3okd al yasamine
01-27-2009, 08:00 PM
بالخارج كان الليل بارداً و رطباً ، لكن في ردهة فيلا (لابرنام) كانت الستائر مسدلة و النيران تشتعل ساطعة بينما الابن يلعب الشطرنج مع الأب ، الذي كان يمتلك أفكاراً تتضمن تغييرات جذرية بشأن اللعبة ، و يضع ملكه في مواقف خطيرة وغير مرغوبة ، كانت تستفز السيدة ذات الشعر الأشيب التي تحيك بهدوء بجانب النيران لتدلي بتعليقها .
- " أصغيا للريح " قال السيد (وايت) وقد اكتشف خطأً قاتلاً بعد فوات الأوان ، محاولا منع ابنه من ملاحظته .
- " إنني مصغ " قالها الأخير ، ماسحاً الرقعة بينما يمد يديه " كش " .
- " كان ينبغي أن أعرف أنه سيأتي الليلة " قال الأب متوازناً بيديه فوق الرقعة .
- " مات ! " رد الابن .
- " هذه هي أسوء معيشة على الإطلاق " قال السيد (وايت) " من بين كل الأماكن الكريهة الموحلة النائية ، هذا هو الأسوأ . الممر عبارة عن مستنقع و الطريق عبارة عن سيل . لا أعرف ما يفكر الناس بشأنه . أعتقد أنه بسبب تأجير هذين المنزلين على الطريق فهم يفكرون أنه لا مشاكل " .
- " لا تهتم يا عزيزي " قالت زوجته بهدوء " ربما ستكسب المرة القادمة " .
- " ها هو ذا " قال (هربرت) بينما البوابة تغلق بعنف ، و بدا صوت خطوات ثقيلة تقترب من الباب .
هرع الأب ليفتح الباب ، فدخل شخص طويل و بدين ، ذو عينان براقتان و وجه أقرب للحمرة .
- " رقيب أول موريس " قال الأب مقدماً الرجل .
صافحهم الرجل و أخذ مقعداً بجانب النيران ، مراقباً مضيفه بينما يحضر الخمر و كأسين و يضع براد شاي نحاسي صغير في النار .
بعد الكأس الثالث بدت عيناه ألمع ، و بدأ يتكلم . تحلقت العائلة حول هذا الزائر القادم من الأماكن النائية ، بينما تراجع هو بظهره على المقعد و تحدث عن مشاهد غريبة و أفعال شجاعة .. عن حروب و أوبئة و شعوب غريبة .
- " واحد و عشرون عاماً " قال السيد (وايت) لزوجته و ابنه " عندما ذهب كان شاباً يعمل في مستودع . انظرا له الآن "
- " لا يبدو أنه تأذى بشدة " قالت السيدة (وايت) بدماثة .
- " أعتقد أنني أنا شخصياً سأحب الذهاب للهند " قال الرجل العجوز " للسياحة فقط ، أنت تعرف "
- " الأفضل لك أن تظل هنا " قال الرقيب هازاً رأسه . وضع الكأس الفارغ و تنهد بهدوء ، ثم هزها مرة أخرى .
- " سأحب أن أرى المعابد القديمة و المشعوذين " قال الرجل العجوز " ماذا كنت تخبرني بالأمس عن مخلب قرد أو شيء من هذا القبيل ، موريس ؟ "
- " لا شيء " رد باقتضاب " لا شيء يستحق سماعه "
- " مخلب قرد ؟ " تساءلت السيدة (وايت) بفضول .
- " حسناً .. إنه واحد من هذه الأشياء التي يسمونها سحر ، ربما " قال الرقيب .
مال مستمعيه الثلاثة بفضول ، بينما رفع الزائر شارداً الكأس الفارغ لفمه ، ثم أنزله مرة أخرى ، ليملأه مضيفه .
- " انظروا " قال الرقيب عابثاً في جيبه " إنه مجرد مخلب صغير عادي مجفف لمومياء "
أخرج شيئاً من جيبه و عرضه فتراجعت السيدة (وايت) بخوف ، بينما تناوله الابن و تفحصه باهتمام .
- " و ما الشيء الغريب بشأنه ؟ " تساءل السيد (وايت) بينما يتناوله من ابنه ليتفحصه بدوره ، ثم يضعه على المائدة .
- " هناك لعنة صنعها أحد السحرة القدامى " قال الرقيب " ساحر قوي جداً . أراد أن يبين أن القدر يحكم حياة الناس ، و أن من يحاول تغييرها إنما يفعل ليلقى حتفه . فجعله يحقق ثلاث أمنيات لثلاث رجال مختلفين "
كان منفعلاً و هو يتحدث ، فأدرك مستمعوه أنهم آذوه بضحكهم الخافت .
- " حسناً ، و لم لَم تصنع أمنياتك الثلاث يا سيدي ؟ " قال (هربرت) متذاكياً .
آخذاً في الاعتبار كيف يتحدث الشباب باندفاع ، قال موريس بهدوء " لقد فعلت " و شحب وجهه .
- " و هل تحققت الأمنيات ؟ " سألت السيدة .
- " تحققت أماني الرجل الأول " أجاب " لا أعرف عم كانت الأمنية الأولى و الثانية ، الثالثة كانت الموت ، و هكذا حصلت على المخلب "
كانت نبرات صوته قوية واثقة حتى أنهم سكنوا تماماً .
" إذا كنت قد حصلت على أمانيك الثلاثة ، فإنه غير مفيد لك الآن ، موريس " قال الرجل العجوز " فلم تحتفظ به حتى الآن ؟ "
هز العسكري رأسه قائلاً " الولع ربما ! " قال ببطء .
- " إذا كان بإمكانك تمنى ثلاث أمنيات أخرى " قال المضيف مراقباً إياه باهتمام " هل ستتمناها ؟ "
- " لا أعرف " قال الآخر " لا أعرف "
ثم أخذ المخلب بين الإبهام و السبابة ، و فجأة رماه في النيران ، فأطلق المضيف صيحة استنكار ، و انحنى بسرعة لينتزعه من بين النيران .
- " دعه يحترق أفضل " قال العسكري بمهابة .
