الاقتصادية في نظر واضعي القانون, كانت أسمي من الدستور ذاته, ويجب أن تخضع لها كل قوانين الدولة بل ودستورها, عند تفسيرها جميعا التفسير الذي يتلاءم مع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة ومع اهداف الخطة. رابعا: ان الحكومة قد انصفت الحقيقة عندما أصدرت قانون المحكمة العليا رقم81 لسنة1969, ضمن حزمة القوانين التي تعارف عليها الناس بمذبحة القضاء, وكان هو أول الحزمة وتلته سائر قوانين الحزمة, وهي القوانين أرقام82 و83 و84 و85 لسنة1969, وانها حرصت علي ألا يتأخر صدور هذا القانون عن تاريخ صدورها ولو بساعة واحدة, لتحصين هذه القوانين من أية رقابة لمحكمة النقض علي دستورية هذه القوانين, اذا لجأ رجال القضاء الي هذه المحكمة يطعنون علي قرارات عزلهم, وقد صدق حدس الحكومة في ذلك, فإنه بالرغم من انشاء هذه المحكمة فقد تصدت محكمة النقض للقانون رقم83 لسنة1969 وقضت بإلغائه, لمخالفته الدستور. خامسا: احتاط قانون المحكمة العليا للأمر, فجعل أمر اختيار اعضائها واستمرارهم في ولايتهم رهنا بارادة السلطة التنفيذية بتأقيت مدة ولايتهم بثلاث سنوات قابلة للتجديد, وبإجازة تعيين رئيس المحكمة دون التقيد بسن التقاعد, لكي يتاح اسناد رئاسة المحكمة الي وزير عدل سابق, وهو بشغله للمنصب الوزاري وهو منصب سياسي, قد فقد صلاحيته للعمل القضائي, وبهذا اصبح قضاة هذه المحكمة قابلين للعزل كل ثلاث سنوات, بما يفقدهم الاستقلال في ولاية القضاء, وهو الاستقلال الذي يتطلب عدم خضوع القاضي لسلطان أي جهة. سادسا: من الانصاف القول إن المحكمة العليا, ومن بعدها المحكمة الدستورية التي حلت محلها بعد صدور دستور سنة1971, قد تناست اصل نشأتها وانتصفت للشرعية الدستورية ولمبدأ سيادة القانون وللحرية الشخصية, ولحرمة الملكية الخاصة وللحريات العامة, ولحق التقاضي وللمبادئ الديمقراطية التي حفل بها السيل المنهمر للأحكام التي أصدرتها لتسجل فيها انصع الصفحات للحق والعدل والحرية والمساواة, لتملأ فم التاريخ وتدوي في سمع الزمن. سابعا: من الانصاف كذلك, أن نقول ان القرار الجمهوري بالقانون رقم168 لسنة1998 قد ترك بصماته علي استقلال المحكمة, عندما حد من أثر الرقابة القضائية علي دستورية القوانين, بتحصين الأعمال التشريعية من هذه الرقابة خلال الفترة السابقة علي صدور حكم المحكمة بعدم دستوريتها, بما اعتبر اهدارا لمبادئ الشرعية الدستورية واخلالا بمبدأ المساواة أمام القانون, تدخلا في سير العدالة في دعاوي منظورة أمام المحكمة الدستورية, وتجاوزا للخطاب الدستوري للمشرع بتنظيم الآثار التي تترتب علي احكام المحكمة الدستورية, وافراغا للرقابة القضائية الدستورية من مضمونها بالنسبة الي بعض القوانين التي تكون قد استنفدت تطبيقها واغراضها قبل صدور حكم المحكمة الدستورية بعدم دستوريتها, فلايكون ثمة أثر لهذا الحكم عليها. وهو مايمكن أن يكون قد أثر سلبا علي اطمئنان قضاة المحكمة الي استقلالهم, عندما تستطيع السلطة التشريعية في أي وقت ان تعصف بهذا الاستقلال, وان تحد من صلاحيات المحكمة, ومن الآثار التي تترتب علي احكامها, فضلا عما اثر علي هذا الاستقلال, بعد تقاعد ربانها العالم والفقيه الدستوري الفذ المرحوم الدكتور عوض المر, الذي كان قد أنشأ مدرسة من اعضاء هذه المحكمة, كان يمكن ان تترسم خطاه بما زودها به من علم وفقه وفن رفيع في القضاء, لولا ان التعيين في هذه المحكمة اصبح ـ بعد غيابه ـ لا يخضع لقواعد أو ضوابط أو معايير, علي عكس ما يجري عليه الاختيار المناصب القضائية الرفيعة في كل من القضاء العادي ومجلس الدولة. ولعل تبوؤ المرأة عضوية المحكمة الدستورية العليا, منذ ما يزيد علي العامين, وهي أعلي درجات السلم القضائي دون أن يتاح لامرأة غيرها حتي الآن التدرج ولو في أدني سلم الوظائف القضائية في النيابة العامة ومجلس الدولة, ما يؤكد أن التعيين في مناصب المحكمة الدستورية قد اصبح يخضع للقرار السياسي. وفي خاتمة هذا المقال, فإن الخطوة الضرورية الآن هي مسئولية كل من الحكومة ومجلس الشعب عن إجراء مراجعة سريعة لقانون المحكمة الدستورية, وللإجراءات التي اتخذتها الحكومة حيال هذه المحكمة منذ عام1998 والتي أثرت علي استقلال المحكمة وعلي اطمئنان قضاتها الي هذا الاستقلال, بل وربما كانت سببا في هذا التحول في قضاء محكمة النقض. ان الخطوة الثانية عندما يبدأ الإصلاح الدستوري, هي مراجعة للأحكام المتعلقة بالمحكمة الدستورية في الدستور وللضمانات المقررة لاستقلال هذه المحكمة, بأن يتضمن الدستور جميع هذه الضمانات وكيفية الفصل في الدعوى الدستورية, والآثار التي تترتب علي أحكامها, وألا يترك ذلك كله لقانون قد يعصف باستقلالها ويحد من ولايتها, وان تكون جزءا من الفصل الرابع الخاص بالسلطة القضائية, ذلك انه لا معني لإخراجها من هذه السلطة وإفرادها بفصل مستقل, وإعادة النظر فيما يناط بها من تفسير للقوانين تفسيرا تشريعيا ملزما, لأن مثل هذا التفسير قد يتعارض مع رقابتها الدستورية للقوانين, وقد يخلع علي القانون الذي تفسره عباءة اتفاقه مع أحكام الدستور, في الوقت الذي لو طعن أمامها بعدم دستوريته لقضت بذلك, وهو ما صرح لي به أحد أعضائها عندما ناقشته في تفسير أصدرته المحكمة لقانون من القوانين, فقال لي: ولو كان أمامنا طعن بعدم دستوريته لقضينا بذلك