- " إذا لم تكن تحتاجه يا موريس ، فأعطني إياه "
- " لا " قالها بعناد " لقد رميته في النيران . لو احتفظت به فلا تلومن إلا نفسك لما سيحدث . اقذفه في النيران مجدداً كرجلٍ عاقل "
هز الآخر رأسه رافضاً ، و تفحص المخلب عن قرب " كيف تفعلها ؟ "
- " امسكها في يدك اليمنى و تمن بصوتٍ عالي .. لكنني أحذرك من العواقب ".
- " تبدو مثل ألف ليلة وليلة " قالت السيدة (وايت) بينما تنهض لإعداد العشاء " ألا تعتقد أن بإمكانك أن تتمنى لي أربعة أزواج من القفازات ؟ "
أخرج الزوج المخلب من جيبه ، ثم انفجر الثلاثة في الضحك بينما أمسكه الرقيب بقوة ، و نظرة انزعاج على وجهه .
- " إذا كان لا بد من التمني ، فتمن شيئا مهماً " قالها بفظاظة .
أعاد السيد (وايت) المخلب لجيبه ، ثم دعى صديقه للمائدة ، و نسوا جميعاً كل شيء عن المخلب أثناء إعداد العشاء .. و بعد العشاء جلس الجميع للاستماع إلي باقي مغامرات موريس في الهند بافتتان .
- " إذا كانت القصة بشأن مخلب القرد مثل باقي الحكايات التي أخبرنا بها " قال (هربرت) لنفسه بينما الباب ينغلق خلف الضيف الذي غادر مبكراً ليلحق بقطاره الأخير " فلن نستفيد منه بأي شيء "
- " هل أعطيته أي شيء مقابل المخلب ؟ " سألت السيدة (وايت) زوجها .
- " بندقية " قال " لم يكن يريدها ، لكنني أصررت ، و قد طلب مني أن أتخلص من المخلب مرة أخرى "
- " لحسن الحظ " قال (هربرت) برعب مصطنع " لِمَ ؟، سنكون أثرياء و مشهورين و سعداء . تمن أن تكون إمبراطوراً يا أبي كبداية ، فلا يمكن لأحد أن يسيطر عليك بعدها "
ثم لف حول المائدة ليقنع السيدة (وايت)
أخذ السيد (وايت) المخلب من جيبه ، و تفحصه بشك ، ثم قال ببطء :
-" لا أعرف ما أريد أن أتمناه ، هذه حقيقة .. أعتقد أن لدي كل ما أريد "
- " لو أنك نظفت المنزل ، فستكون سعيداً ، أليس كذلك ؟ " قال (هربرت) و يده على كتفه " حسناً . تمن مائتي جنيه . هذا سيقضي الغرض "
خاجلاً من سذاجته ، حمل الأب المخلب بينما غمز الابن متظاهراً بالجدية لوالدته ، ثم جلس على البيانو ليؤدي بعض النغمات المؤثرة .
- " أتمنى مائتي جنيه " قال الأب بوضوح .
انطلقت من البيانو نغمة محيية للكلمات ، قوطعت بصرخة مرتعشة من الرجل ، فهرع الابن و الأم نحوه .
- " لقد تحرك " قال و هو يرمق الشيء الملقى على الأرض باشمئزاز " لقد تحرك عندما نطقت الأمنية "
- " حسناً ، لا أرى المال " قال الابن ملتقطاً المخلب ليضعه على الطاولة " و لا أظن أنني سأراه "
- " لابد أنه خيالك يا عزيزي " قالت الأم .
هز رأسه و قال " لا عليكما ، لم يحدث أذى على الأقل "
جلسوا بجانب النيران ثانية بينما ينهي الرجلان الغليون ، و بالخارج كان صوت الريح أعلى من السابق ، و بدا الأب عصبياً مع سماع صوت الباب في الدور العلوي . و استمر الصمت حتى قام الرجلان للنوم .
- " أعتقد أنك ستجد النقود في حقيبة محزومة على سريرك " قال الفتي بعد أن تمنى لهم ليلة سعيدة " و ستجد شيئاً بشعاً يراقبك من أعلى الدولاب بينما تضع النقود الغير مشروعة في جيبك "
جلس الشاب وحيداً في الظلام محدقاً في النيران المحتضرة ، متخيلاً أنه يشاهد وجوهاً فيها . كان الوجه الأخير لقرد بشع حدق فيه بذهول حتى أصبح زاهياً جداً ، فأطلق ضحكة قلقة ، و مد يده للمائدة لكي يمسك بكوب الماء و يلقيه على النيران ، لكن يده أوقعت المخلب . مسح يده في معطفه و ذهب للنوم .
و بينما تدفقت أشعة شمس الشتاء اللامعة حول مائدة الإفطار ، سخر (هربرت) من مخاوفه . كان المخلب المتسخ ملقى على الخزانة بإهمال دلل على عدم إيمان بأهميته .
-" أعتقد أن كل هؤلاء الجنود المسنون متشابهون " قالت السيدة (وايت) " إن فكرة استماعنا إلى هذا الهراء مرعبة ! كيف يمكن للأماني أن تتحقق هذه الأيام ، و لو تحققت ، فما الضرر القادم من مائتي جنيه ؟ "
- " ربما تسقط على رأسه من السماء فتؤذيه " قال الابن مستظرفاً
- " موريس قال أن الأشياء تحدث بشكل طبيعي " قال الأب " حتى أنك قد تعزوها للصدفة "
- " حسناً ، لا تستخدما المال حتى أعود " قال الابن بينما ينهض من على المائدة " أخشى أن تحولك النقود إلى رجل طامع بخيل ، و قد نتبرأ منك "
ضحكت والدته ولاحقته إلى الباب مراقبةً إياه على الطريق ، ثم عادت للمائدة . كانت سعيدة لخيبة آمال زوجها ، و لم تنس أن تشير إلى خرافات الجنود القدامى المتقاعدين المخمورين عندما تلقت فاتورة الخياط .
- " سيكون له المزيد من النكات حول هذا عندما يعود " قالت بينما تعد العشاء .
- " أعتقد هذا " قال الرجل و هو يصب لنفسه بعض البيرة " و لكن برغم كل شيء ، فقد تحرك الشيء في يدي ، أقسم على هذا "
- " لقد توهمت هذا فقط " قالت المرأة مهدأةً إياه
- " أقول لكِ أنه تحرك " كرر الرجل " ليس من وهمٍ بالأمر ، لقد .. ماذا حدث ؟ "
لم تقدم زوجته رداً إذ كانت مشغولة بمراقبة رجل غريب بالخارج يحدق بالمنزل بشكل متردد ، و بدا أنه يفكر في الدخول إليه . فكرت بمائتي جنيه ، لكنها لاحظت أن الرجل لم يكن مهندم الشكل و يرتدي قبعة حريرية ذات لمعة حديثة .
توقف ثلاث مرات أمام البوابة متردداً في الدخول ، ثم تقدم للمرة الرابعة ، و وضع كفه على البوابة ، و فجأة فتحها و خطى للداخل عبر الممر . مدت المرأة يدها خلف ظهرها و فكت حبال مريلة المطبخ ، ثم وضعتها تحت وسادة المقعد . ثم أسرعت تفتح الباب للغريب الذي بدا محرجاً ، و جلبته للحجرة معتذرة عن عدم ترتيبها ، ثم انتظرت أن يطرح ما يريده ، لكنه كان صامتاً .
- " طلب مني المجيء " قال أخيراً ثم توقف متردداً ، و استكمل " أنا مندوب شركة (ماو و ميجينز) "
بادرته المرأة بهلع " هل حدث شيء ؟ " قالت و أنفاسها تتلاحق " هل حدث شيء لهربرت ؟ ماذا حدث ؟ "
قاطعها زوجها " صبراً يا عزيزتي " قال بتعجل " اجلس من فضلك ، و لا تقفز إلى نهايات ، أنت لم تحضر أخباراً سيئة ، أنا متأكد يا سيدي " و تطلع إليه بلهفة .
- " أنا آسف " قال الزائر ..
- " هل تأذى " قالت الأم .
حنى الزائر رأسه في أسف ، و هزها في موافقة " إصابة بالغة " قال بصوت خافت " لكنه لا يشعر بالألم الآن "
- " الحمد لله " قالت الزوجة متنفسة الصعداء " شكراً لله ، شكراً .. "
ثم توقفت فجأة إذ فهمت المعنى المقبض ، و رأت تأكيد مخاوفها الفظيعة في تجنب الغريب لنظراتها . التقطت أنفاسها المتسارعة ، و التفتت لزوجها بطيء الفهم واضعة يدها المرتعشة على يده .
- " لقد أطبقت عليه الآلة " قال الزائر بعد فترة بصوت خفيض .
- " أطبقت عليه الآلة " كرر الأب في ذهول ، ثم التفت إلى النافذة يحدق فيما خارجها بذهول تاركاً يده تضغط يد زوجته كما كان يفعل منذ أربعين عاماً .
- " كان الشيء الوحيد الذي تبقى لنا " قال ملتفتاً نحو الزائر
سعل الزائر ، ثم نهض و تقدم نحو النافذة ببطء " ترغب الشركة في أن أنقل تعاطفهم الصّادق معكم في مصابكم " قال بدون أن يلتفت " أرجو أن تتفهما أنني مجرد خادمهم و علي فقط إطاعة الأوامر "
لم تكن من إجابة ، كان وجهه المرأة شاحباً و كانت تحدق به بينما تحاول التقاط أنفاسها ، و على وجه الزوج كانت نظرة مثل نظرة صديقه الجندي بالأمس .
- " أريد أن أقول أن (ماو و ميجينز) يتنصلان من أي مسئولية " استمر الغريب " ليسوا مسئولين على الإطلاق عما حدث ، لكن نظير خدمات ابنكم يرغبون بتعويضكم بمبلغ معين من المال "
ترك الأب يد زوجته ، و هب واقفاً محدقاً برعب في وجه الزائر ، و بصعوبة خرجت الكلمات من شفتيه الجافتين " كم ؟ "
- " مائتي جنيه " كانت الإجابة
أطلقت الزوجة صرخة بينما رفع الرجل يده بضعف ثم سقط فاقداً الوعي .
المقبرة الضخمة الجديدة على بعد ميلين ، دفنت العائلة المكلومة فقيدها ، و عادا إلى بيت يلفه الصمت و الظلال . تم كل شيء بسرعة بالغة حتى أنهما لم يستطيعا استيعاب ما حدث ، و ظلا في انتظار أن يحدث شيء جديد .. شيء يخفف الحمل القاسي على القلبين العجوزين .
لكن الأيام مرت ، و حل اليأس محل التوقع ، اليأس الذي يطلق عليه أحياناً بطريق الخطأ : الفتور . أحياناً كانا يتبادلان الكلمات بصعوبة ، و الآن لم يعد لديهما ما يتحدثان عنه .. كانت أيامهم طويلة لحد الإرهاق .
بعد أسبوع تقريباً استيقظ الرجل فجأة في منتصف الليل ، و مد يده متحسساً ليجد نفسه وحيداً في السرير . كان صوت البكاء الخافت قادم من جانب النافذة ، فرفع نفسه في السرير و استمع ..
- " أغلقي النافذة " قال بلطف " ستصابين بالبرد "
- " البرد أشد عليه " قالت المرأة ، و بكت من جديد .
تلاشى صوت بكائها من أذنه مرة أخرى . كان السرير دافئاً و عينيه مثقلة بالنعاس ، فنام بشكلٍ متقطع حتى استيقظ على صرخة متوحشة من زوجته .
- المخلب ! " صرخت " مخلب القرد ! " .
- " أين ؟ أين هو ؟ " قال بقلق .
تقدمت نحوه بخطوات مرتعشة " أريده " قالت بخفوت " أنت لم تدمره ، أليس كذلك ؟ "
- " إنه في نفس المكان الذي تركناه فيه " قال بتعجب " لم ؟ "
ضحكت و بكت في نفس الوقت ، و مالت نحوه لتقبله ، ثم بدأت تتحدث بهستيريا ..
- " لم أفكر به سوى الآن .. لِمَ لَم أفكر به من قبل ؟ لماذا لم تفكر به أنت ؟ "
- " أفكر في ماذا ؟ " تساءل
- " الأمنيتان الباقيتان " ردت بسرعة " لقد تمنينا مرة واحدة فقط "
- " ألم يكن هذا كافياً ؟ " قال بوحشية
- " لا " صرخت " سنتمنى مرة أخرى . اذهب و أحضره بسرعة ، و تمن أن يعود ابني حياً "
اعتدل الرجل في الفراش ، و قذف الغطاء من على أطرافه المرتجفة " يا إلهي ، لقد جننت " قال مذهولاً .
- " أحضره " قالت لاهثة " أحضره بسرعة و تمن .. آه ، ولدي .. ولدي ! "
أشعل الرجل ثقاباً ، و أضاء به شمعة " عودي للفراش " قال في غير ثبات " أنت لا تعرفين ما تقولين "
- " لقد تحققت أمنيتنا الأولى " قالت المرأة كالمحمومة " لم لا تتحقق الثانية ؟"
- " مصادفة " رد بارتباك
- " اذهب و أحضره و تمنى أن يعود هربرت " صرخت المرأة و هي ترتعش من البكاء .
استدار الرجل و نظر إليها ، و قال بصوت مرتعش " لقد مات منذ عشرة أيام ، بالإضافة لأنه .. لم أرد إخبارك ، لكن .. لقد تعرفت عليه من ملابسه . إذا كنت لم تقدري على رؤيته بهذا الشكل ، فكيف الآن ؟ "
- " أعده " صرخت المرأة و جرته نحو الباب " هل تظن أنني سأخاف من الطفل الذي مرّضته ؟"
هبط في الظلام ، و تحسس طريقه لغرفة الضيوف ، و من ثم إلى الرف . كان المخلب في مكانه ، و خالجه خوف من الأمنية غير المنطوقة التي ستعيد ابنه المشوه قبل أن يترك الحجرة ، و التقط أنفاسه عندما شعر أنه فقد الإحساس باتجاه الباب . غمر العرق جبينه بينما يتحسس طريقه عبر المائدة ، و يتلمس الحائط حتى وجد نفسه في الممر الصغير باللعنة الصغيرة في يده .
حتى وجه زوجته بدا متغيراً بينما يخطو إلى الحجرة . كان وجهها شاحباً و متطلعاً ، و بدا له أن هناك شيء غير طبيعي بشأنها . كان خائفاً منها .
- " تمن " صرخت بقوة .
- " هذه حماقة .. ليس هذا صحيحاً " قال متداعياً ..
- " تمن " كررت الزوجة .
- " أتمنى أن يعود ابني حياً " قالها رافعاً يده بالشيء .
سقط المخلب على الأرض ، و رمقه الرجل بنظرة مرتعبة . ثم تداعى مرتجفاً على مقعده بينما مشت المرأة و عيناها تلمعان إلى النافذة لترفع الشيش . جلس حتى شعر بالبرد يحيط به ، محدقاً بين الحين و الآخر نحو شكل الزوجة المتطلعة من النافذة . انتهت الشمعة التي احترقت حتى نهايتها ملقية ظلالها النابضة الأخيرة على الجدران ، ثم التمعت لمعة أخيرة قوية ، و انطفأت بعدها تماماً . شعر الرجل براحة خفية لفشل التعويذة ، و دلف للفراش ، و بعد دقيقة أو اثنان انسلت زوجته بجانبه بفتور صامت .
غرقا في صوت الساعة الرتيب ، و لم ينطق أحدهما بحرف . ثم أحدثت درجات السلم صريراً ، و انسل فأر مزعج عبر السور . كان الظلام عميقاً ، و بعد الاستلقاء لمدة ، استجمع الزوج شجاعته ، و أخرج عود ثقاب من العلبة و أشعله ، ثم هبط السلم لإحضار شمعة .
في نهاية السلم انتهى الثقاب ، فتوقف ليشعل آخر ، و في نفس اللحظة تناهى لسمعه صوت طرقة خافتة لا تكاد تسمع على الباب الرئيسي .
سقطت العلبة من يده ، و تجمد في مكانه صامتاً حتى دوت الطرقة من جديد . هرع صاعداً السلم حتى وصل حجرته ، فأغلق الباب خلفه ، ثم دوت طرقة ثالثة عبر البيت .
- " ما هذا " صاحت الزوجة و انتصبت واقفة .
- " فأر " قال الرجل في صوت مرتعش " فأر مر أمامي على درجات السلم "
جلست الزوجة في فراشها منصتة ، و دوت طرقة عالية عبر جدران البيت .
- " إنه ابني " صرخت " إنه ( هربرت ) "
ركضت نحو الباب ، لكن زوجها لحق بها و أمسكها بذراعيه مطوقاً إياها بإحكام .
- " ماذا ستفعلين أيتها الحمقاء " همس في أذنها .
- " إنه ولدي .. إنه ( هربرت ) " صاحت مقاومة إياه " نسيت أنه على بعد ميلين .. لماذا تعوقني ؟ دعني .. يجب أن أفتح الباب "
- " بحق السماء لا تدخليه " صاح الرجل بصوتٍ مرتعش
- "أتخشى ابنك ؟ " صاحت مجاهدة للتحرر منه " دعني .. أنا قادمة يا ( هربرت ) .. أنا قادمة "
دوت طرقة أخرى ، و أخرى . تحررت المرأة أخيراً بالتواءة مفاجئة ، و هرعت عبر الحجرة . لاحقها الزوج حتى الباب منادياً عليها بينما تهرع عبر السلم . سمع جلجلة السلسلة ، و المزلاج السفلي يسحب ببطء نحو النهاية . ثم دوى صوتها متوتراً و لاهثاً .
- " المزلاج " صاحت بصوتٍ عال " تعال ، لا أستطيع الوصول إليه "
لكن زوجها كان منحنياً على يديه و ركبتيه يبحث بوحشية عن المخلب . فقط لو يجده قبل أن يدخل الشيء بالخارج إلى البيت . تردد وابل من الطرقات في أرجاء البيت ، و سمع صوت مقعد يجر بينما زوجته تضع المقعد أمام الباب . سمع صوت المزلاج يقترب من نهايته ، و في نفس اللحظة وجد المخلب ، و بهستيرية همس بأمنيته الثالثة و الأخيرة .
توقف الطرق فجأة و إن ترددت أصداؤه عبر أرجاء البيت ، و سمع صوت المقعد يجر للخلف و الباب يفتح . نسمة باردة فرت عبر الباب أعلى السلم ، و دوت صرخة بائسة عالية و طويلة من زوجته أعطته الشجاعة ليلحق بها حتى البوابة ، حيث مصباح الشارع المتذبذب يسطع بهدوء على طريق هادئ و مهجور
- " أصغيا للريح " قال السيد (وايت) وقد اكتشف خطأً قاتلاً بعد فوات الأوان ، محاولا منع ابنه من ملاحظته .
- " إنني مصغ " قالها الأخير ، ماسحاً الرقعة بينما يمد يديه " كش " .
- " كان ينبغي أن أعرف أنه سيأتي الليلة " قال الأب متوازناً بيديه فوق الرقعة .
- " مات ! " رد الابن .
- " هذه هي أسوء معيشة على الإطلاق " قال السيد (وايت) " من بين كل الأماكن الكريهة الموحلة النائية ، هذا هو الأسوأ . الممر عبارة عن مستنقع و الطريق عبارة عن سيل . لا أعرف ما يفكر الناس بشأنه . أعتقد أنه بسبب تأجير هذين المنزلين على الطريق فهم يفكرون أنه لا مشاكل " .
- " لا تهتم يا عزيزي " قالت زوجته بهدوء " ربما ستكسب المرة القادمة " .
- " ها هو ذا " قال (هربرت) بينما البوابة تغلق بعنف ، و بدا صوت خطوات ثقيلة تقترب من الباب .
هرع الأب ليفتح الباب ، فدخل شخص طويل و بدين ، ذو عينان براقتان و وجه أقرب للحمرة .
- " رقيب أول موريس " قال الأب مقدماً الرجل .
صافحهم الرجل و أخذ مقعداً بجانب النيران ، مراقباً مضيفه بينما يحضر الخمر و كأسين و يضع براد شاي نحاسي صغير في النار .
بعد الكأس الثالث بدت عيناه ألمع ، و بدأ يتكلم . تحلقت العائلة حول هذا الزائر القادم من الأماكن النائية ، بينما تراجع هو بظهره على المقعد و تحدث عن مشاهد غريبة و أفعال شجاعة .. عن حروب و أوبئة و شعوب غريبة .
- " واحد و عشرون عاماً " قال السيد (وايت) لزوجته و ابنه " عندما ذهب كان شاباً يعمل في مستودع . انظرا له الآن "
- " لا يبدو أنه تأذى بشدة " قالت السيدة (وايت) بدماثة .
- " أعتقد أنني أنا شخصياً سأحب الذهاب للهند " قال الرجل العجوز " للسياحة فقط ، أنت تعرف "
- " الأفضل لك أن تظل هنا " قال الرقيب هازاً رأسه . وضع الكأس الفارغ و تنهد بهدوء ، ثم هزها مرة أخرى .
- " سأحب أن أرى المعابد القديمة و المشعوذين " قال الرجل العجوز " ماذا كنت تخبرني بالأمس عن مخلب قرد أو شيء من هذا القبيل ، موريس ؟ "
- " لا شيء " رد باقتضاب " لا شيء يستحق سماعه "
- " مخلب قرد ؟ " تساءلت السيدة (وايت) بفضول .
- " حسناً .. إنه واحد من هذه الأشياء التي يسمونها سحر ، ربما " قال الرقيب .
مال مستمعيه الثلاثة بفضول ، بينما رفع الزائر شارداً الكأس الفارغ لفمه ، ثم أنزله مرة أخرى ، ليملأه مضيفه .
- " انظروا " قال الرقيب عابثاً في جيبه " إنه مجرد مخلب صغير عادي مجفف لمومياء "
أخرج شيئاً من جيبه و عرضه فتراجعت السيدة (وايت) بخوف ، بينما تناوله الابن و تفحصه باهتمام .
- " و ما الشيء الغريب بشأنه ؟ " تساءل السيد (وايت) بينما يتناوله من ابنه ليتفحصه بدوره ، ثم يضعه على المائدة .
- " هناك لعنة صنعها أحد السحرة القدامى " قال الرقيب " ساحر قوي جداً . أراد أن يبين أن القدر يحكم حياة الناس ، و أن من يحاول تغييرها إنما يفعل ليلقى حتفه . فجعله يحقق ثلاث أمنيات لثلاث رجال مختلفين "
كان منفعلاً و هو يتحدث ، فأدرك مستمعوه أنهم آذوه بضحكهم الخافت .
- " حسناً ، و لم لَم تصنع أمنياتك الثلاث يا سيدي ؟ " قال (هربرت) متذاكياً .
آخذاً في الاعتبار كيف يتحدث الشباب باندفاع ، قال موريس بهدوء " لقد فعلت " و شحب وجهه .
- " و هل تحققت الأمنيات ؟ " سألت السيدة .
- " تحققت أماني الرجل الأول " أجاب " لا أعرف عم كانت الأمنية الأولى و الثانية ، الثالثة كانت الموت ، و هكذا حصلت على المخلب "
كانت نبرات صوته قوية واثقة حتى أنهم سكنوا تماماً .
" إذا كنت قد حصلت على أمانيك الثلاثة ، فإنه غير مفيد لك الآن ، موريس " قال الرجل العجوز " فلم تحتفظ به حتى الآن ؟ "
هز العسكري رأسه قائلاً " الولع ربما ! " قال ببطء .
- " إذا كان بإمكانك تمنى ثلاث أمنيات أخرى " قال المضيف مراقباً إياه باهتمام " هل ستتمناها ؟ "
- " لا أعرف " قال الآخر " لا أعرف "
ثم أخذ المخلب بين الإبهام و السبابة ، و فجأة رماه في النيران ، فأطلق المضيف صيحة استنكار ، و انحنى بسرعة لينتزعه من بين النيران .
- " دعه يحترق أفضل " قال العسكري بمهابة .
- " إذا لم تكن تحتاجه يا موريس ، فأعطني إياه "
- " لا " قالها بعناد " لقد رميته في النيران . لو احتفظت به فلا تلومن إلا نفسك لما سيحدث . اقذفه في النيران مجدداً كرجلٍ عاقل "
هز الآخر رأسه رافضاً ، و تفحص المخلب عن قرب " كيف تفعلها ؟ "
- " امسكها في يدك اليمنى و تمن بصوتٍ عالي .. لكنني أحذرك من العواقب ".
- " تبدو مثل ألف ليلة وليلة " قالت السيدة (وايت) بينما تنهض لإعداد العشاء " ألا تعتقد أن بإمكانك أن تتمنى لي أربعة أزواج من القفازات ؟ "
أخرج الزوج المخلب من جيبه ، ثم انفجر الثلاثة في الضحك بينما أمسكه الرقيب بقوة ، و نظرة انزعاج على وجهه .
- " إذا كان لا بد من التمني ، فتمن شيئا مهماً " قالها بفظاظة .
أعاد السيد (وايت) المخلب لجيبه ، ثم دعى صديقه للمائدة ، و نسوا جميعاً كل شيء عن المخلب أثناء إعداد العشاء .. و بعد العشاء جلس الجميع للاستماع إلي باقي مغامرات موريس في الهند بافتتان .
- " إذا كانت القصة بشأن مخلب القرد مثل باقي الحكايات التي أخبرنا بها " قال (هربرت) لنفسه بينما الباب ينغلق خلف الضيف الذي غادر مبكراً ليلحق بقطاره الأخير " فلن نستفيد منه بأي شيء "
- " هل أعطيته أي شيء مقابل المخلب ؟ " سألت السيدة (وايت) زوجها .
- " بندقية " قال " لم يكن يريدها ، لكنني أصررت ، و قد طلب مني أن أتخلص من المخلب مرة أخرى "
- " لحسن الحظ " قال (هربرت) برعب مصطنع " لِمَ ؟، سنكون أثرياء و مشهورين و سعداء . تمن أن تكون إمبراطوراً يا أبي كبداية ، فلا يمكن لأحد أن يسيطر عليك بعدها "
ثم لف حول المائدة ليقنع السيدة (وايت)
أخذ السيد (وايت) المخلب من جيبه ، و تفحصه بشك ، ثم قال ببطء :
-" لا أعرف ما أريد أن أتمناه ، هذه حقيقة .. أعتقد أن لدي كل ما أريد "
- " لو أنك نظفت المنزل ، فستكون سعيداً ، أليس كذلك ؟ " قال (هربرت) و يده على كتفه " حسناً . تمن مائتي جنيه . هذا سيقضي الغرض "
خاجلاً من سذاجته ، حمل الأب المخلب بينما غمز الابن متظاهراً بالجدية لوالدته ، ثم جلس على البيانو ليؤدي بعض النغمات المؤثرة .
- " أتمنى مائتي جنيه " قال الأب بوضوح .
انطلقت من البيانو نغمة محيية للكلمات ، قوطعت بصرخة مرتعشة من الرجل ، فهرع الابن و الأم نحوه .
- " لقد تحرك " قال و هو يرمق الشيء الملقى على الأرض باشمئزاز " لقد تحرك عندما نطقت الأمنية "
- " حسناً ، لا أرى المال " قال الابن ملتقطاً المخلب ليضعه على الطاولة " و لا أظن أنني سأراه "
- " لابد أنه خيالك يا عزيزي " قالت الأم .
هز رأسه و قال " لا عليكما ، لم يحدث أذى على الأقل "
جلسوا بجانب النيران ثانية بينما ينهي الرجلان الغليون ، و بالخارج كان صوت الريح أعلى من السابق ، و بدا الأب عصبياً مع سماع صوت الباب في الدور العلوي . و استمر الصمت حتى قام الرجلان للنوم .
- " أعتقد أنك ستجد النقود في حقيبة محزومة على سريرك " قال الفتي بعد أن تمنى لهم ليلة سعيدة " و ستجد شيئاً بشعاً يراقبك من أعلى الدولاب بينما تضع النقود الغير مشروعة في جيبك "
جلس الشاب وحيداً في الظلام محدقاً في النيران المحتضرة ، متخيلاً أنه يشاهد وجوهاً فيها . كان الوجه الأخير لقرد بشع حدق فيه بذهول حتى أصبح زاهياً جداً ، فأطلق ضحكة قلقة ، و مد يده للمائدة لكي يمسك بكوب الماء و يلقيه على النيران ، لكن يده أوقعت المخلب . مسح يده في معطفه و ذهب للنوم .
و بينما تدفقت أشعة شمس الشتاء اللامعة حول مائدة الإفطار ، سخر (هربرت) من مخاوفه . كان المخلب المتسخ ملقى على الخزانة بإهمال دلل على عدم إيمان بأهميته .
-" أعتقد أن كل هؤلاء الجنود المسنون متشابهون " قالت السيدة (وايت) " إن فكرة استماعنا إلى هذا الهراء مرعبة ! كيف يمكن للأماني أن تتحقق هذه الأيام ، و لو تحققت ، فما الضرر القادم من مائتي جنيه ؟ "
- " ربما تسقط على رأسه من السماء فتؤذيه " قال الابن مستظرفاً
- " موريس قال أن الأشياء تحدث بشكل طبيعي " قال الأب " حتى أنك قد تعزوها للصدفة "
- " حسناً ، لا تستخدما المال حتى أعود " قال الابن بينما ينهض من على المائدة " أخشى أن تحولك النقود إلى رجل طامع بخيل ، و قد نتبرأ منك "
ضحكت والدته ولاحقته إلى الباب مراقبةً إياه على الطريق ، ثم عادت للمائدة . كانت سعيدة لخيبة آمال زوجها ، و لم تنس أن تشير إلى خرافات الجنود القدامى المتقاعدين المخمورين عندما تلقت فاتورة الخياط .
- " سيكون له المزيد من النكات حول هذا عندما يعود " قالت بينما تعد العشاء .
- " أعتقد هذا " قال الرجل و هو يصب لنفسه بعض البيرة " و لكن برغم كل شيء ، فقد تحرك الشيء في يدي ، أقسم على هذا "
- " لقد توهمت هذا فقط " قالت المرأة مهدأةً إياه
- " أقول لكِ أنه تحرك " كرر الرجل " ليس من وهمٍ بالأمر ، لقد .. ماذا حدث ؟ "
لم تقدم زوجته رداً إذ كانت مشغولة بمراقبة رجل غريب بالخارج يحدق بالمنزل بشكل متردد ، و بدا أنه يفكر في الدخول إليه . فكرت بمائتي جنيه ، لكنها لاحظت أن الرجل لم يكن مهندم الشكل و يرتدي قبعة حريرية ذات لمعة حديثة .
توقف ثلاث مرات أمام البوابة متردداً في الدخول ، ثم تقدم للمرة الرابعة ، و وضع كفه على البوابة ، و فجأة فتحها و خطى للداخل عبر الممر . مدت المرأة يدها خلف ظهرها و فكت حبال مريلة المطبخ ، ثم وضعتها تحت وسادة المقعد . ثم أسرعت تفتح الباب للغريب الذي بدا محرجاً ، و جلبته للحجرة معتذرة عن عدم ترتيبها ، ثم انتظرت أن يطرح ما يريده ، لكنه كان صامتاً .
- " طلب مني المجيء " قال أخيراً ثم توقف متردداً ، و استكمل " أنا مندوب شركة (ماو و ميجينز) "
بادرته المرأة بهلع " هل حدث شيء ؟ " قالت و أنفاسها تتلاحق " هل حدث شيء لهربرت ؟ ماذا حدث ؟ "
قاطعها زوجها " صبراً يا عزيزتي " قال بتعجل " اجلس من فضلك ، و لا تقفز إلى نهايات ، أنت لم تحضر أخباراً سيئة ، أنا متأكد يا سيدي " و تطلع إليه بلهفة .
- " أنا آسف " قال الزائر ..
- " هل تأذى " قالت الأم .
حنى الزائر رأسه في أسف ، و هزها في موافقة " إصابة بالغة " قال بصوت خافت " لكنه لا يشعر بالألم الآن "
- " الحمد لله " قالت الزوجة متنفسة الصعداء " شكراً لله ، شكراً .. "
ثم توقفت فجأة إذ فهمت المعنى المقبض ، و رأت تأكيد مخاوفها الفظيعة في تجنب الغريب لنظراتها . التقطت أنفاسها المتسارعة ، و التفتت لزوجها بطيء الفهم واضعة يدها المرتعشة على يده .
- " لقد أطبقت عليه الآلة " قال الزائر بعد فترة بصوت خفيض .
- " أطبقت عليه الآلة " كرر الأب في ذهول ، ثم التفت إلى النافذة يحدق فيما خارجها بذهول تاركاً يده تضغط يد زوجته كما كان يفعل منذ أربعين عاماً .
- " كان الشيء الوحيد الذي تبقى لنا " قال ملتفتاً نحو الزائر
سعل الزائر ، ثم نهض و تقدم نحو النافذة ببطء " ترغب الشركة في أن أنقل تعاطفهم الصّادق معكم في مصابكم " قال بدون أن يلتفت " أرجو أن تتفهما أنني مجرد خادمهم و علي فقط إطاعة الأوامر "
لم تكن من إجابة ، كان وجهه المرأة شاحباً و كانت تحدق به بينما تحاول التقاط أنفاسها ، و على وجه الزوج كانت نظرة مثل نظرة صديقه الجندي بالأمس .
- " أريد أن أقول أن (ماو و ميجينز) يتنصلان من أي مسئولية " استمر الغريب " ليسوا مسئولين على الإطلاق عما حدث ، لكن نظير خدمات ابنكم يرغبون بتعويضكم بمبلغ معين من المال "
ترك الأب يد زوجته ، و هب واقفاً محدقاً برعب في وجه الزائر ، و بصعوبة خرجت الكلمات من شفتيه الجافتين " كم ؟ "
- " مائتي جنيه " كانت الإجابة
أطلقت الزوجة صرخة بينما رفع الرجل يده بضعف ثم سقط فاقداً الوعي .
المقبرة الضخمة الجديدة على بعد ميلين ، دفنت العائلة المكلومة فقيدها ، و عادا إلى بيت يلفه الصمت و الظلال . تم كل شيء بسرعة بالغة حتى أنهما لم يستطيعا استيعاب ما حدث ، و ظلا في انتظار أن يحدث شيء جديد .. شيء يخفف الحمل القاسي على القلبين العجوزين .
لكن الأيام مرت ، و حل اليأس محل التوقع ، اليأس الذي يطلق عليه أحياناً بطريق الخطأ : الفتور . أحياناً كانا يتبادلان الكلمات بصعوبة ، و الآن لم يعد لديهما ما يتحدثان عنه .. كانت أيامهم طويلة لحد الإرهاق .
بعد أسبوع تقريباً استيقظ الرجل فجأة في منتصف الليل ، و مد يده متحسساً ليجد نفسه وحيداً في السرير . كان صوت البكاء الخافت قادم من جانب النافذة ، فرفع نفسه في السرير و استمع ..
- " أغلقي النافذة " قال بلطف " ستصابين بالبرد "
- " البرد أشد عليه " قالت المرأة ، و بكت من جديد .
تلاشى صوت بكائها من أذنه مرة أخرى . كان السرير دافئاً و عينيه مثقلة بالنعاس ، فنام بشكلٍ متقطع حتى استيقظ على صرخة متوحشة من زوجته .
- المخلب ! " صرخت " مخلب القرد ! " .
- " أين ؟ أين هو ؟ " قال بقلق .
تقدمت نحوه بخطوات مرتعشة " أريده " قالت بخفوت " أنت لم تدمره ، أليس كذلك ؟ "
- " إنه في نفس المكان الذي تركناه فيه " قال بتعجب " لم ؟ "
ضحكت و بكت في نفس الوقت ، و مالت نحوه لتقبله ، ثم بدأت تتحدث بهستيريا ..
- " لم أفكر به سوى الآن .. لِمَ لَم أفكر به من قبل ؟ لماذا لم تفكر به أنت ؟ "
- " أفكر في ماذا ؟ " تساءل
- " الأمنيتان الباقيتان " ردت بسرعة " لقد تمنينا مرة واحدة فقط "
- " ألم يكن هذا كافياً ؟ " قال بوحشية
- " لا " صرخت " سنتمنى مرة أخرى . اذهب و أحضره بسرعة ، و تمن أن يعود ابني حياً "
اعتدل الرجل في الفراش ، و قذف الغطاء من على أطرافه المرتجفة " يا إلهي ، لقد جننت " قال مذهولاً .
- " أحضره " قالت لاهثة " أحضره بسرعة و تمن .. آه ، ولدي .. ولدي ! "
أشعل الرجل ثقاباً ، و أضاء به شمعة " عودي للفراش " قال في غير ثبات " أنت لا تعرفين ما تقولين "
- " لقد تحققت أمنيتنا الأولى " قالت المرأة كالمحمومة " لم لا تتحقق الثانية ؟"
- " مصادفة " رد بارتباك
- " اذهب و أحضره و تمنى أن يعود هربرت " صرخت المرأة و هي ترتعش من البكاء .
استدار الرجل و نظر إليها ، و قال بصوت مرتعش " لقد مات منذ عشرة أيام ، بالإضافة لأنه .. لم أرد إخبارك ، لكن .. لقد تعرفت عليه من ملابسه . إذا كنت لم تقدري على رؤيته بهذا الشكل ، فكيف الآن ؟ "
- " أعده " صرخت المرأة و جرته نحو الباب " هل تظن أنني سأخاف من الطفل الذي مرّضته ؟"
هبط في الظلام ، و تحسس طريقه لغرفة الضيوف ، و من ثم إلى الرف . كان المخلب في مكانه ، و خالجه خوف من الأمنية غير المنطوقة التي ستعيد ابنه المشوه قبل أن يترك الحجرة ، و التقط أنفاسه عندما شعر أنه فقد الإحساس باتجاه الباب . غمر العرق جبينه بينما يتحسس طريقه عبر المائدة ، و يتلمس الحائط حتى وجد نفسه في الممر الصغير باللعنة الصغيرة في يده .
حتى وجه زوجته بدا متغيراً بينما يخطو إلى الحجرة . كان وجهها شاحباً و متطلعاً ، و بدا له أن هناك شيء غير طبيعي بشأنها . كان خائفاً منها .
- " تمن " صرخت بقوة .
- " هذه حماقة .. ليس هذا صحيحاً " قال متداعياً ..
- " تمن " كررت الزوجة .
- " أتمنى أن يعود ابني حياً " قالها رافعاً يده بالشيء .
سقط المخلب على الأرض ، و رمقه الرجل بنظرة مرتعبة . ثم تداعى مرتجفاً على مقعده بينما مشت المرأة و عيناها تلمعان إلى النافذة لترفع الشيش . جلس حتى شعر بالبرد يحيط به ، محدقاً بين الحين و الآخر نحو شكل الزوجة المتطلعة من النافذة . انتهت الشمعة التي احترقت حتى نهايتها ملقية ظلالها النابضة الأخيرة على الجدران ، ثم التمعت لمعة أخيرة قوية ، و انطفأت بعدها تماماً . شعر الرجل براحة خفية لفشل التعويذة ، و دلف للفراش ، و بعد دقيقة أو اثنان انسلت زوجته بجانبه بفتور صامت .
غرقا في صوت الساعة الرتيب ، و لم ينطق أحدهما بحرف . ثم أحدثت درجات السلم صريراً ، و انسل فأر مزعج عبر السور . كان الظلام عميقاً ، و بعد الاستلقاء لمدة ، استجمع الزوج شجاعته ، و أخرج عود ثقاب من العلبة و أشعله ، ثم هبط السلم لإحضار شمعة .
في نهاية السلم انتهى الثقاب ، فتوقف ليشعل آخر ، و في نفس اللحظة تناهى لسمعه صوت طرقة خافتة لا تكاد تسمع على الباب الرئيسي .
سقطت العلبة من يده ، و تجمد في مكانه صامتاً حتى دوت الطرقة من جديد . هرع صاعداً السلم حتى وصل حجرته ، فأغلق الباب خلفه ، ثم دوت طرقة ثالثة عبر البيت .
- " ما هذا " صاحت الزوجة و انتصبت واقفة .
- " فأر " قال الرجل في صوت مرتعش " فأر مر أمامي على درجات السلم "
جلست الزوجة في فراشها منصتة ، و دوت طرقة عالية عبر جدران البيت .
- " إنه ابني " صرخت " إنه ( هربرت ) "
ركضت نحو الباب ، لكن زوجها لحق بها و أمسكها بذراعيه مطوقاً إياها بإحكام .
- " ماذا ستفعلين أيتها الحمقاء " همس في أذنها .
- " إنه ولدي .. إنه ( هربرت ) " صاحت مقاومة إياه " نسيت أنه على بعد ميلين .. لماذا تعوقني ؟ دعني .. يجب أن أفتح الباب "
- " بحق السماء لا تدخليه " صاح الرجل بصوتٍ مرتعش
- "أتخشى ابنك ؟ " صاحت مجاهدة للتحرر منه " دعني .. أنا قادمة يا ( هربرت ) .. أنا قادمة "
دوت طرقة أخرى ، و أخرى . تحررت المرأة أخيراً بالتواءة مفاجئة ، و هرعت عبر الحجرة . لاحقها الزوج حتى الباب منادياً عليها بينما تهرع عبر السلم . سمع جلجلة السلسلة ، و المزلاج السفلي يسحب ببطء نحو النهاية . ثم دوى صوتها متوتراً و لاهثاً .
- " المزلاج " صاحت بصوتٍ عال " تعال ، لا أستطيع الوصول إليه "
لكن زوجها كان منحنياً على يديه و ركبتيه يبحث بوحشية عن المخلب . فقط لو يجده قبل أن يدخل الشيء بالخارج إلى البيت . تردد وابل من الطرقات في أرجاء البيت ، و سمع صوت مقعد يجر بينما زوجته تضع المقعد أمام الباب . سمع صوت المزلاج يقترب من نهايته ، و في نفس اللحظة وجد المخلب ، و بهستيرية همس بأمنيته الثالثة و الأخيرة .
توقف الطرق فجأة و إن ترددت أصداؤه عبر أرجاء البيت ، و سمع صوت المقعد يجر للخلف و الباب يفتح . نسمة باردة فرت عبر الباب أعلى السلم ، و دوت صرخة بائسة عالية و طويلة من زوجته أعطته الشجاعة ليلحق بها حتى البوابة ، حيث مصباح الشارع المتذبذب يسطع بهدوء على طريق هادئ و مهجور